الفن التشكيلي الفلسطيني

الفن التشكيلي الفلسطيني

في مواجهة الاحتلال

رام الله - خلف خلف  

على مدار عقود مضت، أبدع الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال، مستخدمًا جميع الأساليب المتوافرة بين يديه، فمن الحجارة والكتابة على الجدران، والمظاهرات السلمية، وأدب المقاومة، من شعر ونثر وقص، إلى الفن التشكيلي، الذي رغم أهميته كسلاح ثقافي في الحفاظ على الذاكرة والهوية الوطنية الفلسطينية، لم ينَل حقه في وسائل الإعلام، وبالتالي بقيت أهميته وتجربته مغمورتين، حتى تمكن بعض الفنانين الفلسطينيين من حفر أسمائهم بلوحات لا يمكن تجاهلها، مثل نبيل العناني، وكامل المغني، ومحمد كمال حرب، الذين نجحوا في تنظيم عشرات المعارض في الدول العربية والغربية خلال السنوات الأخيرة.

يقول الفنان محمد حرب -وهو عضو الهيئة العامة بجمعية الفنانين التشكيليين بغزة، وعضو رابطة الفنانين التشكيليين الفلسطينيين في رام الله- في حديث خاص لـ «العرب»: «تعرض الفن التشكيلي الفلسطيني خلال الحقبات الماضية لضربات عدَّة، ولكنه تمكن من المضي قدماً في مشواره، واستطاع بعض الفنانين إثبات ذواتهم على الساحة الثقافية، العربية والدولية، وقاموا بتنظيم العديد من المعارض داخل فلسطين وخارجها، وهو باعتقادي يعبر عن مدى إصرار الفنان الفلسطيني على مواصلة دربه، والتنبه لأهمية الفن التشكيلي كسلاح ثقافي مجهول».

وحول تجربته يقول حرب: «أحاول من خلال لوحاتي تبيان الهم والألم الممزوجين بالتحدي لدى كل فلسطيني يعيش على هذه الأرض، فقد تفتحت عيناي على مشاهد الانتفاضة، وجبروت الاحتلال، فأردت أن أعبر عن ذاتي باللوحات، والتي أجسد خلالها المشاهد اليومية للاحتلال الإسرائيلي، وحاليًا أستعد للبدء في معرض ينطلق من قطاع غزة لينتقل بعدها لمدن الضفة الغربية، ثم بعض دول أوروبا».

وقبل مدة نظم مجموعة من الفنانين التشكيليين الفلسطينيين معرضاً ضم العشرات من اللوحات المناهضة لجدار الفصل العنصري الإسرائيلي الذي يلف الأراضي الفلسطينية كإخطبوط. ويقول سميح أبو زكية -وهو أحد الفنانين المشاركين في المعرض المناوئ للجدار-: «الفن التشكيلي لغة عالمية، يمكننا من خلالها إيصال رسالتنا للعالم والتعبير عن سياسة الاضطهاد والقتل والتشريد التي نتعرض لها يومياً، واخترنا قضية المعرض لأنها تمس كل فلسطيني وعربي وكل إنسان حر في العالم».

ويتابع: «الجدار يقتل الحياة وصادر آلاف الدونمات من الأراضي الزراعية وفصل بين الناس وأراضيهم». وباعتقاد أبو زكية فإن الفلسطيني لا يمكن هزيمته، لأنه مؤمن بقضيته العادلة، ومستعد لبذل الغالي والنفيس من أجلها.

وقد شهدت فلسطين منذ النكبة عام 1948 العديد من المحاولات لوضع أسس الفن التشكيلي والرقي به، ولكن هذه المحاولات بقيت متواضعة، لانعدام المواد الخام والاستقرار السياسي، فالأوضاع كانت ملتبسة وموجة التهجير والطرد من العصابات الصهيونية على أشدها.

ويمكن هنا إيجاز أسماء بعض الموهوبين الذين تميزت تجاربهم في الفن التشكيلي في الأراضي الفلسطينية قبل النكبة، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، الفنان جمال بدران، الذي يصنَّف مؤسساً لقاعدة هذا الفن في الضفة الغربية، حيث

يعود إليه الفضل بتشجيع العديد من المواهب الشابة، وتعليمها أساسيات هذا الفن. إضافة إلى الفنان بدران، تشكل تجربة الفنان حنا مسمار في بداية عشرينيات القرن الماضي محاولة فذة لتطوير أساليب الفن التشكيلي، فقد نظم العديد من المعارض الفنية، ولكنها لم تلقَ قبولا لعدة أسباب، منها: عدم تنبه الناس لأهمية هذا الفن في تلك الفترة، كما أن لوحاته افتقرت إلى الإبداع مقارنة بالأعمال العالمية.

كما أن الفنان الفلسطيني إسماعيل شموط الذي كان قد التحق بكلية الفنون في القاهرة، أصر على مواصلة دربه في هذا المضمار، وأعد العديد من اللوحات والرسومات المعبرة خلال عامين من العمل المضني، وفي العام 1953 قام بافتتاح معرض للوحاته ومعظمها كانت مائية وزيتية، وهذه الخطوة التي لم يُعرها الكثيرون الاهتمام شكلت بداية لانطلاق الفن التشكيلي مجدداً في فلسطين، حيث بعثت الروح بالعديد من الفنانين، ومنهم: تمام الأكحل ونهاد سيباس

اللتين انضمتا لشموط بعد أن أنهيتا دراستهما في الخارج، وعملتا معاً على افتتاح أول معرض خارج فلسطين، وكان في لبنان عام 1954، وحقق صدى وترحيبا واسعين.

وخلال الحقب سالفة الذكر، وما اعتراها من إحباط ومعاناة، وبخاصة مع فقدان معظم أراضي فلسطين التاريخية لاحقًا في حرب العام 1967، جاءت فترة السبعينيات والثمانينيات، وخلالها كان الفن التشكيلي قد نضجت أساليبه واتخذ مدارسه ومناهجه، وبات هناك توجه ديمقراطي حر في الطرح والأفكار، بعيداً عن الصورة التأملية والخيال، ولعل ما زاد من جمالية هذه الألوان، اكتساؤها باللون الوطني، فقد شكل الفن التشكيلي إعادة صياغة لمفاهيم التشرد واللجوء الذي ذاقها الفلسطينيون خلال حربي 1948 و1967.

وفي العام 1984 فتحت جمعية الفنانين الفلسطينيين أبوابها، وتمكنت الفنانة الفلسطينية رنا بشارة من تجديد مسيرة الفنان الراحل عاصم أبو شقرة، وأبدعت بشارة في تسجيل معاناة الشعب الفلسطيني وأيضاً تثبت ذاكرته على أماكن وحوادث لا يمكن تجاهلها، وغلب على رسوماتها التشكيلية، استخدامها لنبات الصبار كدلالة على قوة التحمل والصبر والمثابرة.

ومع بداية حقبة التسعينيات، ظهرت أسماء العديد من الفنانين التشكيليين في فلسطين، وأبرزهم نبيل عناني الذي وصفه الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور بأنه «الشخص الذي يكتشف عالمه المركب بأدوات متمرسة ورؤية تاريخية حتى ليكاد يجتمع الأسطوري إلى الراهن من خلال تشريح الجسد الإنساني ويتجاوز الامتلاء مع الفراغ بما يشكل الجو العام للوحة».

ومن الفنانين الفلسطينيين المعاصرين والذين كان لهم فضل كبير في إنعاش

هذا الفن وتطويره: الفنان كامل المغني، وأنور أبو نحلة، ونداء سنقرط، ومحمد حرب.

وبشكل إجمالي، فإن الفن التشكيلي الفلسطيني عبَّر على امتداد نصف القرن الماضي عن حالات القضية الفلسطينية في مدها وجزرها، وعكس قضية كفاح شعب مناضل، وأسهم أيضا في إعادة صياغة مفهوم «النزوح والتشرد»، فقد نجحت لوحات كثيرة في هضم الماضي وتشرب الحاضر بأسلوب واقعي متميز وبخصائص تحمل في ذاتها الحنين إلى الوطن المغتصب، وتعبر رموزها عن حق العودة الذي سيمر على مصادرته في الأيام القلية المقبلة نحو 60 عاماً.