انعكاس السلام (قصة واقعية للتعايش الإبداعي)

بداخل عقولنا عالم لا نهائي من الأبواب والمرايا السحرية، يفقدك الإحساس بالوقت. عالم متنوع وسماء متجمعة في مجموعات وفوضى من الأشكال والحالات والمراحل وموروثات وإمكانات... عالم لا يوجد فيه مستحيل، وكل الاحتمالات مطروحة يستطيع كل شخص أن يقدم إسهاماته؛ وجمالية هذا العالم أنه في حركة دائمة يواصل العمل حتى في غيابك، يولد أفكار جديدة وإلهامات غير متوقعة. مناخ تتوارى فيه الطاقات الدفاعية المتطرفة وتعلو فيه الطاقات الإبداعية تفجر سبلا للتعايش يغير علاقاتنا بخصومنا القدامى حيث نصبح فجأة شركاء وليس أعداء متحاربين.

وهذا العالم جسده " اتحاد إيروكويس" أو النظام الدستوري للإيروكويس". موروث عظيم  نتج عنه تأسيس حالة سلام على مدار ألف عام تقريبا، وأفرز لنا أول قانون عظيم للسلام وأقدم ديمقراطية تشاركية في العالم. وذلك بين الأمم الخمس(قبائل الموهوك، والأونياد، والأونونداج، والكايوجا والسينيكا) من السكان الأصليين لأمريكا القاطنة في جنوبي منطقة البحيرات الكبرى. التي عاشت في حروب دموية على مدار قرون من الزمن، وكانت كل قبيلة منها تريد لنفسها موقع السيادة.

العجيب في الأمر أن هذا النظام لا يزال إلى يومنا هذا، يرأسه مجلس من شيوخ القبائل، وتتخذ معظم القرارات فيه من خلال استطلاع. آراء يحظى كل منذوب فيه بصوت لا يقل عن صوت غيره. ورغم أهميته، فإن هذا المجلس لا يتعامل إلا مع القضايا الكبرى، في حين أن معظم الأمور المحلية تتعامل معها المجالس القبلية في نظام حكومي اتحادي فريد. ومن المثير أن مجالس النساء لديها حق النقض لقرارات القادة الرجال.

ورغم اختلاف المؤرخين حول درجة تأثير إتحاد إيروكويس، فيبدو أن هذا الإتحاد قدم نموذجا لتأسيس دولة الولايات المتحدة، فقبل عقود الثورة الأمريكية، اقترح بنيامين فرانكلين اتحادا مشابها للمستعمرات البريطانية في أمريكا، وكان مبهورا ب مشروع اتحاد الايروكويس وقال عنه "لقد صمد لزمن طويل ويبدو أنه غير قابل للإنهيار" وتساءل إن كان ذلك الاتحاد بهذه القوة فلماذا لا يتم تطبيقه على المستعمرات البريطانية.

بين الأمم الخمس(قبائل الموهوك، والأونياد، والأونونداج، والكايوجا والسينيكا) من السكان الأصليين لأمريكا القاطنة في جنوبي منطقة البحيرات الكبرى. التي عاشت في حروب دموية على مدار قرون من الزمن، وكانت كل قبيلة منها تريد لنفسها موقع السيادة.

*** تقول الأسطورة أن الفضل في التعايش السلمي بين القبائل المتناحرة يعود لرجلان قاما بتدشين معركة عقلية وروحية استمرت عدة سنوات.

 

 حدث هذا في القرن الثاني عشر أن ظهر غريب تطلق عليه الأسطورة اسم "ديجاناويدا" أي صانع السلام ، تقول الأسطورة إن صانع السلام هذا قد بحث عن محارب متعطش للدماء ويحب العنف، وكان مرعبا ومعزولا عن الآخرين حتى إنه لم يطلق عليه أحد أي اسم.

وفي ذات ليلة تسلل صانع السلام صاعدا إلى سقف كوخ ذلك المحارب، حيث كان الدخان في الكوخ يتصاعد من فتحة في سقفه، وبداخل الكوخ كان المحارب جالسا بقرب إناء يغلي وعندما رأى وجه ذلك الغريب منعكسا على أعماق الماء في الإناء أذهله جماله، وبدأ يفكر في مدى الشرور التي يرتكبها... وعندما نزل الغريب من فوق سقف الكوخ ودخل، عانقه المحارب وقال " لقد اندهشت عندما رأيت رجلا ينظر لي من قاع الإناء، وعندئذ قلت لنفسي" إن عادتي في قتل الناس ليست صحيحة". ثم تحرر مما يحمله من أعباء أمام الغريب، وحكى له قصته فاستمع الغريب له باحترام وفي النهاية

قال المحارب" لقد انتهيت من حديثي وحان دورك وأنا سأسمع إلى كل ما تريد قوله".

فقال له صانع السلام" لقد غيرت الآن نمط حياتك، وولد لديك إطار عقلي جديد، وهو الصلاح والسلام. وعندئذ نظرا معا في الماء فوجدا أنهما متشابهان كثيرا. وأطلق صانع السلام على المحارب اسما، وهو هاياواثا وقام الرجلان معا ب" تدشين معركة عقلية وروحية استمرت عدة سنوات."

*******

  لترجمة ما حدث بين الرجلين من الناحية العلمية، سببه ما يعرف بخلايا المرآة(العصبونات المرآتية)؛ فقد اكتشف في جامعة بارما بإيطاليا سنة 1990 عن طريق العالم الإيطالي Giacomo Rizzolatti خلايا عصبية مرآتية، فمن خلال اختبارات قام بها على قردة من فصيلة "المكاك" ليعرف أي الخلايا في أمخاخها تستثار عندما يحصلون على قطعة طعام، وبقياس النشاط الدماغي لقردة تأكل الموز وأخرى تشاهدها وهي تأكل، تبين له أن نفس المناطق من الدماغ عند كلا المجموعتين قد تحفزت بنفس الدرجة، فالنشاط الدماغي للقردة التي تأكل والتي تشاهد تعمل بنفس الطريقة.

 وقد أذهله ملاحظة نفس الخلايا تستثار عندما طبقت التجربة على الإنسان، حيث لاحظ نفس الظاهرة وخلايا مشابهة لدى الإنسان في جهة ما يسمى مركز بروكا (مركز اللغة في الدماغ). هذه الدوائر العصبية تنشط تبعا لذكريات معينة والأهم أنها لا تقتصر على معرفة الجزء الميكانيكي للفعل، بل تترجم لنا حتى الدوافع والنية الكامنة وراء الفعل. فعندما ترى شخصا يبتسم تنتابك رغبة داخلية بضرورة الابتسام ويعتريك شعور بالارتياح  والفرح حتى وإن أحجمت رد البسمة.

وهذا يفسر تأثرنا البالغ عندما نشاهد أحدا يتألم أو يعاني من جرح بليغ وكأننا  نعاني من ذاك الجرح أو تثاءبنا بمجرد رؤية شخص آخر يتثاءب، إن هذه الخلايا العصبية تشعرنا بما يشعر به الآخرون وتدفعنا لمساعدتهم واحتضانهم حفاظا على التماسك الاجتماعي. فالله سبحانه وتعالى زرع فينا هذه الميكانيزمات العصيبة حفاظا على الأنواع الحية خصوصا الاجتماعية من الانقراض. وبالتالي نتساءل إذا كانت قدرتنا على التعاطف قدرة طبيعية، وكان لها ذلك الأثر العميق، فما سبب ندرتها؟

******

 لذلك قمت بعرض هذه القصة لأخذ العبرة، وأن أناشد من خلالها أن الإنسان المسالم مرآة لأخيه الإنسان وإنعكاس لأفعاله وسلوكياته؛ خصوصًا النخب الفكرية والعلمية والثقافية والمشتغلين بالقضايا الاستراتيجية ذات المنحى الإنساني العام.

وكما هو ملاحظ، تعيش الأسرة الدولية أمام تحديات بلغت مستوى من الحدة والضراوة والخطورة، مما أدى إلى تقويض السلم والأمن الدوليين لا سبيل إلى التعامل معها، ومواجهتها، والعمل من أجل تجاوزها، إلا بالحوار على شتى المستويات؛ الذي يُفضي إلى التفاهم والتقارب والتوافق على الحلول والتسويات العادلة التي تتم في إطار القوانين تسعى  لبناء المستقبل الإنساني الآمن وإبعاد خطر الصدام بين الثقافات والصراع بين الحضارات، وهما الجمرة الخبيثة التي تشعل الحروب وتدمر الحياة وتهدد السلام العالمي.

لذا أجد التعايش قيمةً راقيةً من القيم الإنسانية، يستحق منا النظر والتأمّل والانتهاء فيه إلى صياغة طرق إبداعية تعلمنا العيش مشتركين داخل مجتمع واحد ونضع المصلحة العامة صوب أعيننا لتحقيق الأهداف الخاصة بنا وبهم.

وسوم: العدد 769