صناعة الفن النظيف

صناعة الفن النظيف

بين الواقع والطموح

د. كمال أحمد غنيم

[email protected]

ما زال الفن التشكيلي وما زال المسرح وما زال الفن السينمائي والتلفزيوني والإذاعي وما زالت منظومة الفن النظيف عاجزة عن التبلور والنهوض، وما زالت تشكّل بحضورها مساحات صحراوية شاسعة... تلك حقيقة صارخة يصدقها الواقع!!! 

ولعل من أهم مشاكل صناعة الفن الإسلامي النظيف أنه: لا توجد نصوص جاهزة كافية، فالنص الواحد يحتاج إلى جهود جبارة لإعداده كسيناريو وفق المعايير المطلوبة، ومن يقول بوجود نصوص جاهزة فليعرض لي منها خمسين الآن!

ولا يوجد مهنيون... يوجد بعض الموهوبين بعدد غير كاف وتأهيل ضئيل، ولا توجد أعمال تكفي لعرض تلفزيوني على مدار يوم واحد... فوجود بعض الأعمال هنا وهناك لا ينهي مشكلة بهذا الحجم، ولا يكفي حتى لدغدغة عواطفنا. ولا توجد أكاديميات تؤهل وتفرز وتدور بها (ماكنة) الحياة، والأنكى من ذلك أنه لا توجد رؤية! خصوصا إذا قلنا إننا نتكلم عن صناعة!! ولا نتكلم عن أحلام، ولا عن جهد المقلّ المقلّ المقلّ! مع العلم أن الكثير من الأدوات الأساسية لتشكيل صناعة فن موجودة بالفعل ويشكّل حضورها نِصابا ممكنا، لكنها مهجورة ومبددة وغير مُستفاد منها... وأحصوا معي وزارة الثقافة ووزارة الإعلام ووزارة التعليم... والإمكانات المتوفرة فيها!!

وهناك مشكلة تكمن في القول: "الظرف غير مناسب!!"، أما الظرف ذاته فهو مناسب جدا لنأكل ونتزوج وننام ونمارس حياتنا اليومية على الرغم من كل صعوبات الظرف... يا أخي (شيء لله) من أجل بناء الأمة بطرق عصرية أصبحت من الضروريات!

وإذا كنا نتحدث عن صناعة الفن في فلسطين المحتلة؛ فالموجودون من كتاب السيناريو والمخرجين لم ينتجوا أعمالا مميزة، ولا كان نتاجهم غزيرا، فنتاجهم لا يكاد يملأ برنامج يومين أو أسبوع إن تفاءلنا،

ولا زال التأكيد قائما على أن الأعمال الأدبية التي قد تصلح لسيناريوهات قليلة جدا ولا يوجد اهتمام بتفعيل وجودها!

وإذا تحدثنا عن الأعمال المميزة على الصعيد العربي خارج فلسطين كالرسالة وعمر المختار والتغريبة الفلسطينية... فيمكن القول إنها هي أيضا لا تشكّل ظاهرة فنية كبيرة وإنما هي بوارق.... ولا يوجد للأسف مهتمون بتطوير تلك الصناعة النظيفة!!

وأنا هنا لست متشائما لكني أقرأ الواقع بموضوعية، لعلها تصوّب المسار وتغير الحال. وحديثي ليس عن الاستعجال لحدوث طفرة فنية نظيفة مفاجئة، وإنما هو عن الرؤية الواقعية المصحوبة بالتخطيط المستقبلي... القضية ليست وجاهة يخدع بها البعض أنفسهم بعمل هنا أو هناك! القضية هي تكليف يُحاسب فيه المقصر إن لم يكن هنا ففي الآخرة! وما زلت على الرغم من ذلك كله حريص على التأكيد: "أن تصل متأخرا خير من أن لا تصل أبدا!!".

ولعل الاقتراح القائل بالعمل على تشكيل لجان متابعة لتلك القضايا يجعلنا نقول إن اللجان الموجودة لم تهتم بالثقافة والفن في أمور أقل تكلفة بكثير، من ذلك على سبيل المثال: الاستفادة من صحف يومية وأسبوعية تصدر بالفعل ولا تحتاج إلى تكاليف جديدة وعلى الرغم من ذلك علا فيها صوت السياسة على الفن والثقافة، فاُجتزت منها صفحات الفن والثقافة ببساطة، وغيّبت تحت سمعٍ وبصرٍ! فإذا كانت منابر ورقية -موجودة بالفعل لا تحتاج إلى جهد لصناعتها ولا إلى تكاليف- تفتقد إلى وجود محفزّات نهوض على المستوى الفني، فمتى سننهض؟؟

والمنابر الورقية لها أهميتها لأنها عامل من عوامل النهوض الحضاري المتكامل، وتغييب الثقافة والفن عنها يؤكد على غياب الرؤية الحضارية وعدم نضجها واكتمالها، وقد كانت من خلال دراستنا ومتابعتنا من ضمن عوامل يقظة ثقافية كثيرة في مراحل حضارية تاريخية سابقة، كما أن الحديث هنا جاء عنها يأتي كمثال على فشل اللجان المتابعة وعدم قدرتها على بلورة رؤية حضارية مكتملة وهيمنة الجانب السياسي –على أهميته- عليها، مما لا يبشّر كثيرا باللجان وما ينبثق عنها من مخرجات.

وكل ذلك لا يعني أننا لسنا ملزمين بتشكيل لجان تتابع الهم الثقافي والفن النظيف، لأن صاحبنا أديسون صاحب المحاولات العديدة المشهورة في صناعة المصباح لن يكون أكثر منا أملا وثقة بإمكان حدوث التغيير الصحيح، مهما آلمتنا النتائج وأبعدتنا المعطيات غير الصحيحة عن الوصول لإيجابية متوخاة، ولعل الحديث عن فشل اللجان القائمة يعدّ من باب تصحيح المسار والإشارة إلى أهمية الاعتناء بالمعطيات المؤثرة في تشكيلها لضمان نتائج أفضل، ويمكن أن تُفسر تغذيتنا الراجعة هذه على أنها نقد من أجل النقد، وأنها مشاغبة من أجل المشاغبة، وأنها ليست جديرة بالاهتمام، فتتكرر التجربة ويبقى الحال على ما هو عليه. ويمكن أن يُنظر إليها على أنها محاولة جادة وغيرة نابعة من تجربة، وتغذية مفيدة تُؤخذ بعين الاعتبار فتحقق نجاحا على صعيد التغيير نحو الأفضل، وقد علمنا الغرب المتسنم سنام الحضارة اليوم كيف يتعامل مع المعطيات دون انفعال وتسفيه، فيستثمر كل ملاحظة لمصلحة تطوير الأداء، حيث لم تسخر شركة صناعة سيارات من شكوى غريبة تقدم بها أحد عملائها مفادها أن السيارة لا تعمل عندما يشتري (الآيس كريم بالفانيلا) بينما تعمل فورا عند شراء (آيس كريم) بمذاقات أخرى! فأرسلت الشركة مهندسا خبيرا لدراسة الأمر ومعاينته، حيث وقف ذلك المهندس مذهولا أمام صدق الرجل، فقد أثبتت المحاولات العديدة أن السيارة لا تعمل بالفعل عند شراء (الآيس كريم بالفانيلا) من (السوبر ماركت)، حاول المهندس عدة محاولات ليصل إلى النتيجة نفسها... لكنه آثر أن يغير طريقة تفكيره لدراسة الموضوع بعيدا عن الطرافة التي بدا عليها الأمر، وأخذ في المحاولات الأخيرة يقيس مسافات السير والزمن المستغرق وكافة التفاصيل حتى استطاع أن يقدم تقريرا علميا جادا أسهم في حل المشكلة وتطوير السيارة، حيث تبين له أن الزمن المستغرق في شراء (الآيس كريم بالفانيلا) يستغرق زمنا أقصر من شراء المذاقات الأخرى لأن ذلك الصنف يباع في مقدمة (السوبر ماركت)، وله أكثر من عامل يقوم ببيعه نتيجة إقبال الجمهور عليه، بينما توجد المذاقات الأخرى في نهاية المحل، ويشرف عليها بائع واحد مما يجعل عملية شرائها تستغرق وقتا أطول بالإضافة إلى مرور المشتري لها بداخل السوبر ماركت مما يغريه أو يذكره بشراء أشياء أخرى، وكل ذلك له علاقة (بماتور) السيارة الذي يحتاج من أجل إعادة تشغيله إلى وصوله لمرحلة البرودة، وذلك يحتاج وقتا أطول، مما يحدد المشكلة في (الماتور) وإمكان تطويره للعمل بسرعة حتى لو كان ساخنا! لا في (الآيس كريم)!!   عذرا على الإطالة لكن معاينة المشكلة والتأني في التعامل معها أغرياني بالاستطراد، فالمهندس الذكي هنا لم يقل: "تلك مشكلة غريبة، وتقوم على معطيات غيبية"؛ بل إنه درس جوانب المشكلة بدقة أوصلته إلى المتغير المؤثر في المشكلة، ونحن عندما ننتقد أداء اللجان لسنا مع أو ضد اللجان، لكننا نحدد بالضبط العيب في اللجان، ونحدد الخلل فيها، ولذلك نحن مع تشكيل اللجان، ولكن ليس التشكيل لمجرد التشكيل، وإنما تشكيل اللجان وفق قاعدة "الرجل المناسب في المكان المناسب"، وسيبقى الرجل المناسب المتغير المطلوب للمكان المناسب، ولن تفلح المعادلات دون اعتدال تلك المعادلة، لأن ذلك الاعتدال يجعل اللجان عاملا حيويا من عوامل الحل لا عاملا سلبيا من عوامل تكريس المشكلة!

ولعل صناعة الفن النظيف بجهود دول متعددة تقف أمامه عدة عقبات منها البعد السياسي والبعد الاقتصادي والبعد الفني، وذلك من خلال صعوبة تسهيل العمل الفني النظيف عند الكثير من الهيئات السياسية، والتكلفة الكبيرة التي تمنع اجتماع عدد كبير من الناس لعمل متواصل على مدار العام وكل في بلد بعيد، وحاجة الأعمال الفنية –في الغالب- إلى انسجام نسبي على صعيد اللهجة وعلى صعيد تماسك الموضوع.

وهناك طريقتان للصناعة الفنية: طريقة المطر العشوائي ولا أفضلها، وطريقة المطر المنظم، وأقصد بالمطر العشوائي ما هو حاصل اليوم من جهود فنية متفرقة قد يلازمها الضعف لعدم اكتمال معطياتها وسرعان ما تخبو، مما يمنحنا مناخا صحراويا لا تفيده قطرات المطر المتناثرة هنا وهناك. أما المطر المنظم، فهو وجود ناظم يوحد الجهود على البعد، يخطط، ويموّل قدر المستطاع، ويهيّئ الظروف المناسبة لكل فريق في مكانه، ويجمع الجهد المتماثل بالتنسيق بين أصحابه حتى لو كانوا في أماكن متباعدة، مما يضمن عملا متواصلا مصنوعا على أعين، ومتابعا في كل بلد، وهنا تأتي أهمية عدم تكرار التجربة الناجحة في تشرذم يضعف الاتجاه ويؤخر النتائج. ومن ذلك تجربة فضائية طيور الجنة، فالغريب أنه إذا نجحت هذه التجربة ستجد المساندة لها بطريقة مغلوطة من خلال قيام أفراد آخرين بعمل مجزوء لمحطة مشابهة دون تجميع للجهود يضمن التواصل ويؤسس لنجاح يستطيع أن يتكاثر فيما بعد!!  مما يعني أن نجاحها يأتي ليس من خلال محاولة افتتاح فضائيات أخرى على غرارها، وإنما بتضافر جهود الجميع في بلاد مختلفة ومتباعدة لرفدها بنتاج فني راق، يدعم إمكان سيرورتها بنجاح وتواصل دون ضعف وتكرار، قادر على البقاء بالمستوى الراقي نفسه، كما أنه يبقى قادرا على الاستمرار بزخم لا تكرار فيه على مدار أعوام!!  ... وقس على ذلك فضائيات أخرى تهتم بصناعة أي جانب آخر من جوانب الفن.

ولا عيب في استخدام الإمكانات المحدودة لكن العيب هو الإصرار على التواصل بتلك الإمكانات دون تطوير. وهنا يجب التأكيد على الاستفادة من كافة الطاقات الموجودة في بلد ما، وعدم حجب طاقات أخرى عن إمكانية الإفادة وتفعيل المجال الفني، كما يحدث في إحدى الفضائيات التي تعنمد كاتبا واحدا وملحنا واحدا، ومنشدا أو منشدين يتكررون في كل عمل كأنما عجزت الأمهات أن يلدن أمثالهم، بل يصل الأمر بأحدهم أن يكون صاحب الكلمات والألحان والتوزيع والأداء! والمبررات جاهزة: "عدم صلاحية الآخرين للإنتاج!".

وما دمنا نتكلم عن صناعة الفن فالمهنية مطلوبة، والمهنية تتطلب وجود أكاديميات تخرّج متحصصين في فروع الفن المختلفة، فدون تخصص لا تستطيع ضمان جودة العمل وغزارة الإنتاج، والغزارة هنا مطلوبة لأننا نتحدث عن فضاء مفتوح يحتاج إلى نتاج غزير من أجل مواكبة الجماهير بنتاج متواصل، وحتى لا تصبح الفضائيات أسطوانات مشروخة تكرر الأعمال الفنية تكرارا يصل إلى تخوم الملل وآفاق العزوف.

وتفضل في البداية الأعمال القصيرة سواء أكانت أفلاما أم تمثيليات من ربع ساعة ونصف ساعة... لن نختلف على الشكل ما دمنا اتفقنا على أصل الفكرة. فليس من الضروري البدء بأعمال تحتاج إلى جهود أكبر من طاقتنا مثل المسلسلات الطويلة! مع التأكيد على أن المطلوب هو قدرة إنتاجية تستطيع أن تقدم عملا يوميا بتلك المواصفات على مدار العام أو إن شئت أسبوعيا! لكن إلى متى يبقى الحال كذلك؟ هل سنسعد ونملأ الدنيا ضجيجا ومساحات صحراوية شاسعة من الفن الإسلامي ما زالت مهجورة؟ بل ومساحات زمنية من عمر الناس ما زالت كذلك تنظر أصحاب قدرة على تقديم فن أصيل يروي ظمأهم ويكفي حاجتهم...

وإذا توقفنا عند روح المبادرة فجميل أن نتحدث عنها حتى لا تدوس كلماتنا أعمال الفدائيين من أهل الفن النظيف، الذين لم يحبطهم الواقع، ولم ينصرفوا عن محاولات أديسون التي ذكرناها وما زالوا يحاولون... وأنا أزعم أنني واحد منهم، ما زلت ممسكا على الجمرة، مبادرا إلى المشاركة في الحل، من خلال الاهتمام برعاية المبدعين، والقيام بإنتاج أفلام قصيرة، وفق المتاح من الإمكانات، وممارسة النقد، وإعلاء الصوت بأهمية تفعيل الفن ورعايته، على الرغم من أن محاولاتي تشبه اليوم في الصحراء الواسعة سفينة نوح عليه السلام التي لا تجد ماءا ولا بحرا... مع الفارق بين بحر نوح عليه السلام والبحر المرجوّ هنا!!

آخر مرة حضرت فيها نشاطا رسميا، إحدى الصحفيات أظن اسمها هنادي أو هند تساءلت في عتاب: لماذا يتحدث الأدباء والإعلاميون عن أحلام التميمي ومحمد الدرة وإيمان حجو وينسون الآخرين...

خرجتْ من باحة النشاط قبل أن أقول لها: هؤلاء الأدباء هم من أسهموا في معرفة تلك الأسماء... فالحديث بعمومية لا يفيد والتخصيص ضروري، ولو أدى كلٌ دوره فسنعرف تفاصيل الوجع كلها... وسنحصي بطولات كثيرة، وإبداعات رائعة، وإصرار على الحياة الكريمة... وسنمنح صورتنا الإنسانية حضورا أكمل وأجمل وأكثر بهاء وقدرة على الإقناع والتغيير.