مسرحية "أنا فهمتكم" تقتحم ذاكرتي

مسرحية "أنا فهمتكم" تقتحم ذاكرتي!

محمد حرب الرمحي

هاتفتني ذات ليل ، على حين سهرة ... همَسَتْ : هل تقبل دعوتي – يا سيدي - على فنجان نشوة !!! في الكونكورد !... بصراحة أعجبتني الدعوة ! ولكني بادرتها بالقول وأنا أبتسم وكانها تقف أمامي بكل جمالها : اقبل بالتأكيد ، ولكن مَن معي لطفاً !!! ( أقفلتْ الخط ! ) ...............

في اليوم التالي ، ساقني الشوق إلى المكان ,أخذت أتلفت حولي عن فتاة جميلة هناك ، وإذ بعيني تتلحف لوحة إعلان كبيرة " أنا فهمتكم " وكان اسم الفنان موسى حجازين يتصدر اللوحة ! فأدركت فوراً أن الدعوة كانت من المسرحية نفسها ، وأن الفنان حجازين قد سرق لهفتي كما سرق اسم الرئيس المخلوع زين العابدين بقوله " أنا تفهمتكم " ! ( حركت رأسي مبتسماً ... وهمستُ : هكذا إذن ! ) الحقيقة أنني أحتاج في خضم هذا الواقع العربي الذي يجلس على طاولة القمار أن أراهن ولو من بعيد على استباق نتيجة الأحداث في الخسارة والربح ! بالنهاية أنا لن أخسر سوى ثمن البطاقة لحضور المسرحية العربية التي نقلها حجازين من خارطة الوطن العربي إلى " الكونكورد " الذاكرة الفنية ! آخر ما نملكه من حصاة لنلقي بها في بركة النسيان الراكدة ! .... ودخلت الذاكرة والشوق يحذوني لفنجان النشوة المنسي ، فهل سيسعف الشوق فضولي ويشفي غليلي أو يتماثل الفن – على الأقل – أمامي عافية لطالما أغرقها الدواء بلا شفاء ؟ وهل المسرح الفني ينقذني من واقع المسرح العربي وما يحدث فيه ؟! 

أعترف ، أنني وفور جلوسي على المقعد ، شعرت بالنشوة ! رغم أن الستارة ما زالت مغلقة الأهداب ، فأنا أؤمن بحاسة السمع أكثر من البصر ! فريد الأطرش يمر على الحاضرين ويدور في أسماعهم بأغاني الزمن الجميل ! وأي أغاني ؟ أغاني العروبة والكرامة والمجد والسؤدد !!

تنفست قليلاً وهيأت نفسي لمسرحية ستتفهّم حاجتي للكرامة والسلامة من كل ما يشعرني بالعجز ... وبدأ العرض !!! وسيدة المسرح التي دعتني لفنجان النشوة تراقبني ، وأنا أراقب جمالها من بعيد ! وأخذت السيدة تسرد الحكاية لي ... أبٌ متسلط وأبناء يصرخون من الفقر والقهر وهو لا يكترث لهم ، وفجأة يظهر شقيقه القادم من كندا بعد سنوات طويلة ليدور الحوار الجميل ! كل سؤال من الشقيق كان يقابل بكلمة واحدة ! كلمة رغم خروجها من فم موسى بطريقة كوميدية إلا أنها كانت حمماً تخرج من فوهة بركان ! ( باااااعوووها !!! ) أنا أؤكد أن الجمهور كان يضحك ويضحك ويضحك ، والسيدة تلك كانت تبكي وتبكي وتبكي !

موسى حجازين ! لم يترك هذا الفنان أمراً قابلاً للحديث إلا وتحدث عنه ، وكان العنوان الأبرز هنا ( الأردن ) قاسم الحب الأعظم لكل القلوب الوطنية التي ما تعودت إلا محبته . بل وعشقه المبرح الممتد من الوريد إلى الوريد ومن السوسن إلى السوسن ! لم يترك هذا المبدع شيئاً يدور في خلد الناس إلا وتناوله بكل شفافية وموضوعية ! أخذنا في رحلة فنية غنية ، أضحكنا لدرجة البكاء ، وأبكانا لدرجة التأمل ! أمسك عوده أكثر من مرة وغنى بحزن وعاطفةٍ مُرة ! جعل الوطن يغتسل بدموعنا ، ويفك ظفائر حزنه على راحات القلب ! أعادنا للمشهد الغائب الحاضر في الذاكرة العربية ! أعادنا للخبز الذي كان يشاهد فيه صورة والده الطيب ، ورائحة أمّه الجالسة على ناصية الشرف ! نقلنا من دهشة إلى أخرى ، ومن خوف إلى آخر ، وفتح كل ستائر القضايا وأدخل شمس الحقيقة عبر نوافذ المشهدية المسرحية إلى ذاكرتنا ! ولم يكترث للحارس الواقف ما بين الجرح وقول الآه ! ... وانتهى العرض ... ولم ينتهِ أبداً ... ليبقى السؤال هل مصير كل ولي أمر ظالم الرحيل ؟ كما حدث مع زين العابدين ، ومبارك ، والقذافي ... والمرشحين الآخرين للرحيل قريباً !!

لن أتحدث في السنوغرافيا والنستولوجيا والديكور والإخراج الفني وإن كان هناك الكثير للحديث عنه ، فقد حرمني موضوعية العرض وأحداثه من الدخول في ذلك ، فالجائع لا ينظر لشكل المائدة ! وليس على الكريم حرج ! ... خرجت ككل الذين دخلوا ، ولم نخرج ! كأنا بقينا في صحبة تلك السيدة ، ليس منا من يستطيع أن يغادر جمالها ! فيا لها من سيدة مسرح جميلة ، ويالفنجان نشوتها ما أطيب مذاقه !