توثيقي للفن السوداني

مبدع من الزمن الجميل

سليمان عبد الله حمد

" الموسيقار بشير عباس " رمز الموسيقي السودانية الخالد "

في مسائل الغناء تختلف الأذواق ، ولكن لا يتجادل اثنان في أن الموسيقار بشير عباس يقف في مقدمة رموز الموسيقي السودانية ، ولو كان القدر قد جعل منه ملحناً ومغنياً في آن واحد مثل محمد وردي ومحمد الأمين وأبو عركي لصار منافساً لهم في القمة ، غير أن قدره أن يتقدم الاوركسترا والتي تدرب عليها منذ 1959 حينما أصبح سكرتيراً لأوركسترا الإذاعة ، حيث آنذاك هو حلقة الوصل بين الفنانين وشعبة التسجيل الموسيقي.

وقد أهداه والده (صفارة) من الأبنوس شكلت الأداة لمواصلة هذه العذوبة من الألحان التي أداها الفنان المبدع عبد العزيز محمد داؤود وحسن عطية وزيدان والبلابل ، هذا بغير تشذيبه لكثير من الألحان عبر ما كان يسمى بالسمكرة الفنية حيث يعدل ويقترح المقدمات الموسيقية ومتن اللحن كما شأن لمساته الساحرة في مقدمة (الطير المهاجر) وفي بعض الأناشيد الأكتوبرية التي غناها المبدع الراحل وردي 0

وما قبل ذلك ا لتعاون مع هؤلاء الرهط من الفنانين جلس لأبنه عمه الأستاذة أسماء حمزة وهي أول ملحنه سودانية وتدرب على يديها أسرار العود الذي كانت تجيد العزف عليه ولا يزال موجوداً حتى الآن بمنزل الأسرة بالحلفايا (حي من أحياء مدينة بحري) ، ولعل هذه الأسرة الفنية تمددت لتشمل بعض المبدعين حيث من ضمن أعضائها الملحن والمغني ضياء الدين ميرغني وكذلك الكاريكتير سامي المك كما أن أختاً لبشير تحفظ المئات من الأغاني التي تؤديها في احتفالات الأسرة 0

وبرغم أن هناك ارتباطاً يصعب فكه بين بشير عباس والبلابل اللائي أكشتفن بواسطته إلا أن لموسيقارنا العتيق حق الريادة في الموسيقي البحتة وكثيرون لا يعرفون أن بداية موهبته الحقيقية تفتقت من خلال النغمات الشجية التي ألفها قبل دخوله الإذاعة السودانية حيث قدم مقطوعتى (أمي و نهر الجور) اللتين ثبتتا أقدامه ، والواقع أن هذا الضرب من الإبداع برع فيه بشير وساعدته امكاناته الخرافية في التعامل مع العود وربما يضع الدارسون للموسيقي بشير عباس وبرعي محمد دفع الله ومحمد الأمين من أفضل من عزفوا العود في السودان وكذلك أبو عركي البخيت الذي غطت اهتماماته بتقديم أعماله عبر الاوركسترا على إبراز قدراته في خفه ريشته جاء المبدع عوض أحمودي ليخلق منزلته كعازف ماهر لا يقل شأنا عن كل الذين سبقوه في مضمار فني يصعب خوضه 0

وإذ يقف رواد الموسيقى البحته الفنانون أدهم وجمعة جابر والخواض والماحي إسماعيل وحمزة علاء الدين وعلاء الدين حمزة وبرعي محمد دفع الله وبدر الدين عجاج وحافظ عبد الرحمن مختار والدكتور الفاتح حسين ، إلا ما يميز المحلنين بشير عباس وبرعي محمد دفع الله ثراء الانتاج الفني وتمحور تجديدهما في إطار الموروث ولم يسعيا للخروج عن الميلودية السودانية بدعوى التجريب ، وتقف أعمال بشير الموسيقية كشواهد حية على إبداعيتها العالية ، وعلى الرغم من أن تواضع بشير الزائد في عدم تقديم عازف عود عليه من أولئك العمالقة الذين ذكرنا إلا أن هناك تشابهات كبيرة في تاريخه الفني مع برعي ، فما دام الموسيقار برعي قد خبأ معظم ألحانه في الصوت المتميز لأبي داؤود فإن معظم الألحان التي قدمها بشير كانت من نصيب البلابل ، وكلاهما قادا الاوركسترا وتفرغا ردحاً لفرقة الإذاعة والتي كان من الصعب الحصول على عضويتها 0

كما أن لديهما العشرات من المقطوعات الموسيقية التي كان البرامجيون يتناوبون في تقديمها في الإذاعة والتلفزيون ولو أن هناك بعض الموسيقيين ممن يقارنون بين الموهبة الفطرية للاثنين ويحاولون تفضيل واحدة على أخرى فإنني أرى أن لكل منهما ميزات تخص سواء في مستوى الألحان التي أداها المطربون أو الأسلوب الذي به يحاول كل منهما امتاع الجمهور ، والحقيقة أن المقارنة بين بشير وبرعي تبدو مثل المقارنة من أجل التفضيل بين دور حسن عطية وأحمد المصطفي في تطوير الغناء أو بين أبو داؤود وعثمان حسين 0

بجانب بشير عباس نجد الموسيقار حافظ عبد الرحمن الذي استخدم ذكاء خارقاً ليعيش على موسيقاه البحته ويسجل حضوراً داخلياً وخارجياً عزز إمكانية الدفع بثقافة الاهتمام بالنعمة الحافية ، ولو لا التوقف القسري لفرقة السمندل لجذرت نفسها كفتح معزز لتيار المؤلفين الموسيقيين الذي حاول  ليجعل تذوق الموسيقي البحته منافساً إن لم يكن مرادافاً لتذوق الكلمة الممموسقة ، وكلنا نذكر القبول الحسن الذي لاقته تلك الفرقة والإضافات التي قدمتها في تقديم الفلكلور الموسيقي واستخدام العلوم الحديثة في توزيع بعض ألحان الفنانين الكبار 0

وقد ينبس قائل إنه سيأتي اليوم الذي ترتقي فيه عملية التلقي الموسيقي ومن ثم يجد موسيقي باهر مثل بشير عباس مكاناً علياً يستحقه ووضعاً مادياً معتبراً قد يفرغه للتأليف وإقامة مركز لتعليم العود  كما قد يتصور المرء  وبذل معارفه للمهتمين بأن يقدم وصاياه العشر حول كيفية استنباط اللحن الخالد ، خصوصاً وان الأغنية السودانية تعاني اليوم نضوباً خطيراً في الألحان واجتراراً للماضي الغنائي يهدد استمرارها كمعطى ثقافي هو أكثر شيء يميز إبداعنا الغنائي بين العالمين 0

وظني أن غياب دور الملحن المحترف هو السبب في هذا الضمور اللحن فضلاً عن هذا فإن توفر موهبه الفنان / الملحن في هذا الجيل أصبح من النوادر على الرغم من جمال الأصوات وتميزها وقد تميز الجيل السابق من الفنانون بالتلحين لأنفسهم فوقاً عن ذلك كانت جديتهم تمنعهم من التسرع لتقديم الأعمال الفنية التي تغيب فيها أسباب الإضافة للموروث النغمي 0

صحيح ان تفضلاً إنسانياً ووطنياً لتبني المغنيين لا يزال ملقياً على عاتق الأستاذ بشير عباس وعمر الشاعر وهم من تسمح لهم سنهم أكثر من غيرهم بملاحقة الأصوات المتميزة لهذا الجيل ولكن من متابعات المرء للأصوات الجديدة يتضح أن معظمهم يفضلون فقط نبش أغاني الماضي وإنتاج ألبومات أكثر من المحافظة على ملكاتهم غير المذكورة وتوجيهها نحو الطريق السليم بالصبر الدؤوب المرتجى للكلمة الجديدة واللحن الشجي ، كما كان يفعل الفنانون في الماضي ، وفي حال كهذا يبقى على بشير عباس وود الحاوي مثلاً أن يركزا على البحث عن أصوات جميلة مغمورة لم تستسهل بعد أمر الغناء كما كان شأنه مع بنات طلسم البلابل 0

صحيح أن الغربة قد أبعدت الموسيقار بشير عباس عقوداً من مواصلة ما بدأه من إنتاج كثيف حتى منتصف الثمانينيات ، ولكني أعتقد أن استقراره في البلد يعتبر عاملاً أساسياً لاستئناف تجربته اللحنية والموسيقية ، وأن الظروف الآن تسمح له باختيار عازفين مهرة يشكلون فرقة ماسية تقدم مقطوعاته بتوزيع جديد حتى يضاعف من جهد الذين حملوا مشعل الموسيقي البحتة ، خصوصاً الموسيقار المبدع حافظ عبد الرحمن لقت رواجاً وفتحت مجالاً مشجعاً للموسيقي البحتة 0

وما دام أن تكريم الموسيقار بشير عباس سيتم في مارس القادم فإننا نأمل أن يجيء دلالة تكريم لرواد الموسيقي واللحن في شخصه ثم تكريماً له كرائد ثقافي واجتماعي تتجاوز تجربته مع البلابل الدلالة الإبداعية 0

وإذ يغدو من الأهم التوثيق لفنان رائد مثل بشير في زمن التقنيات الصوتية وتطور تجربة التطور التوزيع الاوركسترالي في السودان من خلال ذوق جديد لموسيقيين يمتازون برهافة الحس في إعطاء الآلات الموسيقية مكانها في بنية اللحن ، فإننا نتوق لليوم الذي نجد فيه ألبومات خاصة بالموسيقار ، وأتوقع أن أعظم هدية يقدمها للجمهور في يوم تكريمه جعل انتاجه الموسيقي متوافراً وليس ذلك بالشيء البعيد المنال فشركات الإنتاج الفني يمكن ان تسهم في تمويل هذا العمل ما دام أن أرضية للنجاح في التوزيع قد تمت لموسيقيين يقدمون الموسيقى البحتة 0

سوف يكون لنا لقاء آخر مع مبدع وزمن من الفن السوداني الأصيل في الأيام القادمات... مع صادق مودتى حتى يحين اللقاء مع مبدع وزمن من بلادي...