نقاط فوق الحروف، شكراً لكم ..!

أغطش ضباب الفسفور الأبيض الرؤية ، و سال الرعب لهيباً في القلوب الصغيرة اللاهية بالكرة ، إذ ضج المكان بجنون المتفجرة الراعبة المتشظية فوق حيز الصغار ، الذين تناولوا فطورهم للتو ، و لم يتوجهوا إلى المدرسة ؛ لأن أيدياً وحشية فاتكة ، أرادت أن تلهو ساعات و أياماً بأرواح البراءة ..

لم تكن الثواني النازفة قتلاً و حرقاً و إعاقات جسدية و نفسية ، إلا مثخنة برثاء الإنسان ، أينما كان موطنه؟ أم إن اللحظة الغزية الشتوية كانت تتسربل بخطاب رثاءٍ لأخلاق الرجال ؛ حيث تدثر قدر الجبن بكبر ( جنرالات ) يهود ، النهمين لدم الأطفال ، يهرعون عند كل هزيع من ليل ؛ ليحصدوا الدم البريء ، يقدمونه لفطير صهيون كؤوساً مترعات بنار النذالة ، و بربرية صهيون التلمودية .. حتى الشمس الساطعة في الأفق الشرقي لذلك اليوم الكانوني غيبها غبار الفسفور القاتل ؛ إذ صبغ وجه الصباح الندي بسواد حقد و لا أشرس ، و لا أضل ..!

تلك كلمات دارت في رأسي عندما كنت ساهماً أمام صورة ( لؤي ) في التلفاز ، و هو يدلي بقصته لمراسل القناة التلفزيونية ، داخل مستشفى الشفاء في غزة ، و عجبت من قوله :

_ شكراً لكم ..

قالها لؤي للإعلامي ، و كانت تضاريس وجهه شاخصة بالوجع ، و الجرح نازف بسيولة ؛ و كان الموت يترقب في كل زاوية . و زال عجبي عندما فطنت إلى أن لؤياً ربما قد تعلم في معاهد غزة أن يقابل المصيبة بالشكر ، و إلا من أين له بجملة ( شكراً لكم ) ، يهديها للرجل الذي يقابله ، ليفتح بها خطوط الاتصال مع العالم ؛ إذ تهتكت هيئات النقل الأخرى ، بعد أن سقطت الحمم الحاقدة من غربان مافيا تل أبيب على كل الأنحاء ، و في كل اتجاه بلا تمييز .

_ شكراً لكم .. و ارسلها جملة تتسرب بقامتها المديدة إلى البقية الباقية من الضمائر ، لتفجر ينابيع الإنسان ، التي غادرت قلوب القتلة من يهود مذ كانوا ..

فعيناه اللتان أطفأ نورهما للتو حقد الفسفور ، المرسل من قلوب مقفرة عاقرة إلى شوارع غزة و حواريها و بيوتها وأطفالها .. إن عينيه هاتين لم تزيدانه إلا إيماناً و اطمئناناً ، كانتا بارزتين في محياه ، و هو يحدث الإعلامي عما كان من أمره في ذلك الصباح ، فهو في حديثه العفوي الهادئ ، يوحي لك أنت ( المتفرج ) على المأساة أنْ لا مفر من الصمود و الثبات للخروج من مأزق السجن الغزي .

و في هذه الأثناء مدّ لؤي يده اليمنى ، فتحسس بها عينيه المنتفختين ، ثم أدار يده فمسح بها كل أنحاء وجهه ، ثم صمت برهة ، و كأني به يريد القول : إن الوجه الذي كانت تزينه العينان الواسعتان اللتان كانتا تقودانه في طرقات غزة العزيزة ، وتوصلانه إلى المدرسة ، و يتلو بهما القرآن ، و يوافي بهما وجه أمه الحبيبة إلى قلبه ، لم تعودا تنفعان لأي شيء من ذلك ، وكأنه عندما عاد ليتحسسهما بأطراف أصابعه يريد أن يستدرك فيقول بلسان الحال : إليكم بني يعرب أرسل حزني و بثي و شكوي .. عفواً و لكن ، أجيبوني :

_ لماذا أصبحت استجابتكم خرافة تنتمي إلى عالم مضى..؟ ولماذا حزني وتفحم العشرات من أمثالي باتا لا يلاقيان صهيل جواد يعربي واحد في المدى..؟ أم أنكم استمتعتم بانفرادي ووحدتي أمام سيل النار الصهيونية السوداء ؟! و قلتم في سركم : ( يا سلامتنا ) .. ! فنحن اليوم زبد تجرفه السيول ، و منا إليك قُبَل الأماني الخاويات .. !!

حاول لؤي أن يعتصر عينيه ، لكن الوجه الجامد حال دون الفعل ، و بدلاً من ذلك حاول أن يضفي على تقاطيع وجهه شبح ابتسامة عاتبة ، صاحبت حركة حنجرته ، التي ألقت إلى شفتيه الجملة من جديد : شكراً لكم على تفضلكم بالاستماع إلى قصتي ، لكن : هل بريدكم واصل ؟

و تخيلته و هو يدلي بتصريحه ( شكراً لكم ) ، يريد أن يضيف جديداً يقول : أيها الناس : لماذا تستبيحون قمر غزة ، تريدون إطفاءه بنار صهيون ، و أنتم فرحون ، ترقص قلوبكم جذلاً ، أن أطفأ اللهيب نور عيني ، و حولت حياة ابن عمي و غيره إلى أجساد محترقة ..؟

و هنا ارتطمت كلماته الكامنة في مخيلتي ، فأحدثت في جسدي رعدة و قشعريرة عاجزتين عن أي فعل ، كما العجز اليعربي المفتعل ، لكن شيئاً غامضاً بقي يجول في كياني ، ويرتاد دمي ، ويستبيح لحظتي ، وتتدحرج من بين شفتي تمتمة تقول : أأكتفي بهذا التوجع البخيل ، و صوت المذياع السقيم ؟ أأُصَعِّد من حنجرتي الصراخ المأسور نداءً باسمك يا لؤي ؟ _ و لكن صوتاً من داخلي يردُّ على التمتمة : و كيف يصل الصراخ إلى المحزون ، و ماذا ينفعه ..؟ و كيف سيعوض نزيف الصوت المتهالك نور العيون المطفأة ، و روح الأجساد المحترقة ، وفرح الأطفال المفريِّ بمنجل الشيطان ..؟ قل لي : لماذا السواعد مكبلة بنار شهوة البقاء الخامل الذليل ، ألم يكن أوائلنا يطلبون الموت العزيز ، فتوهب لهم الحياة المذخورة بالكرامة ، و تداخل هذا الصوت مع صوت آخر يقول :

_ كأنك تقول لي : إن الصراخ المأسور لن يصل إلى عيني لؤي ، و لن يداعب شعره البريء بلمسات دافئة ؛ فالرحيل إلى هناك بالساعد و العضد يعوزه الغضب ،  و أنت قل لي : متى تغضب ؟ ( مع الاعتذار من الشاعر ) .

و حانت مني التفاتة إلى التلفاز ، كان لؤي يتنهد ثم يأخذ نفساً عميقاً ثم يصمت ، غير أن وجنتيه سكنتهما سرحة ، تشي بكلام مجروح ، ينبت على شفا أسىً متفجر البركان ، مثل نبض خانق ، خارج من قلب عميق الأوجاع . ثم ألحق ذلك بآهة صامتة ، كأنها تدلي ببوح ساخن حزين ، يقول :

_ منذ أسابيع كان عيد الأضحى ، ارتديت فيها بدلة أهداها لي أبي ، و كان يتأملني ، و يرى الأفق القادم المشرق يتربع بين يدي .. أما ابن عمي الذي أصبح جثة متفحمة ، فقد ضاهاني ببدلة أخرى ، فكنا اثنين نراهن أمام الرفاق متسائلين : أيهما أجمل ..؟ لكن بحر غزة كان يهزأ منا و من (بدلتينا ) ، حين رشقت موجاته الثلجية واجهاتنا ، بينما كنا زواراً له مع الأهل ..

و البارحة كنت و ابن عمي المتفحم نجلس في المكان نفسه الذي جاءتنا فيه الغربان السوداء ، نتلو آيات القرآن ، تُسَمِّعها لنا الوالدة التي أبهجها حفظنا . و منذ أيام كان معلمنا الصبوح الوجه ذو اللحية السوداء المشرقة يقول لنا : أنتم عدة الأيام ؛ فالصلاةَ الصلاة ، و الأدبَ الأدب ، والاجتهادَ الاجتهاد ، و العلمَ العلم .

_ فهل يذهب ذلك كله سدىً ..

و التفت لؤي إلى الإعلامي فجأة و رفع يده ملوحاً ، وهو يقول : ادع لي ، فأنا مسافر للعلاج ، و أرجو الله أن يشفيني ، و إن لم يكن ذلك فلن أيأس ، الحمد لله على كل حال ، و لن تزهق ذكرياتي بفعل الغربان السوداء ، فهي زادي في طريقي ، أبصر بها ما أريد لنفسي و للناس و شكراً لكم ، و لمن قدموا لي المساعدة .

و حينئذ قلت في سري : لن يموت حق وراءه مثل هذا الطفل ، و إن السماء مهما اكفهرت فلن تغلق أبوابها دون دعاء لؤي ، فهي قافلة سمت على مرّ الزمان، وحطّت في حضن غزة، فلا نَامَتْ عيون العربان!!

وسوم: العدد 814