في الغربة

د. عبد الرحمن الكيلاني

اوفدني أبي لجامعة كامبرديج ببريطانيا بعد حصولي على بكالوريوس الطب  للحصول على الماجستير والدكتوراه بل والزمالة أيضاً ،عشت في بريطانيا أكثر من عشر سنوات اصطبغت فيها حياتي بالمجتمع الانجليزي في عاداته وسلوكياته وتصرفاته ورؤيته للأحداث بنيت حولي جدار من العقلانية وأخضعت كل شيء للمنطق والتحليل فلا مجال عندي للصدفة ، عدت لمصر وتم تعييني مدرساً لجراحة العظام بالقصر العيني ... ...كنت جاداً جداً لا أعرف التهاون أو المحسوبيات ولا أقبل الواسطة والمجاملات  وهذا اكسبني  الاحترام الممزوج بالحب والهيبة في المحيطين بي من الاطباء وطاقمالتمريض ،

كنت مسلماً تقليدياً اصوم رمضان  وأقرأ القرآن واديت الحج  ....

تزوجت من ابنة عمي ... مر على زواجنا عشرة أعوام لم نرزق فيها بطفل ..... لم أدخر جهداً في عرضها على كبار الاطباء داخلياً أو خارجياً .. ...استسلمت لقضاء الله .

دعيت منذ اسبوع لمؤتمر لجراحة العظام بجامعة أسيوط .. ....ركبت القطار المكيف وأخذت أبحاثي معي ... فجأة جلس بجواري رجل يتضح من هيئته أنه فلاح أو صعيدي أسمر الوجه واسع العينين يرتدي جلابية رمادية اللون يغطي رأسه بشال أبيض يفوح من ثيابه عطر نفاذ .. .....بوجهه ألق محبب تحسّه ولكن لا تسطيع وصفه ... كان يسير بصعوبة يتوكأ على عصا ويستند على ذراع شخص آخر عرفت أنه ابنه الذي طلب مني راجياً أنتقل لكرسي آخر  ليكون بجوار ابيه ،لكنني  رفضت ،اراد  ان يرفع صوته لكنه سكت بإشارة خفية  من أبيه الذي راح يتلو أدعية وصلوات بجانبي مما جعلني  أحسّ بالضيق لكنني  كنت أختلس اليه النظر غاضباً ، فشعر بهذا وقال لي مبتسما: "صوتي أزعجك؟" 

قلت  بمنتهى الجليطة :نعم... وأرجو أن تخفض صوتك ... اعتذر الرجل  ثم راح يتمتم بصوت غير مسموع ..... فجأة استغرق في نوم عميق وعلا شخيره ...شعرت بتوتر من شخيره ولكني لم ارغب  أن أوقظه نظراً لما يعانيه ... ثم فجأة سمعته يتكلم بصوت خفيض " *وعليك السلام ياسيدي يارسول الله*

*سمعاً وطاعة ياسيدي*

*بشرك الله بكل خير* ..

*وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ياسيدي*.

لم يسمعه أحد سواي 

قلت في نفسي : لعل الرجل  اصوفي ممن لايفرقون بين الواقع والحقيقة ...... حيث تتحول الخيالات عندهم إلى حقائق .......و الذين يزعمون أنهم من أهل الحظوة عند الله فيصلون الظهر بمكة والعصر بالقدس ... لكن شخير الرجل  علا ثانية ... ياإلهي إن الرجل كان مستغرقاً في نومه ......و لم يكن يتصنّع النوم ... ريما كانت رؤيا طيبة ......

استيقظ الرجل ولاحظت ان  الألق على وجهه قد زاد و أصبح النور يشع من وجهه .... اقترب منه ولده وراح يمسح وجهه الذي بلله العرق ... فجأة سمعته يقول لإبنه ... الدكتور عبد الرحمن الكيلاني راكب معانا القطر ده وحا يعمل لي العملية بكره !!!!! اصابتني  تلك العبارة بالدهشة  لكنني قلت : ربما أخبره شخص ما ...لكنني قررت أن أخوض معه في الأمر لنهايته .. سألني: حضرتك نازل فين ؟ أجبت: أسيوط ....سكت الرجل ... أشاح  بوجهه عني  ...أصبح الفضول يقتلني ..  رحت أسأله بعض الاسئلة فيجيب بإقتضاب ... 

لم تشف ردوده غليلي ...

قلت له أنا الدكتور عبد الرحمن الكيلاني ... نظر للأرض وكأنه لم يفاجأ ... راح ينكث أرضية القطار بعصاه ... وأنا أسمعه يتمتم بالصلاة والسلام على الرسول ... تركني اتحرق لمعرفة ردة فعله .. لكنه صمت ... 

ثم فاجأته بقولي : لعل رسول الله أخبرك بهذا؟ّ .... رفع رأسه أتسعت عيناه ونظر اليَّ طويلاً ..

ثم سألني متعلثماً وكيف عرفت ؟ 

راح في لهفة يسأل ويلح وأنا أتصنع الوقار وأرسم الجد على ملامحي ... أشحت عنه بوجهي مثلما يفعل وقلت هذا أمر خاص بي .. رد مسرعاً نعم نعم هو رسول الله وحملني لك رسالة يقول لك استوص بالشيخ راضي خيرا... ابتسمت نصف ابتسامة وقلت صلى الله عليه وسلم ...

باغته بالسؤال ولكن هل أنبأك الرسول الكريم أني سأجري لك العملية غدا ؟ نظر اليَّ طويلاً وكأنه أدرك أن الشك يداخلني فيما يقول .. قال نعم وأرسل معي علامة  لك :بالامس كنت تقف مع زوجتك بالبلكونة وترفع يداك بالدعاء أن يرزقك الله بطفل مثلما رزق زكريا بيحيى ثم هوت يدك على كوب الشاي الساخن على حافة الشرفة فسقط في الشارع بعد أن ألهب يدك ....جحظت عيناي ..

تجمدت أناملي .. جف ريقي ... انتابتني رعشة .. رحت ألمس يدي الملتهبة .. 

لا أدري كيف استيقظت شرقيتي المطمورة فجأة ... فانحنيت على يده أقبلها والدموع تملأ عيني ... وسط ذهول الركاب .. راح يمسح رأسي ثم قال ولك عندي بشرى أخبرني بها الحبيب ﷺ :

لقد سمع الله دعاءك وسيمنّ عليك بيحيى ومحمد معاً!!! أمسكت بالموبايل... اتصلت بزميلي رئيس مستشفيات أسيوط وطلبت منه أن يحجز غرفة باسم الشيخ راضي لأني سأجري له عمليه جديدة غداً وأنا من سيتولى كافة التكاليف ... نزلنا المحطة كانت تنتظرني سيارة... صممت أن أذهب للمستشفى أولاً لحجز الشيخ راضي لتجهيزه للعملية... أغلقت تلفوني بعد المؤتمر ودخلت غرفة العمليات... أجريت العملية بنجاح ..كانت عادتي أن أترك المتابعة للفريق الطبي المشارك ... لكني صممت أن أتابعه بنفسي في كل صغيرة وكبيرة تنفيذاً للوصية الكريمة ... 

وأثناء ذلك  جاءني زميل دراسة وأخبرني أن زوجتي اتصلت بي عشرات المرات وكان تليفوني مغلقاً ... أسرعت لاكلمها ... وجدتها منهارة وتبكي ... كاد القلق أن يقتلها عليَّ ... اعتذرت لها ثم صاحت في طفولة:  أنا حامل يا عبدالرحمن  ... أجريت اختبار حمل بناء على نصيحة طبيب النساء الذي يتابعني حيث ذهبت اليه بعد أن شعرت بألم  والحمد لله أنا حامل ... ابتسمت وتراءى لي وجه الشيخ راضي فقلت لها بثقة  : عارف ومش كده وبس أنت حامل  بتؤام ...

صاحت عبد الرحمن أنت تعبان ؟ 

أكملت حديثي وكأني لم أسمعها: ستلدين يحيى ومحمد... ضحكت وقالت :وتؤام كمان ؟ هو أحنا كنا طايلين برص حتى ؟؟؟؟ وبعدين احنا لسه في أول الحمل ياشيخ عبده  ...

وضعت زوجتي تؤاماً ومن يومها وزوجتي تنظر إليَّ بانبهار وإكبار وتقول :انت مكشوف عنك الحجاب ياشيخ عبده!!!! فأضحك في نفسي .... لأنني  لم أخبرها بشيء بناء على طلب الشيخ راضي ...

عمر أولادي محمد ويحيى  الآن خمس سنوات يتشاكسان حولي ولا أستطيع منعهما والا تعرضت لما لا يحمد عقباه من أمهما ... 

رحت أسأل نفسي: ترى أأجعلهما يسلكان طريق العقل الذي سلكته .. والذي تتلاشى فيه العاطفة وتذبل الاحاسيس  ويتوارى العقل  أم أتركهما يعيشان شرقيتهما حيث تتغلب العاطفة دائماً على العقل ... 

لكنني  صممت أن أترك كل منهما يختار ويرسم حياته كيفما يشاء. 

اللهم صل على محمد  معلم الناس الخير...

وسوم: العدد 817