في الحَجْر الصّحي

ما كان الحَجْر يَضيره، فلطالما عشق العزلة. ولكنّ حَجْر السّقم يَطفح مرارة وضيقا. وما كان يُضجره الليل، كيف وقد كان يُكبِر قول أبي سليمان: "لولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا". كان السعال يعاوده بين الفينة والأخرى فتكاد روحه تزهق مع كل سُعلة. حدّث نفسه: ويلي! ما لي لا أكاد أطيق هذه الغرفة؟ أما كانت ساعات بين الكتب تمرّ كلمح البصر؟ ثم ينقضي الليل وما يشعر إلا وقد أطلّ الفجر. فما بال الدنيا وكأنما توَقف الزمن فإذا هي لحظة واحدة: الانتظار ولا شيء غيره. لكن، ماذا ينتظر؟ وماذا ينتظرون؟ لا أحد من هؤلاء الذين يدخلون عليه يُفصح بشيء. وليتهم يبتسمون أو يومئون أو يَكذبون. وكيف يفعلون ولا تُرى إلا أعينهم من وراء قناع. فإذا ما ولجوا الغرفة قاسوا حرارته ثم حقنوه، ثم انصرفوا صامتين. ولِم الحقنة؟ ألم يقولوا إنه لا علاج لحد الآن؟ لم يعد يطيق زبانية الموت هؤلاء، كلما قدِموا بألبستهم الجلدية البيضاء ذكَر الكفن. ما كان يخشى الموت، بيْد أنه لم يكن يريد هذه المِيتَة. ولعل مُسعفيه أخوفُ من الموت منه، وإلا فما لهم يتترّسون بجلود تَحوطهم من أخمص القدمين إلى أعلى الرأس؟ الناس كلهم في هلع، كلهم يخشون الموت، فما لهم لم يُعدّوا له عُدّة؟ وهذه المدينة التي أوشكت أن تغدوَ مدينة أشباح، ألم يكن حَرِيّا بها أن تستمسك بالفضيلة؟ كان سكانها يحيَون كما تحيى الأنعام، وكأنّ البصائر عمِيت، بل كأنّ الموت لم يُخلق.

ذبذبةٌ بالهاتف.. إشعارُ الوفاء. نظر من وراء زجاج النافذة فألفاها في المكان عينه وفي الدقيقة نفسها. لم يكن بينهما كلام، لكن العيون قالت كل شيء. ما كان يؤمن بالتخاطر قبل أن يَحدث الذي حدث. أما الآن فإنه من أشد المؤمنين. هو اليومُ العاشرُ من الحَجْر، وهي السنة العاشرة في كنف المودة والسكينة. اليوم يتخاطران فيذكران سَنتهما العاشرة لحظة لحظة.. ترقية العمل، موت الجار، الحَمْل الثالث، شغب الولد، ثِقَل الدَّيْن، سهر الليل، مرض الأم، مسرات ونوائب، وذلك الحديث المكرَّر عن بيت يملكانه...

-         ألستِ سعيدة؟

-         بلى، ولكن إلامَ الترحال؟ أنُنهي حياتنا في بيتِ كراء؟

ما كان بوُسعه حينئذ أن يخبرها أن أكثر من تعرفهم سيهجرون ديارهم عما قريب، وأن الموت سيدركهم ولو كانوا في بروج مشيدة. هذه المدينة المنكوبة ليست أسوأ حالا من غيرها، فها هو الموت يزحف إلى الأقاصي. تذكّرا اليومَ إفطارَ المغرب، كان حليبا وخبزا، تلك هي مؤونة البيت. كان رمضان ذلك العام تَلفح سمائِمه، وكانت السعادة تغمرهما إذ صبرا على الجوع ولم يُبديا إلا تجمّلا ورضا.

انتهت الزيارة بصمت كما بدأت بصمت، وإنها لتنتهي كل يوم بأمل وتبدأ بشوق. استلقى على سريره منهكا، توسّد يديه فتذكر فجأة كل من أساء إليهم، من اغتابهم ، ومن احتقرهم، من سخر منهم، ومن هجرهم.. لكنه لم يكذب أبدا، ولم يسرق، ولم يحقد، ولم ينافق. حاول أن يَذكر من أحسن إليهم فلم تُسعفه ذاكرته. لكنْ لا بد أنه قد أحسن، فما له يَذكر الإساءة ولا يَذكر الإحسان؟ وكيف تغلِب إساءتُه إحسانَه وقد اختار الصّرم الجميل؟ كانوا يقولون إن به تعنّتا، وربما تنطّع في الكلام، أو لعل به عَجلة لا تردّها رويّة. وكان يعذرهم لجهلهم، وما كان يخفى عليه أن "الغير" يَشِيده "الأنا" وتمثلاتُه، أليس كذلك قال سارتر؟ بل إنه ليَذكر ما قرأه وقد أيفع.. عالَمُ كل إنسان ما أدركه عقله فحكم به. كان حينها معجبا بديكارت، والحق أنه ما يزال. تمنى لو كان بين يديه الآن كتاب "قصة الإيمان"، أحس بشوق لمعاودة قراءته. لعله كان في حاجة إلى رُشد الشيخ "الموزون" ونُصحه، كما احتاج إليه حيران بن الأضعف. ولعله اشتاق إلى سكينة الفهم، وطمأنينة الإدراك، إذ كان مَن حوله لا يَضرّهم اللَّبس، ولا يُقلقهم الغموض.

رنّ الهاتف فمد يده متثاقلا، التقطه فإذا به زميل العمل.

-         كيف حالك اليوم؟ وهل من خبر يسرّ؟

-         لا شيء جدّ أيها الصديق، زبانية الموت يحضرون ثم ينصرفون، ولست أراهم يحسبونني غير خلايا مستعصية على العلاج.

-         إنما يفعلون ذلك رجاء شفائك. فلا مناص من الصبر يا صديقي.

-         بل يفعلونه خشية أن تصيبهم العدوى. شفائي نجاةٌ لهم. وأنت ما أخبارك؟ هل اعتدت سجن البيت؟

-         أتدري؟ كأني أتعرّف أبنائي، بل أكتشف نفسي. لقد كنت أُمضي أكثر وقتي في المقهى. لم أكن أعلم أن لهذا الفيروس اللعين بعض حسنات.

حقا، لقد اكتشف الناس مكرَهين أن الحياة في غنى عن ذلكم التعقيد كله، وأنها تكون أجمل بأمور يسيرة. أدركوا أنه لا ضير أن تُلعب كرة القدم دون جمهور، وأن المقهى ليس مسكنا آخر، وأن الجُبن المصنّع ليس من لوازم فطور الصباح. حتى بائعو المخدرات تقسُّطا لزموا مساكنهم لِكيلا َيحْطِمنّهم الفيروس غير مبال. وعسى أن يكون الناس أدركوا أنهم لو كانوا يملؤون المكتبات كما كانوا يملؤون الشوارع والأسواق لكانوا الآن أحسن حالا. نعم، لعلّ الفيروس حسنًا فَعل إذ ردّ الغافلين إلى شيء من السكينة والتأمل. ولعلهم قد أدركوا أن الموت أقربُ إليهم من حبل الوريد. حظرَ "كورونا" عوائدَ بلّدت الحس والعقل، فانبثق خيرٌ أطبق عليه الرّان. وهذا العالَم النَّزِق، أما أدرك بعد أن العالَم يسَع الجميع لولا الجشع والزيغ؟

قضى ليلته تلك نائما مطمئنا على غير العادة. عاوده السعال بغتة، فأسرع إليه الزبانية، وضعوه على السرير، حقنوه ثم انصرفوا. ها هي ذبذبة الهاتف.. هي الساعة نفسها. وقفت "وفاء" تنتظر إطلالة الحبيب.. انتظرت طويلا.. لكنه لم يُطل.

وسوم: العدد 869