كفين علماشي، أهلين بأحلى جار

هذه قصة جديدة من سلسلة (الحياة اليومية لمواطن سوري) أهديها لأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، وهي من تلك القصص التي حدثت معي وليست قيلاً عن قيل أو نقلاً عن فلان وعلتان. 

 جرت هذه الحادثة في نهاية السبعينيات وفي صباح أحد أيام الجمعة حيث كنا نستعد لتناول الفطور حين قرع الجرس، ولما توجهنا إلى الباب فوجئنا بسماع صوت يشبه النحيب من الجهة الخارجية. نظرنا عبر العين السحرية لنجد أحد أصدقاء أخي الجامعيين، والذي يسكن ليس ببعيد عن بيتنا، وهو يبكي بحرقة ويخفي وجهه بيديه، فظننا أنه فقد أحد والديه أو إخوته. فتحنا الباب بسرعة وعانقه أخي وطيب من خاطره وسألناه مالذي حصل وما سبب بكائه بهذه الحرقة والمرارة؟ كان الشاب في بداية العشرينيات من عمره، أشقر أبيض البشرة، من عائلة مرموقة ويتحلى بأخلاق عالية وكان من إحدى المدن الرئيسية ويدرس في كلية الهندسة المدنية في دمشق. لاحظنا أن الشاب لايرفع يديه من على وجهه وهو يبكي وكأنه يريد إخفاء شئ، وكان الكلام يخرج من فمه مختنقاً بحيث لم نفهم ماذا كان يقول، ولكن كان واضحاً أنه يطلق الشتائم على أحد ما. أجلسناه على إحدى الكنبات وأحضرنا له كأس ماء وانتظرنا إلى أن شرب وهدأ قليلاً، وبدأت الخطوط العريضة للمشكلة بالتوضح حين أنزل يديه ولاحظنا علامات حمراء على وجهه تشبه أصابع الكف. كانت تفصل بيتنا عن بيتهم في منطقة الجبة مسافة لاتزيد عن المئتي متر، ومعها أيضاً أحد أفرع المخابرات.

 وكبقية تلك الأفرع في دمشق وسورية، فالحراسة دائماً مشددة والحراس مسلحون وبلباس مدني يقفون على الباب الخارجي ليل نهار على مدار الساعة، ويمنعون المشاة من الاقتراب من باب الفرع ويأمروهم بجلافة أن ينتقلوا إلى الطرف الآخر من الطريق إذا كانوا سيمرون من أمامه. كان هذا الفرع يقع على بعد أمتار من بيت صاحبنا، وهذا يعني أنه مجبور على المرور من أمامه يومياً وأحياناً عدة مرات وهذا ماحصل في ذلك الصباح. بدأ الشاب برواية قصته وقال أنه، وكون بيته قد جاور ذلك الفرع لعدة سنوات، فكان أحياناً يقترب من بابه ويطلق التحية على الحراس الذين بات أكثرهم يعرفونه بحكم الجيرة. ولكن يبدو وأن الحظ كان معاكساً لصاحبنا الشاب ذلك الصباح، حيث كان الحارس جديداً ولايعرفه، فلما اقترب منه لاطلاق التحية، بادره الحارس بألفاظ بذيئة ومهينة من شاكلة (قرد وكر) وطلب منه بلهجة الأمر والتهديد أن يبتعد عن باب الفرع. تفاجأ الشاب بتلك الكلمات، ولم يستطع بنفسية وكرامة الشاب العشريني أن يهضم تلك الاهانة والتي لم يجد لها مبرراً بالأصل، فسأله عن سببها موضحاً في نفس الوقت بأنه واحد من الجيران.

 كان أحد أقارب الشاب ضابطاً برتبة (لواء) في سلاح البحرية، ولكن من عائلة (سنية)، وهذا مايبدو قد غاب عن باله ولم يعرف حينها أن لارتبة قريبه هذه ولا جيرته للفرع تلك ولاعدم ارتكابه لأي شئ مخالف للقانون سيشفع له أمام حارس لفرع مخابرات وإن كان حارساً (حقو فرنك). وبسبب إغفاله لكل ذلك، ولما تابع الحارس إهانته وشتمه، حمي الشاب لكرامته، وشد ظهره برتبة قريبه ورد على الحارس باهانة مشابهة وقال له أنه يريد مقابلة رئيس الفرع ليلفت نظره إلى وجوب معاملة الجيران بطريقة (لائقة ومهذبة) ظاناً صديقنا نفسه أنه في السويد أو كندا وناسياً أنه إنما في (سورية الأسد). وتابع الشاب قصته قائلاً أن عنصر الحرس نادى حينها لزملائه الذين أتوا من داخل الفرع، وانهالوا على صاحبنا بالضرب والصفع والركل حتى أوصلوه، حسب طلبه، إلى مكتب رئيسهم. وبشكل طبيعي، عكس الحارس هناك القصة وقال لرئيسه بأن الشاب رفض الابتعاد عن باب الفرع حين طلب منه ذلك وأنه بدأ بتوجيه الشتائم طالباً مقابلته شخصياً. وطبعاً لاداعي هنا لذكر الطائفة التي ينتمي إليها رئيس الفرع وعناصره وحراسه (أشة لفة)، فذكاء القارئ كفيل بمعرفتها. ولما سمح لصاحبنا أن يتكلم وذكر اسم قريبه (اللواء) متوقعاً من الجميع أن يعتذروا له ويكرموه، وربما يقبلوا يده استسماحاً، ضحك (المقدم) رئيس الفرع باستهزاء وخص ذلك القريب باهانة (علبيعة) ولم ينس أن يذكر الشاب بأن (الذات الالهية) نفسها ليس لها أي محسوبية هنا. ثم قال له بأنه سيسمح له بالخروج (على قدميه) هذه المرة، وإن كان ذلك ليس من (تقاليد الفرع) ويضر بسمعته (المعروفة) في البلد. وأضاف بأنه سيعفو عنه لالشئ إلا لأنه من الجيران، وأن الصفع والركل الذي تلقاه كاف ليذكره في المستقبل كيف يكون مؤدباً وينفذ التعليمات دون مجادلة. لاشك أن صاحبنا يومها قد فقد شيئاً لم ولن يسترجعه طوال حياته، وسيبقى يتذكره ويترحم عليه بمرارة إلى يوم رحيله عن هذه الدنيا، هذا الشئ ليس سوى الكرامة والتي التخلي عنها هو ضريبة الحياة في سورية. هذا وقد فضل الشاب بعد خروجه (على قدميه) أن يأتي إلينا لتهدأ أعصابه وتزول آثار الأصابع من على وجهه على أن يعود إلى بيته ويواجه أهله بتلك الحالة المهينة.

هذه هي (سورية الأسد) في الأمس واليوم للذي لايعرفها، ولأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، ففي هذه (السورية) يعامل أفراد الأكثرية مثل الحشرات، وعليهم أن يتذكروا دائماً أن النظام يمن عليهم حتى بالسماح لهم بالتنفس وأيضاً بالمرور من أمام أفرع المخابرات.

وسوم: العدد 781