مكتشفات من زمن سرادقات الموت

قل لي : هل لك قصة ترويها ..؟

قل لي : هل لك حياة تزجيها ..؟

لكن الليل مدلهم ، والعتمة تتدفق فوق الآفاق ، فلا رؤية يجليها قمر متكامل الأيام ، ولا عتبة أمل يلقيها ربيع على الأبواب المتهالكة ، تخفي خلف إغلاقها الهش أسرار سرادقات الموت .. فهل عندك مكتشفات تحن إلى شريط ذكرياتها فترويها ، لتكون صرخة ألم مباح ، ينداح فوق تخوم ظلام أسود ، لعلها تفكك سدفه المتراكمة كالموت المتبلد ..

1 _ الاكتشاف الأول :

_ قال لي وهو يبعد ناظريه عن وجهي : أريد أن أزورك ..

_ أرحب بك جاراً عزيزاً يا يوسف ، اليوم مساءً إذا كان ذلك يناسبك .

_ اليوم مساءً إن شاء الله بعد صلاة العشاء .. قالها وكأنه قد أفرغ حملاً ثقيلاً كان يتعب كاهله .

وكان المساء ، ورجعت بصحبته من صلاة العشاء في مسجد الحي ، وبعد أن استقر بنا الجلوس ، نظرت في وجهه ، تحت نور المصباح ، كانت تضاريسه توحي بموج هائل يتفاعل في داخله ، فيجعله مصراً على الصمت المتحفز، يدل عليه التململ المتكرر في جلسته داخل غرفة الاستقبال المتواضعة التي كنت أملكها .

المساء في أوله ، والليل بدأ يرخي هدوءه على المكان ، والجلسة الصامتة تعبأت دقائقها بالهواجس تجتاح كياني . تُرى .. ماذا يريد يوسف هذه المرة ..؟ إنه متخرج جديد من جامعة دمشق ، قسم الرياضيات بتفوق ، وكان كلما قابلني في الطريق أو بعد الصلاة في المسجد ، يدير حديثه حول آماله في أن يكون عالماً في الرياضيات ، تلك المادة التي أظهر حباً لها لا يبارى ، وتفوقاً على الأقران فيها لا يمارى فيه , ولما كنت أحاول أن أوجه الحديث معه باتجاه الدعوة والالتزام والإسلام ، حاول التفلت بالقول :

_ الحمد لله ، أنا .. ولا يكمل .. ثم يلوذ بالصمت ؛ محمر الوجه ، مهموم البال ، باديةً على وجهه علامات حيرة ، يحاول أن يكظمها ، ويطرد وقدها في حركات يديه ، وتسارع خطواته .. ثم السلام والوداع .

وحتى تلك اللحظة من ذلك المساء الربيعي الدافئ ، التي دخلت وإياه فيها إلى بيتي الكائن في حيّ دمشقي شعبي .. لم يراودني شك في أن الشاب مقبلٌ وليس مدبراً ، ولكن القضية عنده لم تكن مختمرةً بعدُ ، فهو يحاور قلبه وعقله بها . ولكن سيره نحو هذا الاتجاه لم يتوقف ، بل كان متشوقاً إلى فجرٍ يضيء له السبيل ، ويحث خطاه ، لينسج له مسوغاً قوياً ، خصوصاً وهو يرى ويسمع ما يدور في المشهد السوري من أذىً يلحق المؤمنين لا يحتمله أحد .

كانت هذه هي الأفكار التي دارت بخلدي وأنا أجلس معه في الغرفة التي كان البرد يغزوها بعد أن هاجرت

الشمس إلى جزء آخر من الأرض .

حاولت من خلال الصمت أن أقرأ أفكاره ، وأحلل سبب ذلك الصمت الراعب ، الذي أضفى عليه البرد شيئاً من القشعريرة ، راحت تصب نمنمتها في الجسدين القابعين في الغرفة ، حيث لم تعط مدفأة " المازوت " التي أشعلتها لتوي الدفء للغرفة بعد .

قلت محاولاً كسر جدار الصمت :

_ يوسف .. ماذا تنتظر بعد التخرج ؟

_ قدمت طلباً لوزارة التربية لعلي أتعين مدرساً .

_ وبعد .. أين الطموح ..؟

_ سوف أعتمد على الدخل من الوظيفة لأمول متابعة التخصص .

_ ولكنهم إذا عرفوا بتدينك فلن يقبلوك ..

_ أعرف هذا .. وأعرف أن ديني قبل كل شيء : قبل الوظيفة ، وقبل الطموح ، ( وأضاف والكلمات تخرج حذرةً من حنجرته ) : من أجل ذلك جئتك الليلة مستفسراً مصمماً ..

_ اسأل وأنا أجيبك .

_ عندي قناعة أن الانتماء للحركة الإسلامية واجبٌ يكمل الالتزام ، ويقويه ويضمن استمراره ونماءه ، ويضع الجهد في تيارٍ يصل إلى النتائج المرجوة من العمل ، ويوظفه في المجال المناسب ..

_ عظيمة هذه القناعة يا يوسف .

_ مهلك يا أستاذي ، فهناك سؤال في صدري يبحث عن إجابة عندك ، تبعث هبة ندية من نور ، يشعل فتيل المواسم الهدائية في حراكي .

_ ما هو السؤال يا يوسف ، قل بسرعة فأنا لا أطيق الانتظار ، بعد هذه البشارة التي أومأ إليها كلامك الآنف.

_ سأقول .. سأقول : إني متخوف مما يقال : إن الحركة تفكر بالعنف وبالسلاح و بمثل هذه الإشاعات ، فأنا مؤمن أن الدعوة إلى الله تحتاج إلى أناة ورفق ووسائل اتصال هادئة مقنعة ، وأن كل سير بالاتجاه الآخر غير مجدٍ..

_ يوسف ، وهل تصدق ما يقولونه ؟ إن حركة الإسلام عندنا .. دعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة وحسب ، وما قلته وما تؤمن به هو منهج هذا الحراك وقواعده ..

_ عظيم .. عظيم ، هذا هو الاكتشاف الأول .. وهذه هي الخطوة الأولى ..  

_ لم أفهم .. فهمني .. اكتشاف .. خطوة .. ما هذا ..؟

_ الآن يا استاذ أحمد اكتشفت طريقي .. وهذه أولى خطواتي ، فقد بقيت ردحاً من الزمن حائراً أتساءل : أين أضعها وكيف ..؟

وبعد لحظة صمت عبأته فرحة مكبوتة ملأت فضاء الغرفة ، كانت فائضة عن القلبين الساكنين فيها ، قال يوسف :

_ مِنَ الآن عُدَّني في التيار .. واطلب تُطَعْ ، ولنرسم معاً الخطوات الواصلة بإذن الله .

2 _ الاكتشاف الثاني ( الخراب ) :

 بعد الاكتشاف الأول ، وبعد تلك اللحظة التي حظيت فيها مع يوسف بأبهى لقاء ، معبئاً جنبات روحي

بأعذب الآيات ، انطلق يوسف خلال أربعة شهور أمضاها بيننا ، كانت أُلْفَتُها كفيلة بأن تسقي لحانا دمعاً غزيراً ، سكبته لوعة الوداع ، حين غادرنا الحبيب يوسف إلى منطقة الجزيرة السورية مدرساً للرياضيات .. وفي تلك اللحظة ، كان يوسف يلوح لنا من قريب وهو يقول :

_ لا تخافوا علىّ بعد اليوم ، سأكون عند حسن ظن ربي بي ..

_ وكيف نخاف عليك ..؟ وقد رأينا منك في الأشهر السعيدة ما ساقنا إلى ذكرى سلالة من صحابة لا يتوقفون، حتى تتوقف القلوب عن النبض .

وغاب يوسف ثلاثة أشهر ، لم نحظ بسماع صوته إلا مرتين : كان صوته فيها يحمل رنة حزينة ، وكان كلامه مقتضباً ، تشوبه بحة قهر ، ولا يلبث طويلاً على الهاتف حتى يقول : عندما أعود أحكي لكم كل شيء .. وتمضي الأيام متثائبة متوجسة .. وليس إلا الانتظار والأمل ، ما يحمل الروح على الصبر ، الذي يعطي اللحظات مسوغاً لوجودها ، فقد كانت كلمات يوسف في الهاتف غير مطمئنة ، بل كانت تبعث بكثير من الهواجس ، وتنطوي ثناياها المشنوقة على لوحة قاتمة من ذلك الزمن العدمي ، الذي ظل الناس في سورية يعانونه، وهو يدنو كل لحظة من أنفاسهم ، وكل حركة أو سكنة من ساعاتهم ..

وجاء شهر كانون الثاني من عام ستة وسبعين وتسعمئة وألف ، وعاد يوسف في إجاوة نصف السنة ، وكانت اللهفة تسبقنا إليه ، وما أن استقر بي المقام معه في بيته مهنئاً بسلامته ، حتى بادرته بالسؤال :

_ ها .. يوسف : أنا على أحرّ من الجمر لسماع حكايتك .

وفي طريقي إلى سماع نطقه ، هتفت في سرّي : سترك يا رب . ثم أضفت بصوت مسموع : كلي آذان صاغية يا يوسف . 

كانت سحنته تمتلئ بالأسى ، ويبدو مشوشاً ، وقد تدافعت الأفكار في مخيلته فلا يعرف من أين يبدأ .. ظهر لي هذا من تقلبات وجهه ، وتنحنحه المتكرر ، وتشبيك أصابع يديه ثم فكهما ، ورفع رأسه ثم خفضه ، ومداراة عينيه عن عيني ، وارتباك حركاته في جلسته ، وقد ألقى ذلك قلبي في لجة عاصفة من التكهنات ، ذهبت بي بعيداً في الخوف على يوسف ومآل هدايته ..    

وكأنه قرأ ما يدور في خلدي ، فقال قاطعا ًصمت الجلسة الراعبة :

_ لا تذهب بأفكارك باتجاه آخر يا أخي .. أنا بخير ، والهداية في قلبي تعمقت أكثر فأكثر

_ ولكن ..

_ قبل أن تكمل سؤالك أقول لك : إني أعلم ما ستسأل عنه ، لذا فاطمئن عليّ واستمع لما سأقول بعناية ..

_ لقد اكتشفت يا أخي من خلال عملي وتعاملي مع هيئة التدريس والإدارة والطلاب والمنظمات التي افتعلوها لقيادة الشباب ،اكتشفت أن هناك ماكينة خبيثة تدور محركاتها من فوق لتحت ، لتصل بالشباب إلى الضياع ، وذلك من خلال الاختلاط ، وغسل أفكار الناس من كل ما يمت لدين وتراث الأمة وتقاليدها الحميدة ، تحت

شعار التقدمية والحرب على الرجعية ، أما الكارثة الكبرى فهي المتمثلة في أن كل من يحاول الوقوف في وجه

تيارهم التخريبي هذا ، المختبئ خلف منظمات الشبيبة ، والاتحادات المتنوعة الأخرى ، يُعد عندهم رجعياً معادياً ( للثورة ) ! وأهدافها ، وبالقانون هو محكوم بالإعدام ، أو بالسجن المؤبد بلا محاكمة ، والتعذيب الذي يتمنى الواقع تحته الموت ليل نهار .. ولقد عرفت العديد من القصص الدامية الكارثية ، التي أودت بصاحب أي كلمة

تشير إلى مخالفة نهجهم ولو من بعيد ، ولقد نصحني بعض الخلص بأن أبتعد عن مواطن القول الذي يعتبرونه مشبوهاً ، وحتى المداومة على الصلاة في المسجد نصحت بأن أخفف منها لأنهم يعتبرونها من الأدلة على معاداة الثورة والنهج التقدمي .. ولكني لم أصبر ، فقد مرّ بي العديد من المصادمات الكلامية مع بعض أصحاب هذا النهج ، وكدت في إحدى المرات أن أساق إلى حيث لا يعرف أحدٌ طريقاً إلى مكان وجودي ، لولا أن تدخل أحد النافذين في الأمر ودحض ما نقل عني .. ولكن الحدق ظلت محمرة تجاهي ، والآذان أصبحت شديدة الإصغاء لتسقط أقوالي .. وهذا هو اكتشافي يا أخي ..

_ ها .. ها .. ها .. آلآن وقد اشتاقت روحك إلى عذب الإبحار في أفق الشوق للحبيب ..؟ لقد جاء اكتشافك متأخراً، لقد فاتني أن أنبهك قبل سفرك إلى مثل هذا المخطط الذي وصفت .. طمأنتني إذ بينت لي سبب قلقك، فقد ذهبت بي الظنون مع غيب آخر .. أما هذا الاكتشاف فإني أَعُدُّه تثبيتاً لك .. وكان يجب أن تعرفه من خلال رؤيتك للوطن المستباح .. ومن حزيران ال ( 67 ) التي افتعلوها ، وقدموا فيها الدليل للأعداء على مواصفات ثورتهم التي جاءت بالردة .

_ أخي أحمد ، على كل حال فأنا لن أعود إلى الجزيرة فقد طلبوني للجيش _ للخدمة الإلزامية _ وأظن أن موقعي سيكون مع قطعاتنا في لبنان ( ما يسمونه جيش الردع العربي ) .. 

3 _ الاكتشاف الثالث ( الموت برهان ) :

بعد أشهر من التحاق يوسف بالخدمة الإلزامية في لبنان ، عاد في إجازة قصيرة ، عاد ومعه ذكريات مرة .. فقد جلس يروي لنا عن جيش اشتغل ضباطه الطائفيون بنهب لبنان واللبنانيين ، وبقتل كل مقاوم ؛ أكان لبنانياً أم فلسطينياً . كان يوسف يروي فظاعات الجيش الذي ينتمي إليه ، وكيف أنهم أفسدوا عقائد هذا الجيش وأخلاقه ، حتى إنهم انتزعوا إنسانيته ، وقال في سرده : لقد صحت روحي أكثر فأكثر ، وعلمت أني أخدم أناساً يدنسون الوقت من عمري ، لقد انفرجت كل الزوايا الرمادية ، التي كان يختبئ فيها حاكمونا عنّأ ، وبان زيف لافتاتهم ، والكذب الذي يغطيها . لقد امتدت مسافات الوعي في أفقي ، وتعبأ دمي بحبِّ اللقاء ، فانكشفت لي الحقائق ، وظهرت لي بيانات الجمع الذي يسوقنا في قنواته .. لذلك كله لم تَخُنِّي كلماتي ، وعزتني آهاتي ، وكنت كمن يكتشف ما حوله لأول مرة .. مدهوشاً ، مفجوعاً مصمماً على إعلان رأيه فيما يجري ، وليكن ما يكون .. وفعلت ، وسجنت ، وهددت من قبل لصوص الضباط ، ولا بد أني أنتظر الأهوال عند عودتي إلى قطعتي في لبنان ، إنهم ليسوا جيش ردع لبث الأمن ، إنهم جيش يعيث فساداً في الأرض بأوامر من هنا من الرؤوس الكبرى ، ولن أزيد على ذلك ، فالتفاصيل ستأتي وهي مروعة ..

لم يعد يوسف ؛ فقد داهموا منزله وهو في إجازة .. وأخذوه .. لأنه تكلم باتجاه الإصلاح وحسب ..! وبعد أسبوع اكتشف أن الموت برهان على صدق العزيمة ، والشهادة طهارة من الرجس الذي وضعوه فيه .. واستلمه والده جثة مشوهة .. ودفن الشهيد ليلاً وحيداً .. دون أن يمرَّ علينا ليحكي لنا التفاصيل ، ونودعه بدمعةٍ وقبلةٍ... وها هي روحه تزورنا ليلياً، لتخبرنا أن الآتي أعظم، فاتخذوا له إيماناً أفخم كي ترتاح أرواحنا التي استودعنا آمالها عندكم..!

وسوم: العدد 809