العام الجديد

اقترب العام الدراسي من الانتهاء.. وأخذت سارة تستعد لاختبارات نهاية السنة.. لقد كانت سارة من الطالبات المجدات المتفوقات على فصلها في الجامعة.. ولقد بذلت جهداً كبيراً للوصول إلى المرتبة الأولى.. وكادت تحصل عليها لولا وجود عدد بسيط من الطالبات اللواتي سبقنها فكان ترتيبها السابع على جميع طالبات فصلها.. لم تحزن سارة لهذه النتيجة غير المتوقعة.. ولم تحقد وتحسد أو تتحامل على من سبقها في الفصل وإنما هرعت إلى صديقاتها الناجحات تهنئهنَّ بالنجاح.. وإلى صديقاتها الراسبات تواسيهنَّ وتجدد لهنَّ همتهنَّ وتطلب منهنَّ المثابرة والجد والاجتهاد لتجاوز هذا الفشل في العام القادم بإذن الله، عادت سارة إلى دارها والفرحة الغامرة تملأ كيانها.. استقبلتها أمها بالعناق والقبلات.. وما إن علمت بنجاحها حتى أخذت دموع الفرح من عينيها.. ثم أطلقت زغرودة كتعبير عن هذه الفرحة العارمة.. وفي غمرة فرحها وعناقها مع أمها نسيت أخاها سليمان الصغير الذي وقف خلفها ينتظر دوره في التحية والتهنئة..

سليمان: بلهجة بلدية محببة هيه.. نحن هنا..!!

سارة: تلتفت إلى أخيها وتنظر إليه بشوق ومحبة.. أنا آسفة.. آسفة جداً يا أخي الحبيب..

سليمان: بلهجة بلدية محببة.. مطنشاني على الآخر.. يا ست سارة..

سارة: تتقدم إلى أخيها وتعانقه.. أبداً يا أخي الحبيب.. ولكن..

سليمان: ولكن ماذا؟.. ربع ساعة وأنا أنتظر وأنت من حديث إلى حديث آخر مع الست الوالدة..

سارة: وهل تغار من ست الكل يا سليمان.

سليمان: ليس بالضبط .. إنما للصبر حدود..

سارة: كلامك زي العسل يا ولد يا سليمان.. تعال هنا وشاركنا الحديث.

سليمان: حاضر يا أستاذة.

الباب يقرع.. يذهب سليمان ليفتح الباب وهو ينادي بلهجته البلدية المحببة.

سليمان: أيوه.. جاي..

الباب يقرع ثانية فيصيح سليمان بأعلى صوته..

سليمان: من بالباب.. قلت لك أيوه.. جاي.. يفتح الباب ليرى عمه أبا عثمان.

أبو عثمان: السلام عليكم يا بن أخي الحبيب.

سليمان: وعليك السلام يا عماه.. أهلاً بك.. أهلاً بك يا امرأة عمي.. تفضلوا..

تدخل أم عثمان أولاً.. ثم يهم أبو عثمان بالدخول وهو يصيح بصوت مرتفع: يا الله يا معين..

سليمان: تفضل يا عماه.. إلى هنا إلى غرفة الضيوف.

يدخل أبو عثمان إلى غرفة الضيوف بينما تدخل أم عثمان إلى داخل الدار..

الوالدة: أهلاً بك يا أم عثمان..

أم عثمان: تتقدم إلى الوالدة وتعانقها.. أهلاً بالحبيبة الغالية..

الوالدة: تفضلي.. تفضلي.. لقد سعدنا بقدومك..

أم عثمان: ولكن أين الحبيبة سارة.. أين عروستنا الحلوة..

سارة: تطل من غرفتها.. أنا هنا يا مرات عمي.. أهلاً بك.. تتقدم إليها وتعانقها..

أم عثمان: بلهجة بلدية.. والله كبرتي وبقيتي عروسة.. يا سارة يا بنتي.

سارة: شكراً يا مرات عمي..

أم عثمان: بلهجة بلدية.. ماني عارفه إيه الجامعة اللي تفكري بيها.. يا بنتي يا سارة..

سارة: لا أفهم.. ماذا تقصدين يا مرات عمي..

أم عثمان: أقصد دخولك الجامعة والتعب والشقاء.. ما له فائدة.. أو مبرر يا بنيتي..

سارة: وهل أصبح العلم عندك بدون فائدة أو مبرر؟

أبو عثمان: من الداخل وهو يهم بالدخول.. يا الله .. يا الله.. أنا سامع حديثكم يا بنت أخي يا سارة..

سارة: وما له.. يا عمي.. نحن لا نتكلم بالأسرار.. تتقدم إلى عمها وتسلم عليه.

أبو عثمان: أقصد مرات عمك معها حق.

سارة: ماذا تقصد يا عماه؟

أبو عثمان: أقصد الجامعة اللي دخلت مخك هالأيام..

سارة: وهل الدراسة في الجامعة أصبحت عيباً وسبة وعار للفتاة يا عماه؟!

أبو عثمان: لا يا بنتي معاذ الله.. لم أقصد ذلك.. ولكن لا فائدة منها للبنات أمثالك.

سارة: تمط شفتيها باستغراب.. كلامك عجيب يا عمي!!..

أبو عثمان: البنت يا سارة مآلها إلى بيتها وزوجها وأولادها.. لا أدري لماذا تتعبين نفسك في الدراسة والاجتهاد والتحصيل..

سارة: لقد كنت أظن أن قدومكم لأجل المباركة لي بالنجاح.. ولكنكم فاجأتموني بهذه الكلمات.. عن إذنكم أحضر القهوة يا عمي..

تخرج سارة غاضبة من صالة الجلوس وتذهب إلى المطبخ لإعداد القهوة للضيوف.. لقد قصدت الخروج لكي لا تصغي إلى مثل هذا الكلام البعيد كل البعد عن أي مضمون خلقي أو ديني أو منطق سليم.. وقفت أمام الموقد تفكر بالكلام الذي سمعته من عمها وزوجته وبما يرسمونه في أفكارهم .. وهنا تذكرت عثمان ابن عمها.. الذي يعمل في محل بيع اللحوم مع والده.. تذكرت ذلك الفتى البسيط الأمي الجاهل الذي فشل في دراسته فترك الدراسة منذ المرحلة الابتدائية ولم يتعلم بعد القراءة والكتابة والحساب.. والتحق بمحل والده يوزع الطلبات على الزبائن هنا وهناك..

كان عثمان ولداً طيباً محبوباً في الحي الذي يقطن فيه.. وكان جميع أهل الحي يتندرون ببساطته وشكله.. لقد كان بديناً جداً بشكل ملفت للنظر لكثرة ما يتناوله من اللحم والشحم في محل والده.. كان يلبس لباساً شعبياً عبارة عن جلابية لون بيج ويضع على رأسه قبعة وعندما يمر من أية منطقة يتلقى كلمات الترحيب والمزاح والنكات من هنا وهنالك..

* خفف هالكرش شوية يا عثمان..

* خلي دور لغيرك يا عثمان..

* وصلت 150 كيلو ولا لسه..

* ما تأكل اللحم والشحم.. خلي دور للفقراء والمحتاجين..

* راح تدخل مسابقة الرقم القياسي يا عثمان..

* ناوي تساوي شكلك كروي يا عثمان..

* لم أعرف طولك من عرضك يا عثمان..

وهكذا .. وهكذا.. كلما يمر عثمان بجماعة من الناس يتلقى مثل هذه الكلمات والتي يرد عليها بابتسامته الطيبة التي يحسده الناس عليها..

تخيلت سارة شكل ابن عمها عثمان وكل هذه الصور والكلمات بلحظة واحدة وهي تعد القهوة للضيوف.. وعندما خرجت سمعت الحديث الدائر بين عمها وأمها..

أبو عثمان: ما رأيك يا حاجة أم سليمان..؟

الوالدة: الرأي رأيها هي.. وما أظنها توافق على هذا الكلام إنها مصرة على إكمال دراستها الجامعية حتى الآخر..

أبو عثمان: لا حول ولا قوة إلا بالله.

سارة: تحضر القهوة.. تفضل يا عمي.. تفضلي يا مرات عمي.. تفضلي يا أماه..

الوالدة: اقعدي يا سارة..

سارة: حاضر يا أماه.

أبو عثمان: أصبحت عروسة يا سارة.

سارة: بل طالبة جامعية يا عمي..

أم عثمان: قلت لك يا بنيتي لا فائدة من الدراسة للمرأة في بلادنا..

سارة: هذا برأيكم وأنا أحترم رأيكم.. أما من وجهة نظري فالأمر مختلف تماماً.

أم عثمان: تصوري امرأة حامل في شهرها السابع أو الثامن تقف أمام الطالبات لتشرح لهم الدرس..

أبو عثمان: كلامك حق يا أم عثمان.. والله منظر مضحك..

سارة: وتصوري يا امرأة عمي طالبات بدون معلمات وتبقى بنات المسلمين أميات جاهلات لا يقرأن ولا يكتبن.

أبو عثمان: لا بأس في ذلك فالمرأة لا تحتاج إلا القراءة والكتابة فقط.

سارة: تصور يا عمي أن زوجتك احتاجت إلى عملية جراحية أثناء الولادة.. هل ترضى أن يدخل عليها رجل طبيب للقيام بهذه العملية.

أبو عثمان: أعوذ بالله.. ماذا تقولين يا سارة.. نحن ناس أشراف .. وزوجتي تفضل الموت على دخول طبيب يكشف على عورتها..

سارة: إذن هناك فائدة كبيرة من العلم والدراسة.. أليس كذلك يا مرات عمي.

أم عثمان: ولكن..

سارة: ولكن ماذا..؟ أعتقد أن هذا الأمر يخصني أنا وحدي ولا أسمح لأحد أن يتدخل في شؤوني الخاصة.. عن إذنكم عندي دراسة..

دخلت سارة إلى غرفتها تاركة الضيوف في حيرة وذهول وقعدت تتخيل ابن عمها بسذاجته وبساطته وبشكله المثير للجدل والمزاج والسخرية أحياناً إضافة إلى جهله وقلة ثقافته.. وأخذت تتعجب من تفكير عمها وزوجته كيف يرضيان لسارة أن تترك الدراسة والعلم والثقافة لأجل خطبتها إلى شاب أمي جاهل لم يتقن حتى مبادئ القراءة والكتابة والحساب.. وأي حياة تلك التي تجمع بين فتاة جامعية ذات ثقافة عالية مع رجل أمي جاهل لا يقرأ ولا يكتب ولا يحسب.. لا شك أنها معادلة صعبة الفهم مستحيلة الحل.. هل يمكن جمع العلم مع الجهل تحت سقف واحد؟! وهل يمكن جمع الثقافة العالية مع البساطة والسذاجة والسطحية في بيت واحد؟! وهل يمكن جمع اللطافة واللباقة والنعومة مع الخشونة والبلادة في فراش واحد؟!.. وهل يمكن جمع تفكرين مختلفين متناقضين في قالب واحد.. لا شك أن تفكير عمها وزوجته تفكير جاهل سطحي ساذج.. وهنا همت أن تخرج إلى عمها وتفهمه بكل صراحة أن ابنه الجزار لا يمكن أن تقبل به زوجاً في يوم من الأيام وإن كانت تحترم طيبته وقرابته منها.. ولكن ما إن خرجت حتى وجدت عمها وزوجته غادر المنزل مع شيء من عدم الرضا على تصرفات سارة..

مضت العطلة الصيفية بسرعة فائقة.. وفتحت الجامعة أبوابها من جديد لتستقبل الطلاب والطالبات ليبدأ الجميع عامهم الجديد بكل نشاط وحيوية.. عادت سارة إلى سالف عهدها من الجد والنشاط.. لقد وصلت الجامعة مبكرة كعادتها فهي تستيقظ مع أخيها وأمها باكراً لصلاة الفجر.. ومن ثم تغادر بيتها متوجهة إلى الجامعة بوقت مبكر لكي لا تقع تحت وطأة ازدحام المواصلات المزعجة.. قعدت سارة في أحد أركان حديقة الجامعة تتصفح الكتب الجامعية المقررة لهذا العام قيل دخولها إلى قاعة الدراسة.. وبينما هي كذلك إذ لمحت صديقتها سلوى من بعيد.. رأتها على غير عادتها مع شاب وسيم تبدو عليه علائم الجد والوقار.. سألت نفسها: ترى من هذا الشاب الذي يرافقها..؟! لا شك أنه خطيبها أو قريبها وذلك ما تعرفه عن سلوى من الأخلاق الفاضلة والتدين والحجاب الشرعي الصحيح .. إنها لا تسمح لنفسها بمرافقة الرجال الغرباء ولا التحدث معهم إلا لضرورة قصوى أو حاجة ملحة.. ثم همست في نفسها.. محظوظة سلوى إذا استطاعت أن تحصل على مثل هذا الشاب الوسيم ذي الخلق الكريم.. إنها تستاهل فهي فتاة جميلة ومثقفة وذات خلق عال ومحافظة على تعاليم الدين.. وصفات حميدة أخرى قلما تجدها في غيرها.. إن كل شباب الجامعة يتمنون أن يحظوا بززوجة مثل سلوى.. اقتربت سلوى من مكان صديقتها سارة يرافقها ذلك الشاب الوسيم فأخذ قلبها يدق بسرعة تمنت أن يكون حظها مع شاب مثل هذا الشاب.. شاب مثقف متعلم جامعي وليس مع شاب أمي جاهل لا يعرف القراءة والكتابة مثل عثمان ابن عمها..

نظرت سارة إلى صديقاتها والحسرة تمزق قلبها على ما يفكر به عمها وامرأة عمها..

وقارنت في خيالها بين هذا الشاب وبين ابن عمها عثمان الجزار.. كانت ضربات قلبها تزداد قوة وعنفاً كلما اقترتب سلوى والشاب الوسيم منها.. ولما رأتها سلوى لوحت لها بيدها من بعيد نظر هشام إلى سارة نظرة إعجاب واحترام وتقدير ونظرت سارة إلى هشام نظرة إعجاب واحترام ممزوجة بشيء من الغيرة التي تتميز بها النساء وهنا شعر هشام أن وجوده قد يسبب بعض الإحراج لأخته سلوى ولصديقتها سارة عندها توجه إلى أخته قائلاً:

هشام: سأراك بعد انتهاء المحاضرات الساعة الواحدة ظهراً..

سلوى: سأكون بانتظارك.. وداعاً..

هشام: استودعك الله وإلى اللقاء.. السلام عليكم ورحمة الله..

سلوى: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. في أمان الله.. ثم تلتفت إلى سارة.. أراك مبكرة اليوم يا سارة..

سارة: ازدحام المواصلات يزعجني.. لذلك قررت أن أخرج من بيتي باكراً.. قبل ساعة حتى لا أقع في موجة الزحام..

سلوى: كلامك حق وأنا كذلك تعودت الخروج باكراً..

سارة: ولكن...

سلوى: ولكن ماذا..؟ هل عندك ما تقولين؟!

سارة: وهل يمكن أن أقول لك مبروك..؟

سلوى: تتلفت يميناً وشمالاً وتنظر إلى نفسها.. مبروك على ماذا؟

سارة: إيه.. لماذا تتجاهلين يا صديقتي العزيزة؟.

سلوى: ثقي أني لا أتجاهل.. صدقيني لا أعرف عن ماذا تتحدثين..

سارة: عن الشاب الوسيم الذي كان معك .. فهذه أول مرة أراك فيها مع أحد الشباب هل أقول لك مبروك يا سلوى؟..

سلوى: تضحك ضحكة طويلة..

سارة: لماذا تضحكين هكذا؟.. هل أخطأت في كلامي؟

سلوى: أضحك على غبائي.. على قلة لباقتي.. لقد كان من الواجب علي أن أعرفك بأخي هشام حتى لا تظني بي الظنون..

سارة: أخاك هشام..؟!!

سلوى: أجل أخي هشام الذي حدثتك عنه فيما مضى..

سارة: الذي يعد مجلة المسجد ومجلة (المنبر الطلابي)..

سلوى: أجل هو بعينه.. لقد رأيته بأم عينك..

سارة: أغبطك أن لك أخاً شاباً يرافقك إلى الجامعة كل يوم ويسلي وحدتك..

سلوى: ولكنك ذكرت لي أن لك أخاً..

سارة: أجل ولكنه صغير لم يكمل دراسته الإعدادية..

سلوى: سنوات قليلة ولا بد للصغير من أن يكبر ويصبح شاباً..

سارة: كم أتمنى ذلك يا أختاه.. أتمنى أن يكبر لأتحدث إليه.. لأناقشه في كثير من الأمور..

سلوى: أمر بسيط جداً.. والأيام كفيلة بحله..

سارة: شكراً لك يا سلوى.. وأنا آسفة لتدخلي في أمورك الخاصة

(تنظر إلى ساعتها) لقد حان وقت المحاضرة.. أستودعك الله.

سلوى: بأمان الله يا أختاه..

وهنا تفرقت الصديقتان سلوى وسارة على أمل اللقاء القريب في الفسحة وتذهب كل منهما إلى قاعة المحاضرات الخاصة بها...

وسوم: العدد 772