ملحمة عمر لباكثير

د. عبد الحكيم الزبيدي

هل تتحول إلى مسلسل تلفزيوني؟

الأديب الكبير الأستاذ: علي أحمد باكثير

د. عبد الحكيم الزبيدي

[email protected]

تعد (ملحمة عمر) أفضل عمل درامي للأديب الكبير علي أحمد باكثير (1910-1969)، فقد صاغ هذا العمل المسرحي الطويل في تسعة عشر فصلاً يتكون كل فصل من مناظر تصل إلى عشرة، استوعب فيها حياة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه منذ توليه الخلافة حتى استشهاده. وقد أطلق عليها باكثير اسم (ملحمة) رغم أنها مكتوبة بالنثر لا بالشعر، لأنه لم يجد تصنيفاً آخر أفضل منه، كما قال، حيث لا يمكن أن تسمى (مسرحية) نظراً لطولها. وتعد (ملحمة عمر) ثاني أطول عمل درامي في العالم بعد (ملحمة الحكام)  للشاعر الإنجليزي توماس هاردي (1840-1928) التي صاغها شعراً في تسعة عشر فصلاً عن حروب نابليون؛ بل يرى باكثير أن عمله أطول من عمل هاردي.

وقد حصل باكثير على منحة تفرغ لكتابة هذه الملحمة لمدة عامين (1961-1963)، أمضى الشهور العشرة الأولى منها في البحث والدراسة والمراجعة، فقرأ ما لا يقل عن مائة وخمسين مرجعاً تحتوي على ما لا يقل عن ثلاثين ألف صفحة باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية، بجانب الاعتماد على حوليات الإسلام باللغة الإيطالية، كمرجع للترتيب الزمني للأحداث. وقد كتبها باكثير في أخريات حياته بعد أن تمرس بالفن المسرحي، فجاءت آية في حسن السبك وتماسك البناء، وروعة الحوار. وقد التزم باكثير في حوارها لغة عصر صدر الإسلام بما فيها من جزالة وأسلوب أصيل، حتى تحس وأنت تقرأها كأنك تعيش في ذلك العصر وتعيش أحداثه.

وقد اختار باكثير الشكل المسرحي  لهذا العمل الضخم، على الشكل الروائي رغم تمرسه به وتمكنه منه أيضاً، لأنه كان يرغب في أن تمثل على المسرح ليرى الناس ويشاهدوا عدل الإسلام وسماحته ممثلة في الخليفة الثاني عمر رضي الله عنه، في وقت أخذ المسلمون يتلفتون نحو الشرق والغرب يستمدون منهما  أنظمة الحكم التي تحقق لهم العدالة والحرية والديمقراطية.

ويجيب باكثير حين سئل عن الخطوط العريضة لملحمة عمر بقوله: يمكن تلخيص هذه الخطوط في هذه الكلمة الجامعة: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بمثل ما صلح به أولها"، ففي عهد عمر تكون وتشكل هذا الذي نطلق عليه اليوم "الوطن العربي" على نظام ديمقراطي حر، وهو في روحه بالنسبة لظروفه أسمى ما بلغه نظام حكم في التاريخ، وهو في نفس الوقت يتسم بروح إنسانية عالمية قائمة على العدل  والمساواة بين البشر على اختلاف أجناسهم وألوانهم ومذاهبهم. ونحن في نهضتنا الحاضرة أحوج ما نكون إلى الاقتداء بسيرة عمر الزعيم الإسلامي الأمين الذي يحرص على اتباع السنة ويجتهد مع ذلك في ابتداع الوسائل الجديدة في مواكبة التطور في جميع ميادين الحياة" (من حوار أجراه معه الدكتور عبده بدوي نشر في مجلة الرسالة سنة 1964).

غير أن حلم باكثير في أن تمثل هذه الملحمة على خشبة المسرح تبدد آنذاك بسبب رفض الأزهر تمثيل شخصية عمر بن الخطاب. ويرى باكثير أن موقف الأزهر موقف متناقض مع نفسه لأنه يجعل الصحابة طبقات، فإما أن يمنع العلماء ظهور الصحابة جميعاً على المسرح وإما أن يجيزوا ظهورهم، أما أن يمنعوا ظهور عمر ويجيزوا ظهور أبي عبيدة الذي لا يقل ورعاً وأسبقية إلى الإسلام عن عمر بن الخطاب فهذا موقف متناقض، في رأي باكثير. ويرى باكثير أن المسرح والتمثيل عموماً من الوسائل الحديثة للدعوة التي يجب أن تستغل، ولا يرى بأساً في تمثيل شخصيات الصحابة إذا اتخذت الاحتياطات اللازمة. وقد ظل باكثير على ثقة من أنه سيأتي يوم يسمح العلماء فيه بتمثيل شخصية عمر.

ونظراً لطول الملحمة وتعذر تمثيلها على المسرح، لأنها بذلك ستحتاج إلى خمس عشرة ليلة على الأقل من العرض، فقد رأى باكثير أن الوسيلة الوحيدة لإخراجها هي التلفزيون. وقد كانت أمنية باكثير هي أن تطوف فرقة تمثيلية بالملحمة أقطار العالم الإسلامي كله لتعرض هذه المسرحية على شعوبها، فيروا عدل الإسلام ويجدوا إجابة لكل الأسئلة التي تخطر على بالهم.

وكأني بأمنية باكثير تصبح ممكنة التحقيق اليوم، حيث أصبح التفلزيون –لا المسرح- هو الذي يستقطب جمهور المشاهدين، وما حمى مسلسلات رمضان عنا ببعيد. وكذلك أمنيته أن تطوف فرقة بالملحمة الأقطار الإسلامية لعرضها، تحققه اليوم القنوات الفضائية التي لا يصل إرسالها إلى الأقطار الإسلامية فحسب، بل إلى كل أقطار العالم. ومسألة تمثيل شخصيات الخلفاء الراشدين أصبحت موضع نقاش اليوم بين العلماء، وقد بدأت شخصياتهم تظهر في السنوات الأخيرة في المسلسلات التاريخية التي تعرض في رمضان، ولكن دون ظهور ملامح الوجه، وقد ذكرت صحيفة الرياض (20/9/2010) أن وجوه شخصيات الخلفاء ستظهر في مسلسل عمر الذي أعلن عن إنتاجه بالتعاون بين تلفزيون قطر ومؤسسة (إم بي سي).

ولأن خاطر تحويل الملحمة إلى مسلسل كان يراودني منذ سنوات، فما أن قرأت الخبر في الصحف أواخر العام الماضي حتى سارعت بالاتصال بمكتب السيد محمد عبد الرحمن الكواري مدير تلفزيون قطر، وعرضت عليه أن ألتقي به لأقدم له نسخة من الملحمة علهم يعتمدونها كقصة للمسلسل. وقد رحب السيد الكواري بي، وحدد لي موعداً للقاء فسافرت إلى قطر والتقيت به يوم (13 أكتوبر 2010م) في مكتبه بمبنى التلفزيون، وأهديته نسخة من ملحمة عمر. وقد كان لطيفاً ودوداً في لقائه معي، وشكرني على الهدية ولكنه لم يعد بشيء بخصوص اعتمادها، وذكر أن هناك لجنة مختصة بذلك، وأن هذه اللجنة قد اتفقت مع أحد كتاب المسلسلات ليعد سيناريو وحوار المسلسل. ولكنه وعد بإيصال الملحمة للجنة؛ ولم يصلني أي رد منه بعد ذلك.

ثم اتصلت بمكتب فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي وطلبت اللقاء به، وقد تفضل مشكوراً بتحديد موعد لي للقائه في اليوم نفسه، وما أن عرفته بنفسي وأنني أدير موقعاً على شبكة الإنترنت عن الأديب علي أحمد باكثير حتى أخذ –حفظه الله- يكيل الثناء والمدح لباكثير ويشيد بأعماله الأدبية ومنها (ملحمة عمر). وحينها قلت له إنني جئتك من أجل الملحمة، لأني علمت أن تلفزيون قطر بصدد إعداد مسلسل عن عمر بن الخطاب، وأن فضيلتكم عضو في اللجنة الشرعية التي تشرف على المسلسل، فقال لي إن دور اللجنة الشرعية يقتصر على قراءة السيناريو والحوار والتأكد من عدم مخالفتهما للتاريخ أو لتعاليم الإسلام، وليس من شأنهم ترشيح عمل بعينه. ولكنه سمح لي بتسجيل كلمة له يحث فيها الجهة التي تنوي إعداد المسلسل أن تستفيد من هذه الملحمة، وهذه الكلمة موجودة في موقع باكثير وفي موقع (

).

واليوم، ورمضان على الأبواب، والأخبار تترى عن تصوير أحداث المسلسل، ترى هل تم الاعتماد على هذه الملحمة في إعداد سيناريو وحوار المسلسل؟ الأيام القادمة كفيلة بكشف ذلك. وإن كنا نتمنى أن يتم الاعتماد عليها، ليس تشكيكاً في قدرة كاتب السيناريو الذي تم اختياره، فلاشك أنه متمرس بالعمل، ونجاحاته السابقة خير دليل على ذلك، ولكن لأنه طلب منه أن يعد هذا السيناريو في فترة زمنية قصيرة ليلحق المسلسل بركب رمضان القادم، بينما استغرق باكثير في كتابتها عامين كاملين، استطاع خلالهما أن يقرأ ويستوعب مئات المراجع كما أسلفنا ثم صاغها في قالب ممتع وشائق.

ولكن أغلب الظن أنه لن يتم الاعتماد على الملحمة لأنه قد تم الاتفاق مع كاتب آخر، وأخشى ما نخشاه هو أن تعتمد الملحمة كمصدر من المصادر التاريخية فيستفاد منها على ذلك الاعتبار، وهي في الحقيقة عمل أدبي، إما أن يؤخذ كاملاً أو أن يترك كاملاً. فقد ضمنها باكثير آراءه وتصوراته، وأضاف إليها بعض الشخصيات والأحداث الخيالية التي لم تكن موجودة في التاريخ. ونرجو أن لا يتكرر ما حدث مع مسلسل (الفرسان) الذي أخذت قصته من رواية (وا إسلاماه) دون الإشارة إليها من قريب ولا من بعيد. ورغم أن أحداث الرواية تاريخية إلا إن معدي المسلسل ضمنوه بعض الأحداث التي أضافها باكثير من خياله على الرواية ظناً منهم أنها من التاريخ؛ وقد تتبع الدكتور عماد أبو طالب هذه الأحداث في مقال له نشر بمجلة (أخبار الأدب) في 31 ديسمبر 1995م، فليرجع إليه.