فرصة حزيرانية

1 _الوجوم :

كيف استحال صوتك الراعد كالهجـ     ـوم بحيرة يغرقها الوجوم

حضرني هذا الشعر بينما كانت أنفاسه تكاد تحرق وجنتي ، وهو يقترب بوجهه من وجهي ، كانت كلماته وهي تتهدج على شفتيه معبأة بحسرة كاملة ونصف دمعة أسف تنز من مآقيه ببطء ، وقد أغمض عينيه ، وأمسك بيدي وهو يردد :

_ كانت ساعة فاتت فرصتها يا أخي محمد ، كانت مجزرة تَرَدُّدٍ ، أغلقت بوابات عقلي ، وبنت ألف سدٍّ أمام إرادتي ، لو أنك تدري مدى التقصير الذي اقترفته بحق شعبي ووطني !! لقد تكسرت أفكاري على حافات الجبن ، فتحولت إلى جثة بلهاء قتلتها المساومة ، وأعجزتها مقايضة الضرورة الأنانية بالإنقاذ .

ظل عبد الله يردد هذه الجمل ، وهو مغمض العينين ، بينما كنت أحاول تفسيراً للحالة التي انتابته ، إذ ظننت أنه قد دخل في غيبوبة من أسى ... ولما وصلت إلى هذا الاستنتاج ، رحت أضرب بيدي وجنتيه ، محاولاً استعادة حضوره .

_ عبد الله .. عبد الله .. ما الذي دهاك ؟ قل لي : ما الذي تهذي به ؟ لكنه لم يأبه بمحاولاتي ، ومضى في ترديد الجمل ، فما كان مني إلا أن أحضرت كوباً من الماء البارد ، وقمت برش وجهه على دفعات ، إلى أن استعاد حضوره ، وفتح عينيه ، وتوقف عن الكلام ، ثم راح يدور برأسه وناظريه يمنة ويسرة ، وهو يقول :

_ ها .. ها .. ماذا فعلت بنفسي .. ؟ أتدري يا أخي يا محمد : إنك لن تصدق ما حدث لي أثناء حرب الأيام الستة ..!

_ هات ما عندك ؛ لأعرف معنى الجمل : (( كانت ساعة فاتت فرحتها )) (( كانت مجزرة تردد )) ، (( لو أنك تدري مدى التقصير الذي اقترفته بحق شعبي ووطني )) ؟

_ كلام غامض ، أليس كذلك ..؟!

كانت كلماته ساخرة ، وقد تحول وجهه الأبيض المستدير إلى لون الليمون الأصفر ، وانشغلت يده برد خصلات شعره الأسود الفاحم عن جبينه الواسع ، وفجأة هب واقفاً بقامته المديدة ، وجسمه الرياضي الممتلئ حيوية ، ثم نظر بعيداً إلى السماء ، التي كانت تطل علينا ببقع زرقاء صافية من بين أغصان أشجار السرو الكثيفة ، التي امتدت على حافة نهر بردى ، أثناء جريانه في سهل الزبداني ، قريباً من بساتين الكرز الناضج، ذي الألوان الأخاذة، التابع لأهالي بلدة " مضايا " ، ثم استدار بوجهه نحوي ، وكنت جالساً أتابع حركاته بدهشة ، وأنا أحرك نار المنقل تحت أسياخ الشواء ، الذي عبقت رائحته في المكان ، فزادته سحراً على سحر.

_ وقال : ما أروع هذا الجمال في بلدنا ، أَوَلَا تشعر بذلك الخير العميم في رياض ساحاته ..؟ ألا يستحق هذا

منّا أن نعمل من أجل كبح الخراب الذي جاء به الثامن من آذار والسادس عشر من تشرين الثاني؟

_ بلى يا عبد الله ، إني أشعر بما تشعر به .. بل وأتحرق من أجله .

_ أقول لك بصراحة : بالأمس القريب وبالتحديد ليلة الثاني عشر من حزيران من عام "النكسة " كما يسمونها، جبنت عن فعل ما يجب فعله ..

_ إنك بهذا القول تزيدني شوقا ً ، وإصراراً على سماع ما يختزنه صدرك من أسرار ..

_ محمد : في أي عام نحن اليوم .. ؟

_ في عام ألف وتسعماية وأربعة وسبعين ..

_ وما الذي يفعله هؤلاء الجالسون فوق كرسي الحكم في بلدنا ، وهم الذين سلموا الجولان ، وفتحوا أبواب دمشق ليهود ..؟

_ إنهم يظلمون ، يقتلون ، ينهبون ، يستبدون بكل شيء .. ويحولون سورية إلى سجن كبير لشعبها ..

_ لقد لاحت لي فرصة ليلة الثاني عشر من حزيران ، كي أريح البلاد والعباد منهم .. ولكنها ساعة فاتت فرصتها ، وتكسرت إرادتي على حافات الجبن ، فَتَحولتُ إلى جثة بلهاء ..

_ ولكن كيف ؟ كيف كانت لك تلك الفرصة ، وكيف هدرتها ؟

جلس عبد الله أمامي ، وقد استعادت تضاريس وجهه هدوءها وصفاءها ، فتبدت فيها وسامة محببة ، أبرزت شاباً ، يتفجر بالإخلاص لدينه وشعبه وبلده ، بينما كان وميض عينيه يشع فطنة وطموحاً مشروعاً ، وهو ما خبرته فيه على مدى صحبتي الطويلة له .

 

2 _ قبيل و بعد :

وجاءني صوته الهادئ قائلاً بلهجة واعظة : ليس للمسلم إلا أن يكون جبين الحق ، فلا تنكسر له إرادة في سعيه لمرضاة ربه ، مهما واجه من مواقف صعبة , أتراني نكست عن ذلك تلك الليلة .. فعبأتها تلك اللحظة بأماني التراب ..؟! أم تراني ساومت الحياة ، فعبأت إهابي بشوق الطين ..؟!سأروي لك قصتي مع تلك الليلة .. ولكن لا تقاطعني إلى أن أنتهي .

 منذ أيام الوحدة ، ومن بعدها الانفصال ، كنت ضابطاً برتبة ملازم أول ، سرحوني في الأيام الأولى من انقلاب الثامن من آذار عام ألف وتسعماية وثلاثة وستين ، إذ لا يجوز بعقيدتهم للعسكري أن يكون متديناً ذا خلق والتزام ؛ فالجيش العقائدي لا يليق به إلا أن يكون مارقاً جباراً!! أليس هو جيش الشرق، الذي كونه الفرنسيون قبل مغادرتهم وحشوه بالمارقين والطائفيين؟!  

كان لي إلمام بالتجارة ككل أطفال الشام ، فعملت في هذا المجال برأسمال بسيط إلى جانب وظيفة مدنية متواضعة، بالكاد كنت أستطيع إعالة نفسي وأهل بيتي بذلك الدخل الذي أحصله من الوظيفة ومن محل البقالة، وشغلت بعضاً من وقتي في تحصيل الدراسة الجامعية الأدبية ، وقد دفعني تخصصي العسكري إلى الانخراط في صفوف الجيش الشعبي تدريباً وتدرباً ، فوصلت في هذا المجال إلى رتبة قيادة قطاع وسط دمشق في ذلك الجيش المدني .

كانت زوجتي تأخذ عليّ أنني لم أترك لها وللأولاد وقتاً ، وعندما يفيض بها همُّ البيت ومشاكل الصغار ، تنتهز

فرصة وجودي القليل في البيت لتحتج على الوضع فتقول لي :

_ يا أبا أحمد .. أين مكاننا منك ؟ ما هذا الذي فعلته بنا ..؟

_ فأقول لها : ماذا أفعل ..؟ ما الذي يمكنني أن أتركه من المهام التي اتفقت وإياك عليها .. ؟

_ لا أدري .. ولكنني تعبت وناء كاهلي مما ألاقي في إدارة البيت ومتابعة قضايا الصغار .

_ مهلك يا أم أحمد .. عليك أن تختاري واحداً من الأعمال التي أقوم بها لأستقيل منه وأعطيكم وقته .

ووقع الاختيار أخيراً على ترك الوظيفة المتواضعة ، لكن ذلك لم يسعف في تأمين الوقت المناسب للعائلة ؛ فقد وظفت الوقت الفائض الجديد في خدمة العمل الإسلامي ، الذي نشط في المساجد ، إذ أرهق الانقلابيون حياتنا، وخذلوا أفقنا ، وابتكروا أنواع البطش والشرور ورموها في طريقنا ، فكان لا بد من فعل لا يخاف ، وذات مساء خريفي من عام 1966، كانت زوجتي لي بالمرصاد ، فبادرتني قائلةً وعيناها تضخان دمعتين لا تكادان تفارقان محجريها :

_ إلى أين تمضي بنا في هذا الطريق ..؟

_ إلى الخير يا أم أحمد ، إلى الخير .. ولكن صبراً ، فأحوال البلد تحتاج إلى جهد أهله المخلصين .

_ أسرفت يا أبا أحمد .. وإني والله خائفة .

_ يا أم أحمد : أعطيك حياتي كلها .. فأعطِني غير الشكوى .. وأجرك على الله ..

فما كان منها إلا أن رسمت على وجهها ابتسامة حانية ، واقتربت مني ، وعانقتني عناقاً طويلاً ، ثم هربت فجأة من أحضاني قائلةً :

_ امض يا أبا أحمد في سبيلك ، وأنا عضدك .. إنها لحظات ضعف تنتابني ، وأنا أكابد تفاصيل الحياة اليومية ، فجاء رجاؤك الحاني لينقذ ضعفي ، فجزاك الله عنا خيراً ..

نظرت في وجهها الذي كان يضاهي وجه طفل صبوح ، يختزن فرحاً غامراً فوق التضاريس الناعمة الغضة ، وأطلتُ النظر ، وغضت خفراً , وجالت في خاطري كلمات تقول :

(( واستفاق العطر في جنبات القلب ، لما تسرب في روحي صدق الكلمات ، وأشرق الوجد من عتمة الدلجة ، التي أوسمت قاسيون رذاذاً من رماد ، وراح الفرح على وقع نشيد الكلمات الحرّى ينسج أجنحة ممتدة ، من الآيات إلى وعد الحلم الذي آتتنا إياه الرسالة ، فانكشفت أمام الرؤية الصادقة خطوات الطغاة .. )) .

وعدت من جولة الكلمات على صوت أم أحمد تقول :

_ ولكن لا بد لنا من الاحتفال بهذه المناسبة .. لدي عشاءٌ طيبٌ ..

_ أنتِ الطيب والأنس يا أم أحمد ..

واستغرق المكان ضحكتان أشرقتا عن وعد بِحُرّية ينعم بها الأطفال في قادم الأيام .

 

3 _ الفرصة :     

_ ها هم الرفاق ( مجموعة انقلاب شباط 1966الذي كان انقلاباً على انقلاب ) .. يؤججون حرباً لم يُعدوا لها سوى الكلمات .. !

كان صوتي معبأً بكثير من الخذلان وأنا أوجهه إلى زميلي في الجيش الشعبي :

_ إنك تتجنى على الناس أيها الرجعي ..!

كان يمسك بـ ( الكلاشينكوف ) ، ويدير ماسورته إلى الأعلى ، وقد أتبع كلامه الآنف بضحكةٍ هازئة ، نظرت إليه باستخفاف وقلت :

_ لكنك تعلم علم اليقين .. أنك محاصر يا فتى ً ، وتقول ما لست مؤمناً به ... ألم تفقد أخاك في سجونهم ..؟! وضع بندقيته إلى جانبه ، وألقى إليّ بنظرة عَتْبٍ ، وقال بلهجة متهدجة ، والدمعة تراود حنجرته :

_ أنت تعلم أني لم أقف هنا إلا من أجل هذا التراب .. وحمل حفنة من تراب الخندق الذي يتمترس فيه وذراها في وجهي ، ثم غطى بيديه عينيه ، وأخذ ينشج .. وساد المكان صمت راعب ..

وفجأة رفع يديه عن وجهه وبادرني قائلاً :

_ ألست أنت من دعانا البارحة للتجمع من أجل دمشق الحبيبة ، منطلقين من بناية الحايك على شاطئ بردى..؟

نعم .. وقد دعاني إلى ذلك نبأ سقوط القنيطرة ، وأمر الانسحاب الكيفي لجيشنا في الجولان ، وهما الخبران اللذان جاءا في بيانين بتوقيع وزير الدفاع ، أذاعهما راديو دمشق .. وقد أجريت بعد ذلك اتصالاتي بالعديد من المسؤولين .. وعلمت أن معظمهم هرب إلى حمص بمن فيهم وزير الدفاع وقائد الجيش الشعبي ، وعندئذٍ أيقنت أن دمشق تحتاج إلى أبنائها الحقيقيين لحمايتها .. وقلت : لا أسف عليكم أيها المارقون .

بعد أن اطمأنت نفسي إلى توزيع العناصر في أماكنهم من أحياء دمشق ، آويت إلى مقر قيادة الجيش الشعبي ، في الطوابق العليا من البناية التي تضم في طابقها الأرضي سينما الأهرام ، وهي قريبة جداً من بناية الحايك على نهر بردى ، مقابل فندق ( سميراميس ) ، وهناك قمت ببعض الاتصالات بقيادات الجيش الشعبي ، وببعض الوزارات ، فلم يجبني أحدٌ ، فتأكد لي هروب المسؤولين إلى الشمال ، وعندما تفقدت الأماكن السابقة الذكر بنفسي ، فهمت من الموظفين ( الغلابى ) ، أن الجميع غادروا مع عائلاتهم وممتلكاتهم المنقولة إلى الشمال ، رَدَّدْتُ في سري .. إلى حيث ألقت (( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً )) ، وبناءً على ذلك قمت بتوزيع كل السلاح والذخيرة ، وهو ما وجدته في المخازن المعروفة لدي ، ورحت أطوف في النهار على مواقع الجيش الشعبي ، حالماً بشهادة أفوز بها دفاعا ًعن أرضٍ روّى ابن الوليد بدمه ودماء جنوده ثراها ، وتركها هؤلاء للأعداء بلا قتال .. بعد أن خلصها الأحرار والشهداء من براثن الفرنسيين .

أمضيت ليلتين ونهارين على هذه الحال ، وقد أُعلن أثناء ذلك وقف إطلاق النار ، بناءً على نداءات ورسائل، أرسلها الهاربون إلى الشمال ، باسم الشعب السوري إلى الأمم المتحدة .

وفي الليلة الثالثة ، وبعد أن استقر الحال بوقف إطلاق النار ، وبدأت القوى الدولية تهيئ لجلوس الصهاينة مع المهزومين , وكانت الساعة بعد منتصف الليل ، سمعت جلبة تأتي من سلم البناية ، وفي الحال عمّرت بندقيتي الآلية ( كلاشينكوف ) وأخذت وضعاً حربياً .. وعندما أصبح القادمون أمامي حذرتهم ، فقالوا :

_ نحن أصدقاء ..

_ أصدقاء .. من أنتم .. ؟

_ أنا إبراهيم العلي ، قائد الجيش الشعبي ، وهؤلاء قيادات الجيش الآخرين ..

_ هل عدتم ..؟

_ عدنا

(( آه يا زمان القهر .. ها قد عدت ، إنهم يعودون وقد طبعت حروف الهزيمة على جباههم عنوان غدر ، فلا براءة تطل من العيون ، ولا تضاريس الوجوه تعطيك الأمان .. وكنت أؤمل أن نتخلص من الوجوه المتنكرة بجلود القومية .. )) ولكن ..

لم يأتني جواب العرض ، الذي عرضته على قيادات شعبية مخلصة ، بأن تقوم باستلام الوضع في البلد ، حيث لا حكومة موجودة بيننا ، وقدمت بين أياديهم استعداداً لحشد آلاف من جنود الجيش الشعبي لحماية دمشق والمدن الأخرى من أقدام الصهاينة ، ومن الذين خانوا التراب ، الذين نهبوا ثرواته . راودتني نفسي ، _ بينما كانت هذه الحشرات تقف أمامي في تلك الليلة _ أن أقضي عليهم ، ومضت دقيقة وأنا أتأمل وجوههم الكالحة ، كان رئيسهم فيها يلحُّ عليّ بلهجة راجية : أصدقاء يا رفيق .. أصدقاء ..!

_ تفضلوا .. وأقبلوا عليَّ يعانقونني .. ويقدمون الشكر والثناء على ثباتي وشجاعتي ، وبعد أن شربوا الشاي ، قال الجنرال " إبراهيم العلي " : نستلم منك الآن يا أخ عبد الله .. يا بطل ..

وشعرت بأن بطلاً هذه مليئة بالهزء والسخرية مني ومن هذا الشعب ومن هذا الوطن ، فها هي جحافل هؤلاء تعود برايات الاستسلام ، وها هو عجز التيار المخلص يملأ عيني وقلبي وروحي إحباطاً ، وفي كياني يتردد صدى الكلمات : " إنها مجزرة تَرَدُّد ، ساعة فاتت فرصتها .. " ، وهاأنذا عائدٌ إلى بيتي لِيُزَجَّ بي بعد فترةٍ على يد هؤلاء المارقين في أقبية مخابراتهم ، أذوق أشد أنواع التعذيب .. فلا نامت أعين العاجزين المترددين .

وسوم: العدد 815