تراتيل القهر .. سورية

بعد رحلة شقاء قضاها زوجها ( المستقبلي) ما بين الحدود هروبا من عذابات السجون السورية الأسدية ،استقر به المقام في إحدى الدول العربية ، نفسٌ بائسة مهزومة ، غربة طاحنة ملعونة ، هوان يتملك الروح قبل البدن ، لكنها أوعية الحياة مازالت تحوي الفتيت النذر وتفرض نداءاتها ، وتحت هذا الضغط واستجابة لهذه النداءات بدأ البحث عن عمل ...وآخر ....وآخر ... دون جدوى وبعد جهد جهيد استطاع أهله في سورية أن يرسلوا إليه شهاداته التي تمكن من خلالها العمل في حقل التربية والتعليم .

جمع شيئا من المال ، وبدأ يفكر في الزواج ، رجل يطرق أبواب الأربعين ، يبحث عن عروس ؛ليكمل معها ما تبقى من أيامه التي يستجديها ألا تكون كسابقتها. 

رشح له أصدقاء العمل اكثر من عروس ممن حولهم من النساء ، لكن قلبه ما زال معلقا هناك في بلاده وبدأت معارك احاديث النفس تترى. 

- لماذا لا آخذ عذراء من بلادي ؟ إن لم أكن أنا عونا لعذراوات بلادي في كربهن ، فمن سيكون ؟؟ 

- ولكن هل بقي في بلادي عذارى ؟؟ هل مازالت عذراء بلادي تتمتع بما تتمتع به كل البنات ؟ الفرح .. المرح .. الجمال الروحي قبل الجمال الملمحي ؟ 

- لم لا ؟ لا شيء يموت كليةً إلا إن قبض الخالق الأرواح ، لابد أن فيهن بقية من حياة . 

- ستكمل حياتك مع واحدة تحمل بقايا حياة ؟ 

- وماذا عني ؟ هل يحمل مثلي تيّاك الحياة الكاملة الندية التي أحسد عليها ؟ بقية حياتي مع بقيتها نصنع ما يصلح أن يكون لنا حياة 

- ولماذا لا تبحث عمن تعطيك حياة كاملة ؟ أما آن لك أن تخرج من وعائك الضيق إلى ما هو أوسع ؟ 

- ومن لبنات بلدي ؟ علّني أظفر بواحدة أنقذها من أنياب القهر ، وتعيش معي هنا . 

- مازلت تحمل روحا طيبة ، مازالت الحياة تدب في أوصالك . 

بدأ في مراسلة أهله للبحث عن عروس ، وقد وقع الاختيار على إحداهن ، ووافق أهل العروس على إرسالها للعريس الممنوع من دخول بلاده، المطلوب من قبَل النظام ، وتمت الخطبة . من عادات أهل هذه البلدة أن مراسم الزواج لا تتم إلا بموافقة من بعض الأعيان وهم طبعا أتباع النظام ، وهناك أوراق لا يمكن أَن تُصدّق وتختم دون المرور بهؤلاء الأعيان و ذهب أهل العريس لإتمام الأمر إلا أن الأعيان أبوا التصديق إلا في حضور العروس وحدها ، وجاءت العروس وهي تعلم أنها إن سلِمت مما فُعل في نساء حماة ،فقد لا تسلم من شياطين الأعيان ،ولكن اسمها صار عندهم ، وعاجلا أم آجلا سيطلبونها ، ولابد أن تذهب وحدها - بأمر الأعيان - دون أب أو أخ أو جار ، وكأنه تسليم الروح باليد ، وإن شيت فقل : بل هو خنق الروح باليد دخلت المخفر تضع خمارا على رأسها ونقابا على وجهها ، تلبس جلبابها الواسع الفضفاض ، تحصنت بكل ما يمكن أن يتحصن به المسلم من دعاء. دخلت المكان ، فقابلها المسؤولون هناك ، وبدأت عذابات السخرية وانهمرت الكلمات الخادشة لحياء أي عذراء حرة .... تضعين الحجاب وانت زانية بنت زانية تبحثين عن الزنا ، أزيلي هذا النقاب أيتها الـ ......... وشدوا النقاب عن وجهها 

لهفي عليها إذ يروِّعها. أوغاد الخنا وأرباب العُهرِ . وهي المصونة أين معتصمٌ. ليردّ عنها مخلب المكرِ؟. 

دخل المكان رجل مسؤول تبدو عليه علامات الهيبة - كأنه الملاك رغم شيطانيته..... لكنها إرادة الله إن أرادت النجاة لعبده الذي تحصن به واستغاث - نظر في ورقها الملقى على الطاولة وقال : هل أنت ابنة فلان الذي يتاجر في كذا ؟ قالت : نعم ، قال : فما أتى بك إلى هنا ؟ قالت : طلبوني لتصديق أوراق الزواج ؛ لأسافر إلى زوجي ....... دخل الحضور كله في غيبوبة صمت ، صدّق لها المسؤول - الذي وصلها في الوقت المناسب - الأوراق بسرعة، وأمرها أن تغادر البلاد فورا وألا تعود وألا تنظر خلفها... حملت حقيبتها في ليلة ليلاء ، واختفت عن الأنظار مخافة أن يتبعها أحد من الأعيان بعد أن حَلَت في عينه لكنه لم يتم المَهَمّة . اختفت عن الدنيا بأسرها انتظارا لموعد السفر ، تهاتفت مع شركة الطيران لتقريب الموعد ، فكان ما أرادت ، اعتذر أحدهم عن مقعده في الطائرة وكأنه يتنازل بأمر الله لها عنه ، سارعت إلى المطار وحيدة دون توديع أهلها أو علمهم حتى بتوجهها إلى المطار . تفرّ مِن كل مَن يعرفها وكأنها تفرّ من عارها ، وهي العفيفة الطاهرة في سوق النخاسة. أصعدت إلى الطائرة ولم تلوي ، ولم تأسف على شيء نبذته خلفها . وصلت مطار الدولة العربية المأمولة ، بدأت في البحث عن هاتف زوجها فلم تجده ، يبدو أنها قد نسيته مع تواتر الأحداث والخوف الذي كان يتملّكها ، فلم يكن يعنيها من الأمور أمر كحرصها على الخروج سليمةً معافاةً من القرية الظالم أهلها، لأول مرة تركب الطائرة ، ولأول مرة تفارق أهلها ، ولأول مرة تتعامل مع إجراءات السفر ، ولأول مرة ، ولأول مرة .... ولأول مرة .....، لكن كل الصعوبات تهون أمام فوزها بنفسها . مكثت اليوم كله تتحرى السبل للاتصال بزوجها ، عبثا تحاول ...رُفع أمرها إلى أمن تيك الدولة ، قام الأمن بالاتصال بزوجها بعد عدد من الإجراءات ، وتمّ تسجيل اسم الزوجين في سجلات أمن الدولة الجديدة ؛ ليكون لهذين الاسمين النصيب الأكبر من أحداث أمن الدولة الجديدة . عذرا أيها الهاربان ... كل دولة عربية يجب أن تؤمن نفسها ضدكم ... أنتم عار على هذه الأنظمة ، عار يقضّ مضاجعهم . وانطلق العريسان إلى بيت الزوجية تحدوهما خيبة الأمل ... هل كمثل هذا تكون البدايات ؟؟ أي حظ عاثر هذا ؟. ركبا السيارة ، ولا يجد العروسان شيئا يبدآن به الحديث ... هل يستفسر زوجها عما فعلته بها المخابرات في نقطة الأعيان ؟ أم ماذا فعل النظام بها في حرب حماة ؟ هل طالتها الأقذار والنجاسات ؟ بدأ شبه اليقين يتمكن منه بأن شيئا من هذا قد حدث ... هل يمطرها بوابل الملامات على نسيانها لرقم هاتفه ؟ أم على كونها السبب في استدعائه إلى المخابرات ؟ أم بسبب فتح ملف جديد له في دولة أسدية سادية جديدة ؟ هل يبدأ معها تحقيقا جديدا ، أم يتركها تتضاءل في غرفتها .. وهو يجلس خارجها محاولا استيعاب الحدث ..... أي اختراق نفسي هذا الذي تعانيه هذه الحفنة من البشر ؟ أي استعداد للهزيمة والذل قبل وقوعهما ؟. أي تتابع لتيك الخيبات حوّل حياتهم إلى قطع من الليل المظلم ، لا تقطعه برقة أمل أو ومضة حياة ؟ أي جبروت وظلم ذلك الذي بدد نفوسا خلقها الله أبيةً إلى أرواح بل أشباح تألف الخنوع والدنيّة. 

وتوالت الصباحات والمساءات ولا زالت سورية ترزح تحت نير القهر والوحشية بمباركة كل دول العالم .. أصرخ في فلاة : أين أنا !

وسوم: العدد 764