المقامة الغثائية

حكى نبهان بن يقظان قال: كنتُ من الأيفاع، كسقَطِ المتاع. لا آسفُ على ما فات، حتى لقيتُ هامات. في حرص ورباط، وعظيمِ نشاط. فلا وهنَ في عزم، ولا تلكُّؤَ عن حزم. كلامُهم بديع، وأمرُهم جميع. كأنما هم في رياض، قُربَ حياض. علمٌ جليل، وقولٌ بِدليل. بُورك لهم في القليل، فأغنى عن قال وقيل. يتذاكرون سحرَ البيان، ويتجاذبون فرائد اللسان. حتى إذا ما بلغتُ أهلَ هذا الزمان، من "المتوَّجين" و"الفرسان". انحل عقد الدّرِّ والمرجان، وهوَتِ الأكاليل والتيجان. فلا الشعرُ شِعر، ولا النثرُ نثر. وليس غير أدب، ما عرفَتْه العرب.

قال نبهان: فضاقت نفسي، وتاقت إلى أَمسي. ثم إني عزمت على الرحيل، فسِرت بالنهار والليل. وبعد مسيرة أيّام، رأيتُ بعض إيَام. فقلت أبلغُ المدى، لَعلّي أجدُ على النار هدى. فإذا هو حنظلة الأحنف، فاستأذنت فما استنكف. قلت رُبّ لقاء، بلا دُعاء. جئتُك على قدَر، أشكو مجالس الغَرَر. ثم إني أفرغت همّي، وأنخْتُ غمّي. ووصفت له الحال، وكثرة الأوحال.

فقال حنظلة: حال الجريض دون القريض. وكثُرت على الصائد ضباب، وكفّ الهديل ونعق الغراب. أولئك قوم شُغفوا بالألقاب، بغير أسباب. وتنافسوا المناصب، وأعلى المراتب. ولكل زمان أهلُه، فوارسُه وخيْلُه. وذاك من بديع الطرائف، وطريف البدائع. وإن كان يُوجع القلب، ويُقلّب الأوجاع. قال نبهان: وأين بدائعهم، وما طرائفهم؟ شِعرٌ حُر، مذاقُه مُر. وروايات وقصص، كفرسٍ إذا قمَص. قفزةٌ في فضاء، كيَوْميِ ابن ماء. ولا عِلم لهم بنحو أو صرف، والاسم عندهم كالحرف. ومِن دواهي الدهر، وعجائب العصر. بكاؤُهم الأطلال، ووصفُهم الجِمال. في زمن الأقمار، وقِصر الأعمار. فالحرب دائرَه، والأمة حائرَه. والعدو في غِمر، ينفخ في جَمر. وكلامُهم في واد، عن ثمود وعاد.

قال حنظلة: هل لك في جميلِ أثر، وصحيحِ خبر؟ قلت: قول رشيد، ورأي سديد. وبي شوقٌ حثيث، لسماع الحديث. قال: لا ينقطع خير، ما رفرف طير. وما طلعت شمس، على ذي نفْس. وكلّ إناء بما فيه ينضح، هذا مَلِقٌ وذاك ينصح. والناس كإبلٍ مِئة، لا تجدُ فيها راحلة. أصحابُك يمدح بعضُهم بعضا، ويتهارشون سِرّا أكلًا وعَضا. لكن لا يصحّ إلا الصحيح، ولا ينفع ذمّ ولا مديح. ثم أنشأ يقول:

ويحَ الذي أذْوى الأمَلْ ؞؞؞ ثم انثنى يُحصي العِللْ

شَرقُ الورَى أو غَربهُ ؞؞؞ أرضٌ بها نُولِي العَملْ

فامْضوا بنا جنْدَ الفِدى ؞؞؞ نَبني كما شادَ الأُوَلْ

نُعْلي صُروحًا قد هَوتْ ؞؞؞ لا يأسَ كلّا لا مَللْ

قال نبهان بن يقظان: ثم سكت، فرأيت حنظلة قد أبرقتْ أساريره، ورجحتْ مقاديره. فقلت: وُقيتَ المعرّه، وجُنّبتَ المضرّه. ثم إني بتّ عنده ليلة لا كالليالي، أسمعني فيها النوادرَ والأمالي. فقلت لله درّه، كيف يُجهل مثلُه. والرُّويبِضات في المدائن، قد ملؤوا الأسماع والأماكن.

وسوم: العدد 778