الدراما الرمضانية بعد الثورة المصرية

حسام مقلد *

[email protected]

 كالعادة بدأت القنوات الفضائية والأرضية تبشرنا بقرب قدوم شهر رمضان المبارك لا لتنبهنا إلى ضرورة الاستعداد الروحي والإيماني المطلوب لاستقباله على النحو الذي ينبغي أن نستقبله به، ولكن لتسوق إلينا طوفان برامجها ومسلسلاتها الدرامية، ومع مرور الوقت وكثرة التكرار والإلحاح ترسخ في أعماق وعينا أسماء هذه المسلسلات والبرامج لنتعلق بها ونرتبط لاشعوريا ببعضها؛ فتثير فضولنا ونحرص على متابعتها، ولن أتحدث هنا بالطريقة النمطية المعروفة، ولا داعي لأن أكرر  الكلام الذي يدعو جموع المسلمين للانصراف عن كل هذا اللغو والاجتهاد في العبادة؛ فمن وجهة نظري أن هذا هو الأولى والأهم كما يرى الكثيرون ، وأسأل الله تعالى أن يبلغنا رمضان، وأن يعيننا فيه على الصيام والقيام وصالح الأعمال إيمانا واحتسابا وعلى النحو الأتم الأكمل الذي يرضي ربنا عز وجل، وأذكِّر نفسي وإخواني بالحديث الشريف الذي رواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحه، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صعد المنبر فقال:"آمين آمين آمين !!" قيل: يا رسول الله إنك صعدت المنبر فقلت: آمين آمين آمين!! فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ:"إن جبريل عليه السلام أتاني فقال: من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله، قل آمين فقلت آمين، ومن أدرك أبويه أو أحدهما فلم يبرهما فمات فدخل النار فأبعده الله قل آمين فقلت آمين، ومن ذُكِرْتَ عنده فلم يصلِّ عليك فمات فدخل النار فأبعده الله قل آمين فقلت آمين" (خرجه الألباني وقال حديث حسن صحيح).

لكن لكي نتسق مع الواقع فلابد من الاعتراف بأهمية الدراما وخطورتها في حياتنا المعاصرة، فهي جزء لا يتجزأ من حياة الشريحة الغالبة من الناس الآن، ولا أبالغ إن قلت: إن نسبة ليست بالقليلة من الناس وخاصة السيدات والفتيات ولاسيما في الأرياف يقضون وقتا طويلا نسبيا أمام مشاهدة قنوات الدراما ومتابعتها نظرا لانعدام وسائل الترفيه الأخرى في الريف المصري عدا التلفاز، فهو الوسيلة الإجبارية المتاحة للتسلية والترفيه وخصوصا للمرأة التي تقضي في البيت معظم أوقات حياتها، وفي الغالب ما تشكل المسلسلات عماد هذه المشاهدات إضافة إلى بعض الأفلام والمسرحيات، وللأمانة والدقة ليس لديَّ ولا بين يدي دراسة علمية تذكر أرقاما محددة لهذه الظاهرة، لكنني أعتمد على رصدي الذاتي ومتابعتي الشخصية لما يتعلق بهذا الموضوع الحيوي في الصحف والمجلات ووسائل الإعلام المختلفة على مدى السنوات السابقة!!     

وتكمن أهمية الدراما وقوة تأثيرها في أنها تقدم للمشاهد وجبة دسمة من المواقف والأحداث والقصص الدرامية المؤثرة، وتسلط الضوء على جوانب معينة في حياتنا وتركز عليها وكأنها تمسك بكشاف عملاق يبرزها لنا بصورة واضحة جدا وربما تكون صادمة لنا في كثير من الأحيان، ومع أن المشاهد يدرك تماما أن قصص المسلسلات والأفلام التي يراها هي في الغالب من بنات أفكار المؤلف ومن وحي خياله المحض، لكنه يتأثر بها بشكل من الأشكال مهما كان مستوى ثقافته أو درجته العلمية؛ وذلك لأن المخرج الحاذق يقدم لنا هذه القصص من خلال عمل فني متكامل تجسِّدُ فيه الأحداث شخصياتٌ حية من لحم ودم تغلف الأفكار المراد تقديمها للمشاهد بكتلة من المشاعر والعواطف والأحاسيس، ويسكب الممثلون من روحهم وذواتهم في الصور والمشاهد شحنات ضخمة من الطاقة الإنسانية المكثفة تحاصر المُشاهِد من كل جانب، وتنفذ متسللة إلى أعماقه وتؤثر فيه تلقائيا دون أن يشعر أو ينتبه!!

وكان من المفترض أن القائمين على هذه الصناعة وهم أدرى الناس بخطورتها وضخامة تأثيرها خاصة في المشاهدين الأصغر سنا ـ كان من المفترض أن ينتقوا بعناية فائقة موضوعات أعمالهم، بل كان من المفترض بداية أن المبدعين من المؤلفين وكتاب السيناريو يحرصون حرصا شديدا على الذوق العام، ويهتمون اهتماما بالغا بعدم خدش حياء المُشاهد بأي شكل من الأشكال، فهم أدرى الناس بخطورة ما يقدمونه للجماهير، فالكلمة يمكن أن تكون أحد من نصل السكين، والفكرة يمكنها أن تغير مصير إنسان لو أثرت فيه وغيرت قناعاته واتجاهاته، والصورة والمشهد بكل معطياته وتفاصيله ربما يظل عالقا بعقل المُشاهد ويصاحبه ردحا طويلا من الزمن... ويؤثر في انفعالاته وتصرفاته في المواقف المشابهة!!

لكننا للأسف الشديد وجدنا على مدى العقود الماضية ولاسيما في السنوات القليلة السابقة كماً هائلا من الإسفاف والابتذال والتفاهة في الغالبية العظمى من البرامج والأعمال الدرامية وبالتحديد تلك التي تقدم في رمضان، ولا أدري ما السر في ذلك؟!!

وليسمح لي أهل الفن أن أقول بكل صراحة ووضوح لقد بتنا جميعا نخشى من الترسانة الهائلة التي يواجهون بها المُشَاهِد المسلم كل سنة في شهر رمضان المبارك؛ فعلى مدى سنوات لمسنا بشدة تراجع المضمون القيمي، وهبوط مستوى الأداء الفني، وزادت مساحة المَشَاهِد الجنسية واللقطات الإباحية العاهرة بشكل مستفز، بل حتى الإعلانات وبعض لقطات الكليبات التي يعلن عنها داخل المسلسلات أو البرامج لا تخلو هي الأخرى من مشاهد العري والهمسات واللمسات التي تهيج الغرائز وتثير الشهوات الكامنة في مهجعها!! ولا أفهم حقيقة سر إقحام هذه المشاهد رغم أنها ليست جوهرية في العمل ولا يمكن أن تؤثر على تصاعد الأحداث الدرامية وتشابكها أو تقلل من تشويقها للمشاهد بأي حال من الأحوال؟!!

ولا يظن أهل الفن أننا نريد أن تصبح المسلسلات والأفلام خطبة جمعة أو عظة في كنيسة أو محاضرة في جامعة...!! طبعا لا يقول أحد بهذا ولا ننادي به، فالدراما دراما بشكلها الفني المتعارف عليه، لكن اسمحوا لي أن أقولها بصراحة إن معظم ما يقدم على الساحة الفنية منذ سنوات ليس فنا راقيا ولا محترما، إنه مجرد تهريج، وسوق رائجة لبضاعة فاسدة ملوثة تسمم الأخلاق وتفسد العلاقات الأسرية والاجتماعية في المجتمع، وفي رأيي المتواضع أن كمية العنف والتحرش الجنسي والأرق والاغتراب النفسي ومختلف المشاكل التي نعاني منها في المجتمع كارتفاع نسب الطلاق ليست ناجمة فقط عن ارتفاع تكاليف المعيشة وغلاء الأسعار الذي يحرق أعصابنا جميعا كل يوم أو كل ساعة، بل أزعم أن الدراما (والإعلام عموما...!!) من بين الأسباب المهمة التي تسهم في انتشار هذه السلبيات، ولا داعي هنا للدخول في الجدل البيزنطي حول: هل الدراما سبب من أسباب السلوكيات والمظاهر السلبية في المجتمع أم أنها فقط مجرد مرآة عاكسة تظهر لنا حالة المجتمع وما وصل إليه من رقي وازدهار أو انحدار أخلاقي وتدهور حضاري وسلوكي؟ وأظن أن هذا الجدل أشبه بالجدل البيزنطي حول: أيهما أسبق: الدجاجة أم البيضة؟! والأمر من وجهة نظر الكثير من خبراء التربية وعلم النفس والصحة النفسية واضح ولا يستحق كل هذا الجدل، فالدراما (ووسائل الإعلام عموما...) أصبحت من أهم الوسائط التربوية المؤثرة في مفاهيم الإنسان وسلوكياته بما تسوقه من قيم وأفكار وأنماط مختلفة للسلوك الإنساني في مختلف المواقف وفي كافة تفاصيل الحياة، حتى إن بعض الدراسات النفسية قد وجد أن المَشَاهِد الدرامية المؤثرة تتدخل بشكل لم يسبق له مثيل في رسم بعض التفاصيل الخاصة جدا في حياة الإنسان مع زوجه، فمن خلال ما يشاهده المرء تعلق بذهنه صور ذهنية معينة تؤثر في هذه العلاقة الحميمية الخاصة!!

والآن وبعد نجاح ثورتنا المباركة من حقنا أن نتساءل: هل سيظل حال الدراما المصرية لاسيما الدراما الرمضانية على ما كان عليه طوال عهد النظام البائد من السطحية والابتذال والتفاهة في معظم الأحيان، والترويج لقيم وأفكار مادية بحتة تكرس حالة الأنانية وانفصال الإنسان عمن حوله، وتمحوُرِه حول ذاته فقط، وحرصه على إشباع غرائزها وتلبية رغباتها بكافة الطرق والوسائل بغض النظر عن كونها طرقا مشروعة أو غير مشروعة؟! وهل ستبقى الدراما المصرية تطرح نفس الموضوعات النمطية المستهلكة وتؤدَّى بنفس الطريقة التقليدية التي جعلت الدراما السورية تتفوق عليها...؟!

والسؤال الأهم الذي ينتظر الجميع إجابته: هل ستبقى الدراما المصرية بعد نجاح ثورتنا الميمونة منحازة  ضد الإسلاميين؟! وهل ستصر كعادتها على إظهار كل من له لحية وتبدو عليه علامات الالتزام الديني بمظهر منفر، وتجسد شخصيته على أنها شخصية مَرضية سيكوباتية معتوهة أو معقدة، وكأنه مخلوق غريب وجد فقط ليخرب ويدمر ويحرق؟! مخلوق خلق من طينة خاصة، ليس في قلبه شفقة ولا رحمة، ولا يعرف سوى أن يصرخ ويزعق ويسب ويشتم ويجرح ويقتل بكلامه أو بفعله، مخلوق معقد، وملتاث عقليا، ويعيش خارج إطار الزمن، مخلوق رجعي ومتخلف، لا يعرف من المرأة إلا جسدها، ويفهم الدين ويفسره تفسيرا قاتما يتسق مع رؤيته السوداوية للكون والحياة، مخلوق كئيب يعادي أية مظاهر للبهجة والسعادة والرقة واللياقة والظرف واللباقة، ولا يعرف من ملذات الحياة الدنيا إلا الشهوة الجنسية التي تجعله ينظر للمرأة نظرة متوترة مسكونة بالشكوك والهواجس!!!

وهل ستبقى الدراما المصرية على موقفها الفكري القائم على تكريس فكرة الفصل بين الدين والدولة، وتهميش الدين وقصره على طقوس العبادة فقط التي تؤدى في المسجد أو الكنيسة؟! أم هل سنرى تعاملا راقيا ومختلفا وجريئا وموضوعيا من الدراما المصرية فيما يتعلق بالمسائل المصيرية التي أضحت جزءا من حديث الناس ونقاشاتهم الخاصة والعامة، مثل: أسس بناء الدولة المدنية ذات المرجعية الدينية، ومظاهر التدين في المجتمع وكيف يكون تدينا حقيقيا وجوهريا في اللب والمضمون وليس في الشكل والمظهر وفقط، وعلاقات الناس المتشابكة في الحياة، وعوامل وأسباب الفتنة الطائفية وطرق علاجها واجتثاث جذورها من الأعماق، وأسباب ثورة 25يناير وإيجابية الشباب ومبادرتهم ودورهم الحاسم في إطلاق شرارتها الأولى، وكيفية القضاء على كل أشكال الفساد في الدولة، وطرح رؤى جديدة للنهوض بمصر وبناء الإنسان المصري بناء جديدا، وصياغة حياتنا المعاصرة على أسس قوية ودعائم راسخة ومتميزة: فكريا وحضاريا وثقافيا واقتصاديا واجتماعيا وإنسانيا بل وحتى على مستوى المشاعر والأحاسيس؟!

                

 * كاتب إسلامي مصري