رملة بولاق

عصام الدين محمد أحمد

وكأننى أتسكع بين دروب رملة بولاق ، أتفرج على الحيارى والمدمنين ، يلجون الحوارى بإردية غالية الثمن ، تفضح الغنى والرفاهية ، ساعة أو بعض ساعة وتجدهم عائدين منكسى الرؤوس ، يتخبطون على قضبان السكك الحديدية.

البيور سعره ثمانون جنيها للجرام ، العام كان 1984 ، رافقت الكثيرين فى رحلات الخدر ، أتفرج على عالم منفصل ، يعيش بمعزل عن العالم المحيط ، تفرد البودرة على سطح زجاجى أو مصقول ، خطوط طولية ، يصنعون من العملة الورقية الجديدة أنبوب ، يضع الواحد منهم طرف الأنبوب فى إحدى فتحتى الأنف ، ويغلق الفتحة الثانية باليد المتحررة ، يشد خط البودرة بقوة مناسبة لا تسمح بالترسب على السطح الداخلى للأنبوب ، خط وراء خط ، هكذا إلى أن يأتى الواحد منهم على التذكرة كاملة ، اعتادنى الجميع ولم يحاول أحد دعوتى للتجريب ، وكأنهم يحتفظون باصطحابى كعقل يقظ يقودهم فى رحلة العودة لسوق روض الفرج.

المعلمة صاحبة الدولاب لها بنت لم تبلغ الخامسة عشر عاما آية جمال ، ضفرتها الطبيعة الخلابة ، رجرجة النهر المدغدغة للإعصاب تعجن قدها ، بشرتها قشطة رايبة ، وجهها مدور فى غير اكتناز ، عيناها عينا مها ، فمها أقنى يضيف للوجه رونقا جذابا ، والفم آية اشتهاء متجددة الإيحاء ، لم ألمح فى الدنيا جمالا يضاهى نصف هذا الجمال ، تبا للصعيد ، تبا للوجه القبلى.

هذه المهلبية لم تقرب دورنا ، انشدهت حينما رأيتها:

كيف لهذه الفتاة الرائعة أن تحيا فى هذه البيئة؟   

وأنت لماذا تسعى للإرتماء فى احضان هذه البيئة؟   

ما هذا العته؟    بيئة..بيئة..بيئة..الإنسان فى كل البيئات واحد ، تبا لعلوم الاجتماع!  من المعتوه القائل إن الإنسان ابن بيئته؟    لا بيئة ولا يحزنون.

حاولت التقرب منها ، أتلصص بالنظرات ، لا أدع فرصة للمكوث فى حضرتها تهرب ، غبت فى حضرتها متأملا نمنمات تكوينها ، أمها تدير الدولاب بحرفية ، تضفى على الحضور بهجة وحبورا ، تتمايع فتلعقها الأفواه ، وكأنها جنان النعيم والبهاء ، أبدان فارهة التكوين ، تعبر السكة الحديدية ، تذكرة بيور وتتهاوى الابدان ، لا تقدر على تخطى القضبان.

دوما يستند السلوط على كتفى ، يصعب على حاله ، طوال الليل يزحف على الأرض ، يغرقه العرق ، يتنقل من تشوينة بطيخ لأخرى كالبهلوان ، فنان لا مثيل له فى رص البطيخ ، يرص ثمانى ثمرات فى خط مستقيم على الرمال ، وينقص السطر الذى يليه ثمرة إلى أن يكون السطر الأخير ثمرة واحدة ، وفوق السطر الأول والثانى سطر من سبع ، يستمر البناء على هذا المنوال ، لينتج صاروخ من مائة وعشرين ثمرةبأوجه ثلاث ، يتقن السلوط البناء من الوضع قاعدا ، دون أن ينهض من مطرحه ، لا يتعامل إلا مع البطيخ الزيرو ، الذى يتجاوز وزنه عشر كيلو جرامات ، المهنة موسمية لا يتجاوز عمرها ثلاث شهور ، كل فلاح يمنح اكرامية للسلوط قدرها عشرين جنيها للعربية الواحدة ، وعدد سيارات النقل يتجاوز عشرين كل ليلة ، هذا بالاضافة إلى الأجر الذى يتقاضاه من رئيس فرقة الرصاصين ، الفلاحون يلتمسون رضا السلوط؛فكلما كان الرص متقنا كلما زاد سعر البيع ، يحيا النعيم طوال الأشهر الثلاث ، ولن يضيره شم تذكرة أو اثنتين كل ليلة ، أتعاطف معه ، أحترم مهارته  ، أحاول تقليده ولكن البون شاسع بين التقليد والموهبة ، لمس فى الرغبة فى التعلم ، صحبنى فى جميع رحلاته إلى رملة بولاق ، هذا الرائع تسوخ أقدامه فى رمال الوهم حينما يستنشق البودرة ، ليجدنى متكئا له ، أعيده إلى بيته ، أتركه على العتبة حتى لا تلقفنى زوجته البرميلية للتحقيق معى ، لا أدرى كيف يتعامل معها وكيف يضاجعها؟مائة ألف رطل من اللحم أو يزيد ، ربما تكون هذه السيدة اللحيمة تزوجته تخليص حق!

أصابنى السهوم ، عاجلتنى بالقول:

ما لك؟

لم أسمعها جيدا ، كررت السؤال ، صوت سحيق يجيب:

لا شئ.

أفق أخيرا قائلا:

أنت قاعدة هنا ليه؟

اروح فين؟

لم أجد أجابة ، فأردد:

كالمعتاد حكم الظروف.

ومن الذى قال لك أننى متأذية من الوضع.

لا أحد ، ربما ذهب بى الخيال بعيدا!

ليس كل ما نتمناه نجده.

لا نختار أقدارنا ، ولكن من حقنا اعلان الرفض.

بالنسبة لنا لا وجود لرغد العيش بعيدا عن هذا العمل.

ليس ضروريا أن يحيا الإنسان حياة الأغنياء.

لم تجرب الحرمان.

مسيرتى تجسد الحرمان.

لماذا تصر على رفقة هؤلاء؟

لا أدرى بالضبط ، ربما تكون رغبة لأكتشاف عوالم مجهولة ، ربما الأعجاب يجمعنى بهؤلاء الناس ، ربما يكون اختيارا لعالم مريب تحيط به الشبهات!  ربما أكون مشروع مدمن!

لماذا نتبادل الأدوار والأتهام؟

مجرد دردشة ،  ،  ، ربما نصل إلى أجابات مقنعة!

تقارير صحفية تافهة ، المطلوب تبرير الواقع بالظروف؛ترملت أمى ، لم تجد سبيلا سوى هذا النشاط ، الذى يراه المجتمع جريمة ، أفترض أننى قلت مثل هذه الموروثات الخيالية ، أتعجبك مثل هذه الأكاذيب المستدرة للعطف؟  حينما سألتك عن رفقائك لم تجبنى ، بل لففت بعيدا ، حاولت أن توحى لى أنك عالم وفيلسوف.

احسدك على منطقك انظرى إلى هذا الملقح على الكنبة ، تكتشفين أنه فاقد القدرة على الكلام والاتزان ، بالبلدى مسافر إلى دنيا من صنع خياله ، يحارب هزائمه ، يجتر.

 بالطبع وهبت نفسك للتجربة ، ومن الثابت علميا أن للمعمل قوانينه ، ولكى تأتى النتائج يلزم توحيد ظروف التجريب ، والأفضل لك أن تبتعد عن هذا العالم الافتراضى ، حتى لا تفقد البقية الباقية من عقلك.

بصراحة حديثها أركسنى فى دوامة ، لا أحد يحيط بمداها ، من المؤكد أن هذه الفتاة أتقنت الفلسفة فكرا وعملا ، مما دفعنى لإعادة تقييم الوشائج مع الرفقاء.

طال قعودى بالمقهى ، لم أشعر بالوقت وكأننى تجولت فى ربوعى ساعات وساعات ، تجاوزت الساعة الثانية ظهرا ، ويمكننى –فى التو واللحظة-العودة إلى الشقة دون أن يفتضح أمرى.

 تمت بحمد الله 

وسوم: العدد 798