اللوحة الإعلانية في شارع مكة

دارسة حالة في علم الجمال الإعلاني

د. عزت السيد أحمد

الدراسة فصل من كتابي علم الجمال الإعلاني الصادر عن دار حدوس وإشراقات عام 2013م

مقدمة 

الحالة المدروسة هي اللوحات الإعلانيَّة في شارع مكَّة بعمان( ). تَمَّ رصد اللوحات الإعلانية في الشَّارع كله وتصوير بنحو ثلاثمئة صورة. تحاشياً للتكرار والإطالة في دراسة الحالة تَمَّ تقسيم اللوحات الإعلانيَّة إلىٰ نماذج موضوعات أخذنا من كلِّ أنموذجٍ عينةً. كان لدينا سبع عشرة حالة أو أنموذج لموضوعات إعلانيَّة مختلفةٍ. وسيتمُّ النَّظر إلىٰ هٰذه الحالات من خلال معايير الدراسة من زوايتين؛ زاوية الرؤية النَّهارية وزاوية الرؤية الليلية لتباين وضعية اللوحة الإعلانية ما بَيْنَ الليل والنَّهار.

معايير الدِّراسة التي التي سنحتكم اللوحة الإعلانية من خلالها هي التي تم الحديث فيها في الفصول السابقة لتأسيس قاعدة الرؤية والتحليل من خلال العناصر المذكورة المتمثلة بالرَّمزية والتعبيرية، والإدراك البصري، والرؤية والخصائص المادية، والخداع البصري أو ما يمكن تسميته التَّأثير الَّنفسي للأشكال في المتلقي، وتطبيقات اللون وعلاقته باللوحات الإعلانيَّة والانسجام والتَّباين، والعامل الإنساني، وتطبيقات وتأثير الإضاءة الطَّبيعية والصِّناعية، والمقاييس، وموقعها من الهندسة العمرانية للمكان، وعناصر اللوحة الإعلانيَّة، وتحليل عناصر اللوحة الإعلانية من الخط والزخرفة والتأثير...

هٰذه العناصر عناصر تفصيليَّة للمعايير كان من الضَّروري الفصل بينها من أجل التَّفصيل فيها. ولٰكنَّ العمل بها في قراءة العينة المدروسة وتحليها لن يكون من خلال التَّفصيل ذاته لأننا هناك أمام تأطير تفصيلي تبويبي وهنا أمام تطبيق جمالي يستحيل إخضاعه للقوننة الرياضية التي يمكن بها تفصيل عناصر موضوع ما، أو منهج ما. علىٰ أيِّ ستغطي القراءة التَّحليلية كلَّ هٰذه العناصر وتراعيها، ولٰكن بطريقةٍ جديدةٍ وتبويبٍ مختلف تقتضيه الدِّراسة ومادة الدِّراسة والعينة المدروسة. وذۤلكَ لأسباب ثلاثة:

الأول: هو أنَّ الفصل والتَّمييز بَيْنَ هٰذه المعايير فصلٌ نظريٌّ منهجيٌّ لا أكثر، تقتضيه الدِّراسة والرؤية المنهجيَّة السَّابقة علىٰ التَّطبيق العمليِّ أو التًّحليلي.

الثاني: هو أنَّ هٰذه المعايير متداخلةٌ متشابكةٌ يصعب الفصل بينها من النَّاحية التَّطبيقيَّة، فعند تحليل أيِّ لوحةٍ أو مجموعة لوحات علىٰ ضوء عنصرٍ منها لا بُدَّ أن يدخل عنصر آخر أو أكثر أو رُبَّما عدَّة عناصر في عملية التَّحليل بالضَّرورة.

الثالث: أنَّ تحليل مادَّة البحث لوحةً لوحةً علىٰ أساس هٰذه المعايير أمرٌ سيطول بنا كثيراً وسيحتاج رُبَّما إلىٰ مئات الصَّفحات، وسيكون معظمها تكراراً لا قيمة له ولا فائدة من تكراره.

وعلىٰ هٰذا الأساس كانت الرؤية الأفضل لجمع هٰذه العناصر في عملية التَّحليل أن نقرأ العينة المدروسة من اللوحات من خلال جملة عناصر تحاول قدر المستطاع أن تجمع معايير التَّحليل بطريقةٍ مناسبة، فكانت لدينا المداخل التَّالية: المزاوجة العربيَّة اللاتينية، الحضور الفني في الخط العربي، بنية اللوحة الإعلانيَّة، العلاقات اللونية، المؤثرات الضوئيَّة، بَيْنَ الاسم والمعنى.

المزاوجة العربية اللاتينية

قبل الدُّخول في الخطوط العربيَّة لا بُدَّ من الإشارة إلىٰ ظاهرةٍ تكادُ تكونُ شاملةً في اللوحات الإعلانيَّة في العينة المختارة وغيرها مما تمَّ رصده. هٰذه الظَّاهرة هي اقتران اللوحات كلُّها باللغة اللاتينة مختلف مستويات الاقتران. الغالبية العظمىٰ منها اقتراني ثنائيٌّ متماثل، أي تجد العنوان بالعربيِّ واللاتيني معاً علىٰ نحو متكافئٍ نوعاً ما. وما تبقى مقترنٌ باللاتينيَّة بطريقةٍ أو بأخرى بحالاتٍ يصعب حصرها، منها جزءٌ بالعربيِّ والجزءُ المكمل باللاتيني، ومنها شروحات أو تعليقات باللاتيني وغير ذۤلكَ. استثناءات نادرةٌ يغيبُ فيها هٰذا الاقتران في عنوان اللوحة الإعلانيَّة، ولٰكن تعود اللاتينية للظهور علىٰ واجة الحالة أي المحل بطريقة أو بأُخْرَىٰ.

المسألة ليست مسألة تعصُّبٍ ولا قبول ولا رفضٍ. المسألة مسألة محاولة فهم. لماذا هٰذا الاقتران والانتشار الكبير؟ ما دواعية وما أسبابه؟

إنَّ النَّاظر إلىٰ هٰذه الاقترانيَّة يتوقع، علىٰ الأقل، أنَّ الأجانب علىٰ قدم المساوة في الحضور مع العربية في هٰذا الشارع. في بعض المدن العربيَّة الأجانب أكثر من العرب، الأمر ممكن. هناك تجد ما يسوِّغ أن تجد اللوحات الإعلانيَّة باللاتينيَّة بغضِّ النِّظر عن القبول أو الرَّفض. هل شارع مكَّة أو عمَّان كذۤلكَ؟

هل استخدام اللغة الإنكليزيَّة أو الحرف اللاتيني من أجل التزيين مثلاً أم من أجل الزبون؟

إن كان من أجل الزبون فهو وهمٌ لا حقيقة له. إن درجة حضور الخطِّ اللاتيني والعناوين اللاتينيَّة في اللوحات الإعلانيَّة يوحي بأنَّ الزَّبائن الأجانب أكثر من الزبائن العرب في هٰذا المكان، وهٰذا غير صحيحٍ علىٰ الإطلاق، بالكاد تجد عابراً أجنبيًّا في هٰذا الشَّارع أو المكان.

وإذا كان من أجل الزِّينة فالسؤال الذي يجب أن أسأله لما الزينة بهٰذا الحرف اللاتيني؟

هل ضاقت فنون الرسم والزَّخرفة الإسلاميَّة والتزيين الإسلاميِّ عن تزيين هٰذه اللوحات الإعلانيَّة حَتَّىٰ يتمَّ اللجوء إلىٰ الحرف اللاتيني؟

إذا درنا أوروبا كلَّها وأمريكا كلَّها هل يمكن أن نجد هٰذه الازدواجيَّة والمزاوجة بَيْنَ الخطِّ اللاتيني والخط العربيِّ في شوارعهم أو أيِّ شارع من شوارعهم حَتَّىٰ الشَّوارع والأحياء ذات الأغلبيَّة العربيَّة؟ 

المسألة خطيرة وليست لعبةً علىٰ الإطلاق، ولا علاقة لها بالتعصب الانتمائي، ولا مبالغة في الطَّرح ولا التَّصوير. الظَّاهرة خطيرةٌ ولها آثار نفسيَّة لا تظهر مفاعليها بَيْنَ عشيَّةٍ وضحاها. تظهر بالتَّراكميَّة التَّدرجيَّة في الهويَّة الانتمائيَّة المتخلخلة المشوَّهة التي ستقود في نهاية الأمر إلىٰ نتائج خطيرة علىٰ مجتمع الدَّولة كلِّه وليس علىٰ الأشخاص فقط

إنَّ استخدام الحرف اللاتيني في الإعلانات واللوحات الإعلانيَّة أصلاً دليلٌ تشتُّت في الهويَّة، وضياع، دليل قلقلةٍ في الانتماء وانعدام الشُّعور الانتمائيِّ إلىٰ حدٍّ كبيرٍ. أؤكِّد أنَّهَا دليل تقلقل انتماء لأنَّها ظاهرة عامَّةٌ شاملةٌ وليست ممارسةً فرديَّةً أو عابرةً في نسبة ضئيلةٍ اللوحات الإعلانيَّة. وليس هٰذا فحسب، بل إنَّ انتشارها بهٰذه الطَّريقة لا يقتصر أن يكون تعبيراً صارخاً عن تخلخل الشُّعور بالانتماء إلىٰ الهويَّة العربيَّة وإنَّما يتعدَّاها إلىٰ فرض هٰذا التَّشتت والتَّخلخل والقلق الانتمائي إلىٰ البيئة المحيطة الثَّابتة، وجمهور المتلقين العابر. وتزداد الازدواجيَّة صراخةً أكثر في شارع اسمه شارع مكَّة المليئ بالدَّلالة الروحانيَّة المتغلغلة في الوجدان العربيِّ والإسلاميِّ. إنَّ محض أن يكون اسم الشَّارع شارع مكة يفرض جملة من الدَّلالات الإيحائيَّة علىٰ كلِّ من يرتاد الشَّارع ارتياداً عابراً أو متواصلاً. فإذا كان هٰذا التَّناقض والبعد عن القيم الإسلاميَّة هو السِّمة الملازمة لبنية هٰذا الشَّارع بالمجمل فإنه سيمارس تأثيراً سلبيًّا صارخاً علىٰ جمور المتلقين الذين هم الزبائن والعابرون، ويولِّد تدريجيًّا انطباعاتٍ سلبيَّةً وسيئةً تترسَّخ في النَّفس عن الاقتران الإسلاميِّ لمكَّة والرُّموز الإسلاميَّة الأُخْرَىٰ، لتَّغدو الرُّموز الإسلاميَّة في النَّتيجة محض معالم خاليةٍ من القيمة في الحدِّ الأحسن من التَّوقُّع، ورُبَّما يكون الاقتران أبعد غوراً من ذۤلكَ إذ تتحوَّل الرُّموز الإسلاميَّة إلىٰ رموز سطحيَّة ودنيويَّة في آن معاً. ويتعزَّز ذۤلكَ أكثر إذا ما تذكرنا ما لاحظناه من وجود محلات المشروبات الروحية!! قد لا يكون لديك اعتراض علىٰ وجود محلات المشروبات الروحية في المبدأ، ولٰكنَّ أن تكون دكان جزء من مسجد فتلك تثير علامات هجنة أكبر من أن تسمح لك بالمرور العابر من أمامها... وأن تكون في شارع مكة فالمسألة لا تختلف أبداً عن أن تكون في دكان هو جزء من مسجد، لما لاسم مكة من رمزية دينية وقدسية في الذِّهنيَّة العربيَّة والإسلاميَّة.

وستكون المفارقة في هٰذه الحالة المشاهدة في شارع مكة مثيرةً للدَّهشة أكثر. لنلاحظ جيِّداً القوس فوق المحل، وتصميم الباب. هٰذه الحالة المناقضة للحالة الإسلاميَّة هي الحالة شبه الوحيدة التي تستحضر التراث المعماري الإسلاميِّ. فالقوس الذي يعلو المحل والزَّخرفة المستخدمة مستوحاة بل هي صورة من صور التُّراث المعماري الإسلاميِّ والزَّخرفة الإسلاميَّة. وباب المحل أيضاً يكاد يكاد الحالة الفريدة في الشَّارع التي تستخدم حركات تصميميَّة مستوحاة من التَّراث الإسلامي في الزَّخرفة والتَّصميم.

المسألة تبدو بسيطةً وسهلة، وتمرُّ مروراً عابراً عند الكثيرين. ولۤكنَّهَا في الحقيقة تترك انطباعاً خطيراً في نفوس المتلقين العابرين والمتوصلين بالمرور من أمام هٰذا المحل. إنَّهَا وببساطة تامَّة تعطي انطباعاً للمتلقِّي بأنَّ هٰذا هو المحلُّ العربي الأصيل، محل الخمور هو الذي يعبر عن الأصالة العربيَّة والإسلاميَّة!!!

الحضور الفني في الخط العربي

العينة المختارة من اللوحات الإعلانية في شارع مكة ليست مختارةً علىٰ أساس عينةٍ عشوائيَّةٍ، ولا علىٰ أساسٍ انتقائيٍّ. العينة تَمَّ اختيارها علىٰ أساس تمثيلي. كلُّ حالةٍ من حالات العيِّنة تمثِّل ميداناً أو موضوعاً مهنيًّا.

منهجيًّا لا يمكن تعميم نتائج مثل هٰذه العينة علىٰ المجتمع الأصليِّ للدِّراسة. ولٰكن من خلال المعاينة والرَّصد الشَّخصي للمجتمع الأصليِّ للدِّراسة يمكن القول إنَّ العينة التي تَمَّ اختيارها علىٰ هٰذا الأساس التَّمثيلي مطابقةٌ للمجتمع الأصليِّ وتعدُّ ممثلةً له. ولولا المتابعة الشَّخصيَّة والمقارنة والمطابقة بَيْنَ مختلف النَّماذج التي تمَّ رصدها والوصول إلىٰ جواز اعتمادهاً عينةً ممثلةً لوجب اختيار العيِّنة علىٰ أسس أُخْرَىٰ تتيح إمكانيَّة تعميم النَّتائج علىٰ المجتمع الأصلي للدِّراسة.

الملاحظة الأساسيَّة التي لفتت انتباهي هي غياب الخطِّ العربيِّ غياباً شبه تامٍّ عن اللوحات الإعلانيَّة في العيِّنة المنتقاة وفي المجتمع الأصلي للدراسة. شبه تامٍّ وليس تامًّا بالتَّأكيد. في العينة المدروسة توجد لوحةٌ واحدةٌ فقط مكتوبةٌ بالخطِّ الثُّلث الجليِّ. ويبدو أنَّ اللوحة قديمةٌ نسبيًّا، فهي اللوحة العلويَّة الأساسيَّة، والخطُّ المستخدم علىٰ الواجهة الأدنىٰ هو نسخة من الحالة العامَّة للخطِّ المستخدم أو الحرب المستخدم في مختلف اللوحات الإعلانيَّة في المجتمع المدروس.

سأميِّز إجرائيًّا بَيْنَ الخطِّ والحرف. عندما نقول الخط العربي فإنَّنا نعني فنَّ الخطِّ العربيِّ المعروف المقسم إلى سبعة فنون خطٍّ وهي: الرقعة، والنسخ، والثلث، والديواني، والنستعليق أو الفارسي، والكوفي، وأخيراً الخط الفنِّي الذي استحدث ما بعد أواسط القرن العشرين مع انتشار فنِّ الدِّعاية والإعلان والحاجة إلىٰ التَّفنن في الخطِّ والدَّمج بَيْنَ الخطوط لإثارة المشاهد أو المتلقي ولفت انتباهه. وكلٌّ من هٰذه الأنواع الأساسيَّة ينقسم إلىٰ فنون ومدارس وأنواع فرعيَّة( ). وبعضها جمع بَيْنَ خطين مثل الإجازة الذي هو جميع بَيْنَ الثُّلث والنَّسخ.

علىٰ هٰذا الأساس قلت لم يوجد إلا لوحةٌ إعلانيَّةٌ واحدةٌ استخدمت الخطَّ العربيَّ الذي هو الثلث الجلي. أمَّا ما تبقَّى من لوحات إعلانيَّة فهي كلُّها تقريباً تستخدم الحرف العربيَّ. أعني بالحرف العربيِّ الحرف المقروء عربيًّا ولۤكنَّهُ لا ينتمي إلىٰ عائلة فنِّ الخط.

هٰذا الحكم ليس مطلقاً بالتَّأكيد. إذا نظرنا في خطوط اللوحات الإعلانيَّة وجدنا أنَّها مبنيةٌ أساساً علىٰ الخطِّ الحاسوبي. والخطُّ الحاسوبي لا يمكن أبداً أن يرقى إلىٰ ريشة الخطَّاط في أيِّ فنٍّ من فنون الخط، لأنَّهُ مهما بَرَعَ المبرمج في إعداده سيظلُّ خالياً من الرُّوح، من اللمسة الفنيَّة، من الحس. الخطُّ العربيُّ الذي تخطه ريشة الفنان، الخطاط، تسري فيه ملامح روحانيَّة تتجلَّى تبعاً لبراعة الخطَّاط وعبقريته.

الخطُّ الكومبيوتريُّ المستخدم في اللوحات الإعلانيَّة موضوع البحث ليس واحداً، يمكن إدراجها عامَّة تحت باب الخطِّ الكوفيِّ بتشعباته ومستوياته الكومبيوترية وليس الفنيَّة. أي كلها تفتقر إلىٰ اللمسة الفنيَّة والجماليَّة، ناهيكم عن افتقارها التَّام إلىٰ البعد التَّصميميِّ باستخدام التُّراث الفنيِّ الإسلاميِّ الذي يرتقي باللوحة الإعلانيَّة ويضع جمهور المتلقين أمام فضاءات تخيلية تفتح أمامه آفاق التَّفكير والتَّأمل والمتعة في آن واحدٍ.

بعد الاستثناء المشار إليه إذن، كلُّ اللوحات الإعلانيَّة موضوع الدراسة هي فقط كتابةٌ للدَّلالة علىٰ المضمون... اسم المحلِّ لا أكثر.

لا يخلو بعضٌ قليلٌ منها من لمسات إخراجيَّة وليست فنيَّة. من أجل إضفاء نوعٍ من الحيويَّة أو الحركيَّة علىٰ اللوحة الإعلانيَّة، هي في المحصِّلة لمسةٌ فنيَّة، ولۤكنَّهَا كما أشرنا لمسةٌ إخراجيَّةٌ تصميَّةٌ لا لمسة ريشة فنَّان، ولا تستخدم أيَّ نمطٍ من أنماط التَّصميم الجماليِّ الذي يضع جمهور المتلقين أمام فرص التأمل والمتعة الجماليَّة.

الحقيقة التي يجب أن ندركها جيِّداً، الحقيقة التي تفرض ذاتها من خلال الخط والحرف المستخدم هنا هي أنَّ اللوحة الإعلانيَّة المستخدمة في الشارع موضوع الدراسة، هي تعبير حقيقي عن الذهنية العربية الراهنة في الهدر والتشتت، لا تنفصل الذَّائقة الجماليَّة عن العقلية الاجتماعيَّة، عن الوضعية العامة للمجتمع أو الأمة، وعلىٰ ذۤلكَ اتسمت اللوحة الإعلانية هنا بما يلي:

أولاً: هدر الطَّاقات الهائلة التي يتَّسم بها الخط العربيُّ.

ثانياً: هدر الطَّاقات المدهشة لفنون الزَّخرفة الإسلاميَّة.

ثالثاً: التصميم والمادة صورة عن العقليّضة الاجتماعيَّة العربيَّة المعاصرة في التَّبعية العمياء والاعتباطيَّة والتَّقليد الأجوف المنبثق من الثِّقة في الآخر أكثر من الثِّقة في الذَّات( ).

الطَّاقة الجماليَّة والإبداعيَّة في الخطِّ العربيِّ طاقةٌ مذهلةٌ. رُبَّما بل شبه المؤكِّد أنَّ الطَّاقات الموجودة في الخطِّ العربيِّ لا تتوافر في خطِّ أيِّ لغةٍ من اللغات. ولا تقلُّ عنها أبداً طاقات فنون الزخرفة الإسلاميَّة التي غالباً ما تربط بالخطِّ العربيِّ أيضاً، حَتَّىٰ إنَّ بعض الخطوط العربيَّة الإسلاميَّة خطوط زخرفيَّة تحمل طاقات دلاليَّة وروحيَّة هائلةٌ، هي مثار تأمُّلٍ ومتابعةٍ من الكثير من الباحثين والدارسين في أرجاء العالم وخاصة الأوروبي. ناهيكم عن أنَّ هناك أقساماً جامعيَّة خاصَّة ومستقلَّةً فقط لدراسة فنون الزخرفة الإسلاميَّة( ).

استثمر التُّراث العربيُّ قديماً نزراً يسيراً منها أدهش الفنانين والباحثين والنُّقاد الجماليين والفنيين. وتطور تصعيد استثمار طاقات الخطِّ العربيِّ في العقود الأخيرة من القرن العشرين ووصلت إلىٰ مستو مدهشٍ. كلّث هٰذه الطَّاقات تمَّ هدرها وعدم استثمارها في اللوحة الإعلانيَّة في الحالة المدروسة. والحالة المدروسة ذاتها عيِّنةٌ قابلةٌ للتَّعميم بصيغةٍ أو بأُخْرَىٰ علىٰ المجتمع الأكبر.

بنية اللوحة الإعلانية

اللوحة الإعلانيَّة، كما أبنا فيما سبق، ليست الخطَّ ونوعه أو شكله فقط. اللوحة الإعلانيَّة بنيةٌ متكاملةٌ من الخطِّ والخلفيَّة والمؤثِّرات الضَّوئيَّة واللونيَّة والمكانيَّة وحَتَّىٰ الصَّوتيَّة في بعضها.

لن نبالغ في تضخيم اللوحة الإعلانيَّة لنجعل منها تحفةً فنيَّة تضاهي الفنون الأُخْرَىٰ. ولٰكن لا بُدَّ من إظهار حقيقة اللوحة الإعلانيَّة بما تظهر به وتظهره وتمارسه من تأثيرات في المتلقي. اللوحة الإعلانيَّة في العصر الرَّاهن صارت جزءاً من صناعة القيم. ولهٰذا السَّبب لم نجد من غضاضة في تخصيص كتاب لعلم الجمال الإعلاني، واللوحة الإعلانية أكثر من أن تكون جزءاً من علم الجمال الإعلاني، إنها تكاد تكون صورته الأساسية التي يظهر من خلالها إذن ما أخذنا بعين النَّظر أن الإعلان التلفزيوني والإعلان علىٰ مواقع الإنترنت هو أيضاً لوحة إعلانيَّة.

ثنائيتان يجب أن نلقي عليهما ضوءاً صغيراً في بداية حديثنا هنا.

يجب أن نميِّز بَيْنَ السَّطحيَّة والبساطة الفنيَّة. البساطة في الفن عنصرٌ مهمٌّ ومهمٌّ جدًّا في تحقيق الرَّوعة في العمل الفني. أيُّ عملٍ فنيٍّ يستطيع أن يحقِّق البساطة التي تجعله يبدو طبيعيًّا غير متكلَّف فإنَّهُ يقترب من الرَّوعة أكثر. أما السَّطحيَّة فلا علاقة لها بهٰذه البساطة. بعضهم يخلط بينهما فيتذرع بالبساطة لتسويغ السَّطحيَّة في العمل الفنيِّ. السَّطحية تنفي عن العمل صفة الفنِّ والإبداع. وليس هٰذا فحسب بل تحيله إلىٰ آفة علىٰ المتلقِّي. السَّطحية ضربٌ من استغفال الجمهور، أو المتلقِّي، والتَّعامل معه إمَّا علىٰ أنَّهُ لا يفهم، أو علىٰ أساس تكريس عدم الفهم لديه( ).

الثُّنائيَّة الثَّانية هي التَّلقائية وعدم المبالاة. هي ثنائيَّة مماثلةٌ في المبدأ لثنائية البساطة والسَّطحيَّة. التَّلقائيَّة هي ظهور العمل الفنيِّ، اللوحة الإعلانيَّة، بمشهدٍ انسيابيٍّ، عفويٍّ، من خلال بنية العمل الفنِّي، أو اللوحة الإعلانيَّة: الخلفيَّة، الألوان، اللواحق، المؤئرات... التَّلقائيَّة ليست تلقائيَّة في العمليَّة الإبداعيَّة، إنَّها ممارسةٌ بارعةٌ من مبدعٍ بارعٍ يجعل من العمل الفني أو اللوحة الإعلانيَّة قريبةً من القلب جاذبةً( )... هي التي ستبدي اللوحة بسيطة للمتلقي سهلةً عليه قريبةً من أحاسيسه. أمَّا عدم المبالاة فهو إبداع أو إنجاز اللوحة الإعلانيَّة وكأنه عقوبةٌ أو واجبٌ حِرَفيٌّ لا إبداعيٌّ، فيأتي صانع اللوحة ويكتب عنوان المحل، الشَّركة، المؤسَّسة بخطٍّ عريض ويلصقه فوق المحل ويقبض أجرته ويمضي. هٰذه لم تعد لوحةً إعلانيَّة مندرجة في إطار الممارسة الجماليَّة، ولا عملاً فنياً، هٰذي إعلان اسم المحل بل كتابة اسم المحل أو صاحب المحل فوقه وحسب.

كان لا بُدَّ من هٰذا التَّمهيد هنا لأنَّهُ من دون ذۤلكَ يصعب قراءة بنية اللوحة الإعلانيَّة في شارع مكة موضوع الدِّراسة التطبيقية علىٰ نحوٍ خاصٍّ. وحَتَّىٰ غيرها من اللواحات الإعلانيَّة في أيِّ مكان. ولٰكن في حالتنا المدروسة نحن بحاجة ماسة إلىٰ هٰذا التَّوضيح

باستثناء لوحتين هما زاهي وأمازون، فإنَّ لوحات العيِّنة المختارة كلها، المكونة من سبع عشرة صورة وفي أكثر الصُّور ثلاث حالات أو لوحات إعلانيَّة. في العيِّنة كلها لم نجد لوحةً إعلانيَّة بمعنى العمل الفني. كل ما كان، باستثناء اللوحتين، هو كتتبة عناوين علىٰ الخليفة التي تعلو المحلَّ لا أكثر. أي إنَّها كلها تقريباً تقوم علىٰ اللامبالاة والسَّطحيَّة بعيداً عن اللمسة الفنيَّة والتَّصميميَّة. صحيحٌ أنَّ بعضها فيها لمسة إخراجيَّة إلا أنَّ اللمسة الإخراجيَّة مرتبطةٌ بالخطِّ وليس ببنية اللوحة الإعلانيَّة.

أمَّا اللوحتان اللتان انطوتا علىٰ لمسات تصميميَّة في بنية اللوحة الإعلانيَّة فواحدة منهما كانت اللمسات في الخلفية الكبرى للوحة وليس في خلفية اللوحة ذاتها. الخلفية الكبرى للوحة هي واجهة الشركة بديكورات يبدو أنَّها هي الأصل وجاءت اللوحة الإعلانيَّة بخلفية تتناسب مع واجهة الشركة.

أمَّا اللوحة الثَّانية لوحة أمازون فقد دخل التَّلاعب باللمسات الفنيَّة علىٰ اللوحة الإعلانيَّة ذاتها. اللمسة فيما يبدو أقرب إلىٰ أن تكون شعار الشَّركة. ولۤكنَّهَا علىٰ أيِّ حالٍ لمسات أو تصميم غير موفَّقٍ. هو عبارة عن أنصالٍ مدببة تتراوح ما بَيْنَ اثنين وأربعة بالطَّول والعرض ومن الأعلىٰ إلىٰ الأدنىٰ ومن الأدنىٰ إلىٰ الأعلىٰ، أي بكل الاتجاهات الطوليَّة والعرضيَّة تحديداً. وهي متراصَّةٌ إلىٰ جانب بعضها بعضاً بما ضيَّع بنية اللوحة الفنيَّة وعنوان الشَّركة ذاته الذي صار شبه ضائعٍ بينها... الظُّهور كان للزَّخارف المحيطة بالعنوان أكثر من العنوان من جهة، وأكثر من البنية الفنيَّة أو الجماليَّة من جهةٍ ثانيةٍ.

إذا أخذنا بعين النَّظر أنَّ الحالة المدروسة هي اللوحة الإعلانيَّة في شارع مكَّة بكلِّ ما يحمله هٰذا الاسم من دلالةٍ إسلاميَّة بل دلالةٍ إسلاميَّةٍ كبيرةٍ قويَّةٍ، وأنَّ هٰذا الشَّارع أيضاً في مدينةٍ إسلاميَّة، في دولةٍ إسلاميَّة وجدنا أنفسنا أمامَ مفارقةٍ عجيبةٍ ثير الدَّهشة وعلامات الاستفهام الكثيرة عن سبب غياب البعد الإسلاميِّ عن اللوحات الإعلانيَّة بذاتها وببنيتها العامَّة بوصفها جزءاً من واجهة المحل، وجزءاً من الدَّلالة الرَّمزيَّة للمكان أو ما يستحضره اسم المكان من دلالالةٍ رمزيةٍ وروحيَّةٍ. ونستذكر هنا في هٰذا السيَّاق أنَّ اسم المكان أو الشَّارع في معظم أرجاء العالم( ) يفرض إيقاعه وأيقاع ذاكرته التَّاريخيَّة في حال كونه تاريخيًّا علىٰ المكان.

سبقَ الحديث في ما يمكن أن يتركه ذۤلكَ من آثار سلبيَّة، وهٰذه الآثار السَّلبيَّة والسَّيئة مسألةٌ أعمق بكثيرٍ مما وقفنا عنده لأنَّهَا تحتاج في حقيقة الأمر إلىٰ دراسةٍ نفسيَّةٍ واجتماعيَّةٍ مستقلَّةٍ وخاصَّةٍ( ). ولٰكن يبقى السُّؤال الأبرز: ما سرُّ هٰذا الغياب للبعد الإسلاميِّ عن اللوحة الإعلانيَّة في شارع بمثِّل ما سبق من مواصفات الاسم والمكان والانتماء العام والأكثر عموميَّة؟

والذي يدعو أكثر إلىٰ مثل هٰذا السُّؤال وما يترتب عليه من تساؤلاتٍ غير قليلةٍ هو الحضور الغربي الصَّريح الكثيف في اللوحة الإعلانيَّة في شارع مكة. تفسير ذۤلكَ بعدم الوعي أمر غير كافٍ علىٰ الإطلاق. المسألة ليست فقط مسألة غياب وعي. المسألة في سياقها العام مسألة وضعيَّةٍ تاريخيَّةٍ متخلَّفةٍ إلىٰ حدِّ التآكل والترهل والتخلع في الهوية والانتماء والوعي وأفق التفكير. وعلىٰ هٰذا الأساس يمكن أن نفهم لماذا غاب وعي الانتماء الإسلامي وحضر ما يوحي بالانتماء الغربي علىٰ حساب الانتماء الإسلاميِّ؟

ولكنَّنا في حالة الشَّارع المدروس أمام شبه تطرُّف في غياب وعي الذَّات وحضور الانتماء المغاير. في الافتراض النَّظري إنَّ غياب وعي الانتماء يكون نسبيَّا أقلَّ من حضوره. بما يعني أنَّهُ يجب أن يكون هناك نسبة من اللوحات الإعلانيَّة تتحَّق فيها بعض دلالات الانتماء للثقافة الإسلاميَّة. ولٰكنَّ الذي لاحظناه هو الغياب شبه المطلق لهٰذا الوعي، وما وجد منه فقد وجد عرضاً عابراً. وإذا ذهبنا إلىٰ القول بأنَّها ممارسةٌ مقصودةٌ فهٰذا يضعنا أمام مشكلة أكبر وأخطر بكثير من البساطة التي نتحدَّث فيها لتفسير غياب ما غاب وحضور ما حضر.

العلاقات اللونية

تأسيساً علىٰ ما سبق القول فيه في بنية اللوحة الإعلانيَّة في العيِّنة المختارة فمن غير المتوقَّع علىٰ الإطلاق أن تكون العلاقات اللونيَّة مبنيَّةً علىٰ رؤيةٍ فنيَّةٍ أو جماليَّة أو حَتَّىٰ لمسة تصميَّمة. حَتَّىٰ في حالتي وجود اللمسة التَّصميميَّة علىٰ اللوحة الإعلانيَّة والخلفيَّة الكبرى للوحة الأُخْرَىٰ من غير المتوقَّع فيما تبديه الحالة أن يكون اختيار الألوان علىٰ أساسٍ تصميميٍّ.

الحقيقة التي تبيدها اللوحات الإعلانيَّة والبنية العامَّة لمحيط اللوحة الإعلانيَّة هي أنَّ الاختيارات اللونيَّة لم تكن مبنيَّةً علىٰ رؤيةٍ تصميميَّةٍ أو فنيَّة أو جماليَّةٍ وإنَّما هي اختيار رُبَّما يكون ذوقيًّا خاصًّا بصاحب العمل أو مصمم ديكوارت المحل أو حَتَّىٰ توافر المواد التي استخدمت في بنية اللوحة ومحيطها

ولٰكنَّ هٰذا لا يعني عدم الانسجام بَيْنَ الخطوط أو العناوين والخلفيَّات اللونيَّة القائمة عليها. وهٰذا أمرٌ طبيعيٌّ لا اجتهاد فيه. الغالبيَّة العظمىٰ من اللوحات الإعلانيَّة في العيِّنة المختارة تتحقَّق فيها معادلة التَّباين والظُّهور. أقول أمرٌ طبيعيٌّ لا اجتهاد فيه لسببين:

أولهما أنَّ الخطَّ في بعضها جاء لاحقاً علىٰ الخلفيَّة ومن ثَمَّ فإنَّ اختيار لون الخط سيكون مفروضاً بما يحقِّق معادلة التَّباين والظُّهور.

ثانيهما أنَّ معظم الخلفيات ذات ألوان درجة واحدة: أبيض، أخضر، أحمر، كحلي... ستظهر عليها الخطوط بأيِّ لون آخر بدرجةٍ كافيةٍ من التَّباين.

هٰذه المعادلات القائمة في اللوحات الإعلانيَّة في الشَّارع قيد الدراسة ستفتقر إلىٰ القدرة علىٰ ممارسة التأثر الفنيِّ أو الجماليِّ أو التَّفاعليِّ الإيجابيِّ مع المتلقي، الزبون، المارة... الوظيفة شبه الوحيدة التي تقوم بها هي ما يشبه إشارات السَّير التي ترشد السَّائق إلىٰ الجهة. إنَّهَا لا تفعل أكثر من ذۤلكَ من النَّاحية الإيجابيَّة. إنَّهَا علامات علىٰ الطَّريق للاستدلال علىٰ المكان للغريب عن المكان.

ولٰكن من ناحيةٍ أُخْرَىٰ فإنَّ هٰذه الرَّتابة والسَّطحيَّة يمكن بل يفترض أنَّهَا من النَّاحية النفسيَّة ستقوم بتأثير سلبي في أبناء البيئة علىٰ نحو خاصٍّ. الرَّتابة والسَّطحيَّة لن تترك في النَّفس إلا الرَّتابة والملل فيمن يتعايش معها علىٰ نحو متواصل أو شبه متواصل. لنتخيل العامل الذي يقوم بعمل رتيب مكرر على نحو آلي متواصل لا يتغير. ماذا سيحدث في نفسيته؟

كارل ماركس أول انتبه إلىٰ هٰذه الحالة النفسية، ولٰكنَّ بوصفها ظاهرة اجتماعية، وصفها بالاغتراب. الاغتراب أو التَّشيوؤ هو امتصاص إنسانيَّة الإنسان، تهشيم البعد الإنساني في الإنسان وتحويله إلىٰ رقم، إلىٰ شيء مثل أيِّ شيء غير الإنسان، إلىٰ آلة مثل الآلة التي يعيش معها في المعمل. هٰذه الصُّورة مشابهةٌ لما يحدث مع من يعايش الرتابة والسَّطحية في البنية المحيط به، هٰذه البنية المتمثلة باللوحات الإعلانيَّة.

من المؤكَّد أنَّ هٰذه الآثار لا تظهر علىٰ نحو مباشر، ولا علىٰ سلوكٍ مباشرٍ. إنَّهَا تتراكم في النَّفس تدريجيًّا وتظهر لاحقاً، بعد التراكم، في أنماطٍ مختلفةٍ ومتعدِّدةٍ من السُّلوك والانفعالات سواء في العمل أو المنزل التي لا يدري أصلاً ما هو مصدرها ولا سببها، لأنها تكون قد استقرت في قاع اللاشعور بوصفها خبرات ورواسب نفسيَّة متراكمة مختزنة في اللاوعي تفعل فعلها من دون أن ندري حقيقتها، تظهر نتائجها ولا تظهر هي( ). وهٰذه الأنماط مختلفةٌ متعدِّدة متباينةٌ تبعاً للأشخاص؛ كلُّ شخص تظهر لديه بطريقةٍ مرتبطةٍ بخصائص شخصيَّته من قوَّة وضعف وثقافة وجهل وبعيدة التَّرجيع وقريبة الترجيع وغير ذۤلكَ كثيرٌ من خصائص الشَّخصيَّة. يعني ذۤلكَ أنَّ الآثار السَّلبية النَّاجمة عن هٰذه الرتابة والسَّطحية توصف بأنَّها آثار سلبية ورُبَّما تكون مدمرة في بعض الحالات أو عند بعض الأشخاص، ولا يوجد قاعدةٌ أو قانونٌ يمكن أن يحدِّد لنا طبيعة هٰذه الآثار السَّلبيَّة؛ إنَّها ليست مرضاً بيولوجيًّا واحد الأعراض عند الجميع. إنَّها حالة نفسيَّة، والحالة النَّفسية دائماً فريدةٌ، كلُّ شخصٍ يعيشها بطريقته.

المؤثرات الضوئية

للحديث علىٰ المؤثرات الضَّوئيَّة كان لا بُدَّ من رصد الحالات المدروسة ليلاً. لا يمكن الحديث عن مؤثراتٍ ضوئيَّةٍ نهاراً للوحات الإعلانيَّة لسببين:

أولهما الشَّارع موضوع الدِّراسة محكومٌ بالإضاءة الطَّبيعة.

ثانيهما عدم إمكانيَّة ظهور المؤثرات الضَّوئيَّة علىٰ اللوحة الإعلانيَّة نهاراً. ومن ثَمَّ عدم الحاجة إليها نهاراً.

لذلك كان لا بُدَّ من رصدها ليلاً. في الحالة الليلة الأمر مختلفٌ اختلافاً كليًّا. كلُّ المعادلات انقلبت وتغيَّرت في الحالة الليلة ووجود المؤثرات الضوئيَّة. نحن في حقيقة الأمر أمام عدة أنماط أدَّى إليها الانتقال إلىٰ الوضع الليلي.

الحالة الأولى

الحالة الأولىٰ هي حالة عدم العناية بالمؤثرات الضوئيَّة. السَّبب أمرٌ يعني صاحب اللوحة بالتَّأكيد. هنا لا جديد يمكن الحديث فيه سوى أنَّ القتامة ستحيط باللوحة الإعلانيَّة. تأثير العتمة عليها، وغالباً بعض التَّأثيرات الضوئيَّة الجانبيَّة من الجوار، التي لا تقدِّم ولا تؤخر.

الحالة الثانية

الحالة الثَّانية هي حالة التَّأثير السَّلبي لاستخدام المؤثرات الضوئيَّة. توجد مؤثِّراتٌ ضوئيَّةٌ للوحة الإعلانيَّة ولۤكنَّهَا تستخدم استخداماً خاطئاً مما ينكعس بأثر سلبي في اللوحة الإعلانيَّة تؤدِّي إلىٰ عدم الظُّهور السَّليم لمضمون اللوحة الإعلانيَّة. هٰذا لا يعني فقدان الجماليَّة بالضَّرورة، ففي هٰذه الحالة الأنموذج نجد أنَّ شاعريَّةً وجماليَّةً أضفيت علىٰ اللوحة الإعلانيَّة أكثر من الحالة النَّهاريَّة. ولۤكنَّهَا أخفت المضمون الإعلانيَّ، أو مارست فيه تأثيراً سلبيًّا.

الحالة الثالثة

الحالة الثالثة هي حالة وجود مؤثراتٍ ضوئيَّةٍ شاملةٍ للبنية الكليَّة لمحيط اللوحة الإعلانيَّة. في هٰذه الحالة غالباً ما ستطغى المؤثِّرات الضوئيَّة الشَّاملة علىٰ اللوحة الإعلانيَّة. وفي الوقت ذاته عندما تكون هناك ذائقةٌ جماليَّةٌ من هٰذا القبيل فإنَّها غالباً ما ستأخذ بعين الحسبان إضفاء مؤثِّرات ضوئيَّة خاصَّةٍ علىٰ اللوحة الإعلانيَّة ذاتها. والأنموذج المرفق من هٰذا القبيل، فقد استخدمت مؤثِّرات ضوئيَّة مناسبةٍ حافظت علىٰ تمايز اللوحة الإعلانيَّة وظهورها.

الحالة الرابعة

الحالة الرابعة هي حالة ظهور اللوحة الإعلانيَّة بجماليَّة أكبر بفضل المؤثِّرات الضَّوئيَّة. وهٰذه هي الحال الأكثر عموميَّة في حال استخدام المؤثرات الضَّوئيَّة. لأنَّ العتمة والإنارة علىٰ تضادٍّ يؤدِّي إلىٰ منح الإنارة شيئاً من الشَّاعريَّة التي تبدو أكثر جمالاً مما تبدو عليه نهاراً. وهٰذه الظَّاهرة تمنح اللوحة الإعلانيَّة مزيداً من الإثارة والجاذبيَّة أكثر مما تمارسه نهاراً.

الحالة الخامسة

الحالة الخامسة مشابهةٌ في المبدأ للحالة الرَّابعة من ناحية الظهور الجمالي بسبب حسن استخدام المؤثِّرات الضَّوئية. ولٰكنَّ الفرق بينهما، وهو الذي حدا بنا للتَّمييز بَيْنَهُما، هو أنَّنا في هٰذه الحالة نجد انقلاباً شبه تامٍّ في طبيعة الظُّهور. ففي حين أنَّ اللوحة الإعلانيَّة تكون في الحالة النَّهاريَّة ضبابيَّة بمعنى من المعاني نجدها بفعل المؤثِّرات الضَّوئيَّة تظهر في الحالة الليليَّة علىٰ نحو أكثر جماليَّة وأكثر وضوحاً.

بين الاسم والمعنى

مما أُثر عن العرب حكمهم والأمثال، كما بقية الشُّعوب علىٰ أيِّ حال، ومما أُثِرَ واشتهر من أمثالهم قولهم: «لكلٍّ من اسمه نصيب». المثل ليس كلمةً ألقيت واشتهرت مصادفةً أو من غير قصد. بغضِّ النَّظر عن عمق صاحب القول أو المثل لا يمكن أن ننكر أن يستند إلىٰ قاعٍ نفسيٍّ يجد في علم النَّفس ما يفسِّره ويشرحه في أكثر من فرعٍ وميدان من ميادين علم النَّفس.

لننظر في المشكلة التي نحن فيها الآن. عندما يدعوني أحدُ إلىٰ لقاءٍ أو موعدٍ في شارعٍ اسمه شارع مكة. مهما كان ديني وجنسيتي. ما الذي يتبادر إلىٰ ذهني؟

لا شعورياً وعلىٰ الرَّغْمِ منِّي تتداعى في ذهني الصُّور المكيَّة والدَّلالات المكيَّة التي سأصادفها في هٰذا الشَّارع. لا يمكن إلا أن يخطر في بالي أنَّني سأرى معالم الشَّارع مقترنةً بالصُّورة المكيَّة، صورة مكَّة بكلِّ ما تحمله في ظواهرها وطياتها من أبعاد دينيَّة وروحانيَّة.

إنَّ امتدَّ بي التَّأمل والتَّخيل وشردت وراء أفكاري سأتوقع وجود نشاز هنا وهناك، هٰكذا يقول التَّفكير السَّليم. ولٰكن ماذا سيكون لو أنَّ الواقع كان أنَّ النشاز الموجود هو الذي يجب أن يكون عامًّا والعام الموجود هو ما يجب أن يكون نشازاً؟ لا شكَّ في أنَّها ستكون صدمةً. الصَّدمة تمرُّ مرور سحابة الصَّيف بطبيعة الحال. ولٰكنَّ انقضاءها بسلامٍ لا يعني أنَّها مرَّت بسلام.

إذا كانت زيارةً واحدةً وصدمةً واحدةً فإنَّها ستبقى ذكرى صادمةً في النَّفس. ولٰكن إذا كانت هٰذه الصَّدمة بل الظَّاهرة تتكرَّر، أو صارت مرافقة لحياتنا اليوميَّة فماذا يمكن أن يكون؟

المسألة سهلة، ستصبح القيم مقلوبةً في عقولنا، وستصبح القيم المقلوبة، المعكوسة، المشوَّهة... هي القيم الجديدة السَّائدة والفاعلة محلَّ القيم الحقيقيَّة أو الإيجابيَّة التي تهشمت وتهمشت وزالت تدريجيًّا من عقولنا وذاكرتنا.

كثيرٌ من الأشياء نفعلها ونمارسها وهي فيما تبدو عليه عادية جدًّا، لا تقدِّم ولا تؤخِّر. مثل لوحة إعلانيَّة مبتذلةٍ، أو سطحيَّة... تبدو عاديةً لا تقدِّم ولا تؤخِّر، ولۤكنَّهَا تنغرس في الذَّاكرة بالمتابعة والإلفة وتصبح هي القانون وهي القاعدة...

خاتمة 

بعد هٰذا التَّحليل نعود إلىٰ چوبلز في قولته الشَّهيرة: اعطني إعلاماً بلا ضمير أعطيك شعباً من الحمير... القول شهيرٌ، منسوبٌ إلىٰ غوبلز ولۤكنَّهُ يعبِّر عن حالةٍ خطيرةٍ في الممارسة الإعلاميَّة. أميل كثيراً إلىٰ الاستتشهاد بهٰذا القول لتوضيح تأثير الدعاية والسطوة الإعلامية في نفوس الجماهير. المسألة خطيرة جدًّا ولا يجوز أن تمرَّ مروراً عابراً. دعونا ننقل هٰذا القول إلىٰ حيِّز الإعلان، واللوحة الإعلانيَّة: هل يمكن سحب دلالة حكم چوبلز علىٰ اللوحة الإعلانيَّة والقول: الإعلان السَّطحي يسطِّح عقول المتلقين.

يجب أن نتذكَّر جيِّداً ضرورة التَّمييز بَيْنَ الإعلان بوصفه حالةً فرديَّةً أو عابرةً وبَيْنَ ظاهرةٍ عامَّةٍ، منتشرةٍ بكثرةٍ، أي علىٰ غرار ما شاهدناه...

الإعلان الحالة الفرديَّة عابرٌ وكلُّ عابرٍ يمرُّ عابراً عابرُ الأثر إلا في بعض الاستثناءات. أمَّا عندما تكون اللوحات الإعلانيَّة نسخاً مكرَّرة من السَّطحيَّة أو الابتذال أو اللامبالاة فإنَّهَا لا تمرُّ مروراً عابراً، وتترك بصماتها في نفوس المتلقين. وفي المقابل تماماً إذا كانت اللوحات الإعلانيَّة مدروسةً فنيًّا وجماليًّا ومنفَّذةً تنفيذاً جماليًّا فإنَّها ستترك أثاراً إيجابيَّة في نفوس المتلقين. تتفاوت هٰذه الآثار الإيجابيَّة بتفاوت خصائص الشَّخصيَّة. تبدأ هٰذه الآثار الإيجابيَّة من المتعة الجماليَّة وتصلُ إلىٰ الفائدة والتَّفكير الإيجابيِّ.

عندما تكون اللوحة الإعلانيَّة لوحةً جماليَّةً فإنَّها تشبه اللوحة الفنيَّة التي لا يشبع المتلقي من معايشتها والاستمتاع بمشاهدتها.

لا نبخس الشُّعوب الأُخْرَىٰ حقَّها في خصائص فنونها. ولٰكن لا بُدَّ من تأكيد حقيقةٍ يدركها المختصُّون وهي أن فنَّ الزَّخرفة الإسلاميَّة من أسمى الفنون وأكثرها صعوبة وأكثرها امتلاءً بالدَّلالات الماديَّة والمعنويَّة والروحيَّة وحَتَّىٰ الرَّمزيَّة التي أفاض بعض الباحثين في الحديث فيها( ). الفنون الزخرفيَّة الإسلاميَّة ممتلئة امتلاءً مدهشاً بالدَّلالات التي كانت وستظلُّ محطَّ إعجاب الدَّارسين وتقديرهم. وفي هٰذا ما يدلُّ علىٰ أنَّهَا قادرةٌ علىٰ استيعاب احتياجات اللوحة الإعلانيَّة بما هي حاجة إعلانيَّة، وتقديم سلسلة من الفوائد الفنيَّة والجماليَّة والروحيَّة التي تتفاوت بتفاوت براعة الفنَّان أو المصمم.