سيدنا معاوية والجرهمي

قيل لسيدنامعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه :

يوجد بالحيرة رجل من جرهم ، له قدم وسن وفصاحة وعقل ، وقد مضت عليه برهة من دهره ، ورأى أعاجيب في عصره .؟

فقال معاوية : علي به .!

فلما حضر قال له : من الرجل .؟

قال : عبيد بن شرية .

قال : ثم ممن .؟ 

قال : من قوم ليست لهم بقية .!

قال : فكم مضى عليك من عمرك .؟

قال : عشرون ومائتا سنة . 

قال : أهَمَّتْكَ السنون .؟ 

قال : أجل يا أمير المؤمنين ، وقرعتني بريبها المنون ..

قال : فما رأيت في سنينك وطول ما عمرت .؟ 

قال : رأيت يوماً في إثر يومٍ يتبعه ، ورأيت قوماً يمضون ولايرجعون ، فهم يجمعون لما يبيد عنهم ، ولا يعتبرون بمن مضى قبلهم ، فذهب الدهر بهم كل مذهب ، ولولا أن المولود يلد .. لذهبت الأرض بمن عليها ، ولولا أن الحي يموت .. لضاقت الأرض بمن فيها 

قال له سيدنامعاوية : إن عندك لعلماً .؟

قال : نعم فسلني ، 

قال : فأي المال رأيت أنفع ، وإلى صاحبه بالخير أسرع .؟ 

قال : عين خرَّارة ، في أرض خوَّارة ، تعول ولا تُعال .

قال : ثم مه .؟ 

قال: فرس .. في بطنها فرس ، تتبعها فرس .!

قال : فأين أنت عن الصهابية الحمر والعوسية الشقر .؟

قال : تلك يا أمير المؤمنين لغيرك ، قال : لمن .؟ 

قال : لمن وليها بيده ولم يكلها إلى غيره ..

قال : فأين أنت عن الذهب والفضة .؟ 

قال : حجران يصطكان ، إن أقبلت عليهما نفدا ، وإن تركتهما لم يزيدا 

قال له معاويةعليه السلام : فأخبرني بأعجب ما رأيت في عمرك .؟

قال : نعم يا أمير المؤمنين ، كنت في حي من أحياء العرب وقد مات لهم ميت يقال له :

جبلة بن الحويرث ، فمشيت في جنازته وأنست بجماعته ، فلما دلي في قبره وأعول النساء في إثره ، أدركتني عليه عبرة لم أستطع ردها ، وتمثلت بأبيات كنت سمعتها ..

قال معاوية : قل يا أخا جرهم ..!

فَأَنْشَأَ يَقُولُ :

يَا قَلْبُ إِنَّكَ مِنْ أَسْمَاءَ مَغْرُورُ  ..

          فَاذْكُرْ وَهَلْ يَنْفَعَنْكَ الْيَوْمَ تَذْكِيرُ 

قَدْ بُحْتَ بِالْحُبِّ مَا تُخْفِيهِ مِنْ أَحَدٍ  ..

          حَتَّى جَرَتْ بِكَ إِطْلاقًا مَحَاضِيرُ

تَبْغِي أُمُوراً فَمَا تَدْرِي أَعَاجِلَهَا  ..

              أَدْنَى لِرُشْدِكَ أَمْ مَا فِيهِ تَأْخِيرُ

فَاسْتَقْدِرِ اللَّهَ خَيْراً وَارْضَيَنَّ بِهِ  ..

              فَبَيْنَمَا الْعُسْرُ إِذْ دَارَتْ مَيَاسِيرُ 

وَبَيْنَمَا الْمَرْءُ فِي الأَحْيَاءِ مُغْتَبِطٌ  ..

      إِذْ صَارَ فِي الرَّمْسِ تَعْفُوهُ الأَعَاصِيرُ

يَبْكِي الْغَرِيبُ عَلَيْهِ لَيْسَ يَعْرِفُهُ  ..

          وَذُو  قَرَابَتِهِ  فِي الْحَيِّ  مَسْرُورُ 

حَتَّى  كَأنْ لَمْ  يَكُنْ  إِلا  تَذَكُّرُهُ  ..

          وَالدَّهْرُ  في أَيْنَمَا  حَالٍ  دَهَارِيرُ .

فبينما أنا أردد هذه الأبيات ، وعيناي تنسكبان انسكاباً لا أملك رد  دمعهما .

إذ قال لي رجل إلى جنبي من عذرة :

يا أبا عبد الله .. هل تعرف قائل هذا الشعر .؟ 

قلت : لا والله .!

قال : هذا قاله الميت " الذي دفناه " 

وأنت الغريب الذي تبكي عليه ، ولا تعرفه ولا تعلم أنه قائل هذا الشعر ..

وذو قرابته الذي ذكر أنه مسرور هو ذاك ، وأشار إلى رجل في الجماعة ،

وقال : والله ما يستطيع كتمان ما هو عليه من السرور بفقده .!!

فقال له معاوية : يا أخا جرهم سل ما شئت .؟

قال : ما مضى من عمري ترده .؟

والأجل إذا حضر تدفعه .؟ 

قال : ليس ذلك إلي ، سل غير ذلك .!

قال : يا أمير المؤمنين ليس إليك الدنيا فترد شبابي ، ولا الآخرة فتكرم مآبي ..

وأما المال فقد أخذت " منه " في عنفواني ما كفاني .!!

قال معاوية : لابد أن تسألني 

قال : أما إذ أبيت فأمر لي برغيفين أتغدى بأحدهما وأتعشى بالآخر ، واتق الله واعلم أنك مفارق ماأنت فيه ، وقادم على ما قدَّمت 

فأمر له معاوية برواحل كثيرة من الحنطة وغيرها فردَّها وقال :

إن أعطيت المسلمين كلهم مثل ما أعطيتني : أخذت ، وإلا فلا حاجة لي في ذلك 

وودعه وانصرف . 

---------------

رَ : المستجاد من فعلات الأجواد .

المؤلف : القاضي التنوخي ، 1/60

وسوم: العدد 834