صورة طبق الأصل ..

صورة طبق الأصل ..

سفير متميز للمسرح التونسي

د. كمال يونس

[email protected]

قدمت فرقة التياترو التونسية ضمن فعاليات المهرجان الدولي للمسرح التجريبي في دورته ال19 على المسرح القومي بالقاهرة العرض المسرحي صورة غير مطابقة للأصل ،بطولة فؤاد الأيتم ، إيمان الجروشى ، حمودة بن حسين ، لطفي العبدلى ، تأليف وإخراج عاطف بن حسين ، وهو من العروض التجريبية ، وفكرته الأساسية مسرحة عبثية ساخرة لبعض مواقف تزخر بها الحياة ، في  إطار علاقة الرجل والمرأة ، الزوج والزوجة ، وما بين البساطة والتعقيد والسطحية والعمق يعرض العمل للمتناقضات من المشاعر والأحاسيس ، بين الإحساس المطلق بالحرية ظاهرا ، وباطنا بالقيود الخفية التي تكبل هذا العالم ، ومابين القهر والرغبة في الحياة واستمرارها تدور أحداث العرض التي يبدأها شخصان غريبان صفهما بما شئت ، وكيف شئت ، هل هما قرينا الزوج والزوجة ، أم شيطانان ، أم أصوات السخرية الكامنة في أعماق الزوجين ، أم القوى التي تدفع بالأحداث وتحركها فيكون الرجل والمرأة أشبه بالريشة في مهب الرياح .

لقد وفرت فكرة العرض لمخرجه أن يتجول على خشبة المسرح ويحلق برؤيته في فضائها الرحب ، وقد تحقق لعرضه ومدته 65 دقيقة حيوية نادرة ما تتحقق الآن في العروض المسرحية ، خاصة المقدمة تحت لواء التجريب ، في إطار من كوميديا المواقف ، الطبيعية ، غير المتكلفة ، الضحك فيها لصالح الفكرة والرؤية يعمقها ، وذلك حين أحكم نسج المواقف الضاحكة لتصير من صميم بناء العرض،  وجزء لا يتجزأ من بنائه الدرامي غير التقليدي ، فالمواقف المتناثرة المختارة بعناية من المواقف التي نمر بها في الحياة، وقد صيغت بحيث صار لكل منها ذروته ، ولكنها متصلة دراميا ، منفصلة من حيث الترتيب ، في إطار مسرحة الحياة ، وذاد من تألق العرض وجماله ، والتوتر والتشويق الذي ملك على الجمهور حواسه ، مع الترقب ، والإتيان بغير المرتب له في ذهن المتفرج ، مما يثير ويحرض على متابعة العرض بحرص ويقظة.

ومع استخدام للإضاءة وألوانها وشدتها وخفوتها ، والظلال بطريقة السهل الممتنع ، بلا تعقيد ولا استعراض للتقنيات المعقدة ، بل الإضاءة العادية المحدودة الأدوات اللون والظل والشدة والخفوت ، ولكن بتقنية مبهرة معبقة بالدلالات الدرامية ، على خلفية وجانبي المسرح ، ورسمها بالأصابع للقرين من خلف رأس الزوجة تارة ، والزوج تارة أخرى ، مع ديكور بلا وحدات تقريبا عدا لوحة سوداء في الخلفية مرسوم عليها ظل لرجل وامرأة يخرجان منه لتبدأ أحداث العرض ، ولوحتان جانبيتان لونهما أسود ، حقق الديكور سيولة في حركة الممثلين ، دخولا وخروجا وحركة على الخشبة في يسر وحرفية ، وملابس الممثلين بين الرداء الأسود والأحمر للزوجة ، حسب انفعالات الشخصية في  كل مشهد بعينه ، حسب توافق مدلول اللون دراميا ، وملابس القرينين البزتان بلونهما الأسود،  وفيهما بعض من قماش أحمر ، والنظارتان تشبه تلك التي يرتديها رجال المخابرات والبودى جاردات ، مع الصلعة المهيبة لكل منهما ، وتوافق ملابس الزوج حسب كل موقف درامي ،ولعل عمق دلالة قطرات المياه التي تنزل من السقف ،والزوج الذي يحرص علي أن يشربها بعد أن يجمعها بيديه، لتفر منه ليلحس ما تبقى من أثر المياه على كفيه ، لها من عمق الدلالة الكثير، لتوضح مدى الجدب والجفاف في حياة يتنافر فيها طرفاها الرجل والمرأة  ( الفقر العاطفي .. فقر المشاعر والأحاسيس )، ويزداد الجدب كلما اتسعت الهوة بينهما ، إذن حقق للمخرج سينوغرافيا ( تصميم مشاهد العرض ) توافق الزمان والمكان والحدث والإمكانيات ، حيث يجتهد الفنان ليبرز فكرته بما توافر لديه من إمكانيات لا يعرف المستحيل ، ومن هنا تتحقق للسينوغرافيا جمالها ورونقها الخاص ، حين يتحقق بها ولها ومعها ، وفى ظلها التأثير الدرامي الخارجي للعمل ، حيث إمكانية الحدث في أي زمان ومكان ، وبين أي رجل وأي امرأة ، على خشبة المسرح ، والداخلي الخاص في نفس الممثل كي يبدع ويتعايش مع الدور ويتقمصه ، والمتفرج حين يقبل ويرتضيها من داخله كإطار للأحداث ، مع مصاحبة للموسيقى في أماكنها وتوظيفها كأحسن ما يكون .

عاطف بن حسين مخرج العرض أخرج لفرقة التياترو هنا تونس ( 2002) ، وألف وأخرج وضع حضاري ( 2005 ) ، وعمل ممثلا في الفلسطينيين ( 2003 ) ، لصوص بغداد ( 2004 )،   وفى عرضه صورة غير مطابقة للأصل ، أبدع في تعامله مع الكلمة ، والحوار ، وأجاد اختيار ممثليه ، موظفا طاقاتهم الإبداعية ، مبرزا مكامنها في أحسن صورة ، فالجميع بلا استثناء أبطال ونجوم لهذا العمل ، ومن الصعب أن تبحث أيهم كان أحسن أداء وتمثيلا من الآخر ، فلقد عاش جميع ممثلي العرض حالة فنية متفردة من التقمص ، والأداء ، وإيفاء الشخصيات أبعادها الدرامية بكل مقاييس الأداء ، وحتى لو كان هناك أي ارتجال في العمل فلقد كان موظفا بدقة ، الزوج ( فؤاد الأيتم ) كوميديان بدرجة ممتاز ، متلون الأداء ، خفيف الظل ، القرينان  حمودة بن حسين ، لطفي العبدلى أكسبا العمل رونقا إبداعيا خاصا ، لا يملك المرء إلا أن يصدقهما يترقبهما يتفاعل معهما ، يبحث من هما ، ولكن لا يصل لإجابة محددة ، تسكن نفسه إليهما فهما غيب ، ولكن يرتدى ثوب الطرافة ، لا القتامة ، طبيعية أداء ، رشاقة فنية متميزة ، الزوجة (إيمان الجروشى ) كوميديانة ذات حضور قوى طاغ ، في كل انفعالاتها كانت تلون أداءها حسب الموقف ، في رشاقة الفنان القدير المتمرس الموهوب ، انتزعت ضحكات الجمهور حين قلدت فيروز في أغنية حبيتك يا حبيبي ، شكل جميع ممثلى العرض وحدة عضوية واحدة ، حققت له نجاحا وتواجدا فنيا مثيرا للإعجاب ، ويكفى منافسته على لقب أحسن عرض ، في ظل ترقب النقاد والجمهور ممن حضروا العرض أن يحصد جائزة متميزة ، على أي من مستويات الجوائز الفنية ، ولكن؟!!!، كان ما كان ، وقد ترك الفنانون التونسيين علامة وبصمة في الأذهان على تألقهم ورقيهم الفني والإبداعي ، ويكفى أن العرض كشف عن قدراتهم جميعا في بهاء وجلال ومعهم مصمم السينوغرافيا صبري الغندوسى .

التجريب حيث البؤس والضعف وفقر المشاعر والجدب العاطفي ، صاروا المحرك للأحداث ، مطلقين العنان للمخرج كي يوظف كل أدواته الإبداعية ، وأركان العملية المسرحية الإنتاجية، متحايلا عليها، ليصول عبر الخشبة في عمومية الزمان والمكان والحدث ، ليحلق وممثلو العرض في رحابة الإبداع الفني، في ظل استخدام لأقل التقنيات والإمكانيات ليعلى من قدر فكرته التي طرحها العرض ، ليضع الأحداث فى إطارها ،ليستحق العرض ككل ، وعن جدارة الثناء والإعجاب .