كاتبة من دير الزور

يصادف اليوم، الرابع من كانون الثاني عام ألفين وخمسين، حيث نحتفل بمدينة دير الزور كعاصمة للثقافة العربية. وحيث أسترجع تلك الليالي التي كبرت فيها معاناتي ، كغيري من بنات جيلي اللواتي عاصرْن مالم يكن في حسبان ذاتنا أو اعتلج في أفكارنا . فأقول وأنا أمخر عباب الأيام الخوالي : اسمي عليا . كنتُ أعيش – في وقت مضى - لكني لا أزال أعيش تفاصيل ذلك الوقت حتى اليوم .خُلقت يتيمة. توفي والدي بحادث سير وأنا جنين في رحم أمّي. عشت مع والدتي الأرملة في منزل جدّي في حي العُرضي في مدينة دير الزور لأن المجتمع لا يتقبّل فكرة استقلال الأرملة الشابة في منزل لوحدها.

قامت الحرب عندما كنت في الحادية عشرة من عمري. عشت طفولتي في سوريا التي حدّثتني عنها أمّي، البلد الآمن الذي يعيش فيه الفقير مثل الغني... أصبحتُ فتاة حين قامت الحرب في بلدي لتأكل الأخضر واليابس ، وفي أكثر الأوقات العصيبة التي مرّت بها. حين حاولوا حرقها وطمس معالم جمالها. حين هدموا حضارتها وشردوا الآلاف من شبابها وعائلاتها. في تلك الفترة تحديدا نشأت لأعاصر أحداث تفوق عمري ، وتصيب بالأكدار  تطلعاتي وأحلامي .

 في عام 2012م كنتُ لا أزال طفلة، دمّر القصف منزل جدّي ولم ينجُ أحدٌ سوى أمي وماكينة خياطتها وأنا ودفتر التعبير والإنشاء الخاص بي. ذاك في  اليوم الأخير في دير الزور. لا تزال رائحة اللحم المحروق عالقة في أنفي منذ ذلك اليوم ، وصور تلك اللحظات الحزينة والمخيفة في نفس الوقت مطبوعة في ذاكرتي. الدماء تسيل على خدود الوجوه الباكية، وكأن السماء أمطرت دماء على رؤوسنا

هربنا من ديرالزور بأعجوبة ، وصلنا إلى الرقة في ساعات الفجر الأولى. أمهات ثكلى وأطفال يتامى وشيوخ ضعفاء يجلسون على جنبات الشوارع. فقدوا الكثير وينتظرون يدا تمتد لهم وتقدّم المساعدة.كانت أمي تحتضنني بشدّة وكأنها أرادت أن تجعل من جسدها مخبأ لي ، لم نكن نعرف إلى أين نتّجه ! ولا أي شيء ينتظرنا؟ في تلك اللحظة لم يكن يشغل بالنا سوى كيف وأين سننام؟ يومها أدركت أن حياتي لن تكونَ سهلة ، وبدأت حكايتي. إذ تحولت من طفلة يتيمة إلى فتاة نازحة ، ثم زوجة قاصر ثم طفلة أرملة ، وانتهى بي المطاف كاتبة من دير الزور . لقد اقترن اسمي بعمل أدبي واحد وهو (مذكّرات طفلة أرملة ) رغم تتالي رواياتي بعدها. فما سرّ هذه القصة. وما حقيقة ما يُقال بأنها قصة حياتي ! وأنا مَن وصفت نفسي بالطفلة الأرملة قبل قليل؟ أجل : إنها مذكّرات طفلة أرملة وحسب . ومن هنا أبدأ السرد ، ليست قصة حياتي لكنَّ بطلة الرواية من لحم ودم . والشخص الذي يفتح الكتاب لا يقرؤه ، وإنما يسمع صوتها وهي تتلو عليه القصة .

أنهيت كتابة الرواية في عام 2016م عندما كنت نازحة في الرقة مع والدتي

وكان قد مضى على وجودنا بالرقة مايقارب الأربع سنوات، الغريب يبقى غريبا حتى ولو نزح إلى بلدة أخرى في نفس الوطن . كنتُ أمضي معظم وقتي في غرفتي أقلب صفحات دفتر التعبير والإنشاء الذي أحضرته معي إلى الرقة. أقرأ مواضيعي التي كتبتها قبل الحرب عن الربيع في دير الزور وعن المطر وعن الأم.. ماتبقى من الدفتر كان خاليًـا من الكلمات. كانت الصفحات الفارغة تناديني للكتابة كل يوم. فبعد أن تطفئ أمي ماكينة الخياطة ، وتخلد للنوم كنتُ أنزوي في الغرفة واملأ الصفحات الخالية من دفتر التعبير بكلمات كنت اكتبها على ضوء عيني. كنتُ أدوّن وأدوّن ، وأصف الأشياء كما أراها رغم صغر سني، مثلا أطلقتُ اسم الودودة على ماكينة الخياطة في كتاباتي ، لأنها كانت صديقة أمي الوحيدة وأنيستها في لياليها الطوال . كانت كتاباتي عشوائية غير منتظمة لكني لم انقطع يوما عنها.كنت أكتب عن والدي الذي لم أعرفه، لكنَّ أمي حدَّثتْني بأني أشبهه بشكلي وتصرفاتي. هو كان أيضا شديدة السُمرة ونحيل القامة وشعره شديد السواد والنعومة ، ويحب التدوين والكتابة وفي حوزته دفترٌ وقلم . وكم كنت أسعد بذاك التشبيه. وكما يقال كل فتاة بأبيها معجبة . لم يكن لدينا أي أقارب! حتى أن من عرفتهم بطفولتي تلاشتْ صورهم من ذاكرتي مع مرور الوقت . فصرتُ أتخيّل بعض ملامحهم ، أو ربما أتوهمها.في أسابيع النزوح الأولى، تأقلمنا مع المجتمع الجديد. فقد نزح الكثير من أهالي دير الزور إلى مدينة الرقه ، وتشاركنا معهم أوجاعنا وأفراحنا على حد سواء. همومنا مشتركة ودعواتنا واحده. ما أجمل الأيام قبل ظهور غربان داعش. كانت النسوة تملأ بيتنا، يردن من أمي حياكة الفساتين لهن . خاله أم عمر التي تعرّفنا عليها منذ أول يوم بعد النزوح ، وخاله سميرة وهي جارتنا في العماره، والخاله سعاد قريبتها ، كنتُ أفرح بترددهن إلينا كما لو أنهن فعلا خالاتي، وكنتُ أتسوق لأمي الخيطان والكلفة واشتري الخضار والفواكه في طريق عودتي إلى البيت . وفي إحدى الأمسيات وبينما كنت أعدّ القهوة للخالة أم عمر سمعتها تحدّث أمي وأنها تريد تزويجي لابنها الوحيد عمر. أرادت أم عمر أن تطوي صفحة الحداد والحزن بعد مقتل زوجها وأن تفرح بابنها عمر ابن العشرين عاما . رفضت أمي وأخبرتها بأنني لازلت طفلة وتقتصر أحلامي على اللعب بقصاقيص القماش ، وكتابة مواضيع التعبير وكل ما أحتاجه هو المرح بالإضافة إلى أمل العودة إلى المدرسة. سمعتُ الحديث الذي دار بين أمي وأم عمر ، وكيف وصفتني أمي بكلماتها وألهمتني بالكتابة عن نفسي فأول كلمة كتبتها كانت أنا طفلة.ظهرت داعش، ووصفت رجالها بالغربان في روايتي، تماما كما كنت أراهم. يقفون فوق الجثث مثل الغربان والطيور اللاحمة الجائعة.وعندما منعوا النساء من الخروج من المنازل، التقيت بأحمد للمرة الأولى بعد أن تكفل بمساعدتنا أنا وأمي في شراء الحاجيات لنا، وإحضارها إلى باب المنزل. شدّني جمال عينيه ، وأسرني صوته الرجولي العميق ، ولفتتني لباقته. وفي أحد الصباحات وقبل موعد وصوله، وقفت أمام المرآة ، ودهنت شفاهي بالمرطب ووضعتُ القليل من الماسكرا ، وفتحت زر القميص العلوي لأن الجو كان حارا جدا. لم أعرف عن أي شيء كنتُ أبحث في ذلك اليوم . وصل عمر وكان برفقة والدته، خجلت من مظهري وأغلق زر القميص ورحت امسح المرطب عن شفتي بيدي ببراءة طفلة، لم يتجاوز عمري الخامسة عشرة في ذلك اليوم. ما إن جاءت أمّي من غرفتها حتى بادرت أم عمر وقالت بأنها جاءت مع عمر لتطلب يدي مرة أخرى. شربوا قهوة من صنع يدي ، وغادروا مسرورين بموافقة والدتي. ضمّتني أمّي إلى صدرها ، وبكت وقالت لي : إنها تتمنى أن تراني سعيدة بحياتي ، وأن تعوّضني عن كل ما حُرمت منه. كانت تبكي بحرقة ، واحتضنتْ وجهي بين كفيها وقبّلت جبيني . جلسنا على حافة السرير ورأسي على صدرها وأخبرتني أنها وافقت على خطبتها من عمر لأنه الحل الوحيد لحماية فتاة في عمرها من غربان داعش السود. أجل ... وافقت أمي بسهولة ، فأنا كنتُ أبحث عن سند في حياتي. قسوة الحرب والنزوح جعلتني أشعر بأنني عبء على ظهر أمي التي لا حول لها ولا قوة ، فلم أعد مجرد طفلة بل أصبحت فريسة يمكن أن يستبيحوها في أي لحظة . ولا يزال يرن في أذني صوت فرامل سيارة الحسبة ، تقف لاعتقال الرجال والنساء من أمام منزلنا لأسباب لم نسمع بها من قبل، ذاك لأنه تأخّر بإغلاق محله أثناء الصلاة أو لأمور أخرى قد لا يُصدق المستمع الآن أن أهالي الرقة ودير الزور سمعوا بمثل ما يقوله هؤلاء . إنها مرحلة ... فرضت داعش العباية والملابس الفضفاضة والمحافظة على النساء والرجال، كثر الزبائن في منزلنا. صارت معظم نساء الرقة يزرن  بيتنا ويدفعن لأمي المال لُتحيك لهن العبي ولأزواجهن الجلابيات .  فامتلأ بيتنا بالقماش الأسود والرمادي، كم أكره تلك الأيام !

بعد أن أعلنتُ موافقتي على الارتباط بعمر ، تم الزواج بشكل مختصر وعلى الضيق كما يقال... فقط الجيران وبعض الأصدقاء ، ارتديت ثوبا بنفسجيا من الدانتيل عاري الكتفين بقصة ذيل السمكة أحاكته لي أمّي. مع تطريز ذهبي خفيف عند الصدر وضعت أقراطا ناعمة وتركت شعري منسدلا بتموجات هادئة وزينته ببعض الزهور البيضاء الطبيعية . ووضعت أحمر شفاه وكحّلت أم عمر عيني على طريقة كليوباترا. ضمتني أمّي إلى صدرها وسالت دموعها الدافئة على خدّي.لم نستطع أن نغني أو نرقص ولم تزغرد أمي ولا أم عمر، داعش حرّمت مظاهر الفرح. رأيت الدهشة في عيني عمر عندما رآني كعروس، ابتسم لي ثم ابتسم لأمه وقبّل رأسها. اقترب مني ووضع خاتم فضة في إصبع يدي اليسرى وهمس لي ألف مبروك. ومرت الأيام والليالي... حدثني فيها عمر عن أحلامه معي. أراد عائلة وأرادني أن أكمل تعليمي حالما ينتهي حكم داعش. كان دائما مؤمنا بأن الفرج والتغيير قادم.

بزواجي من عمر شعرت بأن الحياة قد أنصفتني كطفلة لأني رأيت في عمر قامة الأب والأخ والزوج ، لم يكن زوجا فحسب، كان حصنا منيعا وحضنا دافئا، عرفت معنى أن يكون رجل إلى جانب امرأة مع عمر. حتى هذه اللحظة أذكر رائحة أنفاسه ونبرة صوته ورقة يديه . آهٍ ... كم تخطر على بالي مواقف  وأحداث ، وكم أشاهد خلف الأفق البسيم مناسبة اختيار دير الزور عاصمة للثقافة العربية لعامنا الحالي ٢٠٥٠م ، وربما أغرق في أحلامي حتى الصباح .

ازدادت الحياة تدهورا وسوءا ، وأصبحت الإعدامات الميدانية تقام في ساحة المدينة والجثث تصلب لثلاثة أيام بعد القتل لتخويف السكان. قلّ خروج الأهالي من بيوتهم ، فأصبح الخروج للضرورة القصوى. وكانوا يكتفون بمشاهدة الشارع من شق الباب أو النافذة ، نعم كان الخوف سيد الموقف . وفي أحد الصباحات وبعد أن شربنا قهوتنا ...طلبتُ من عمر أن يذهب إلى السوق لشراء بعض الخضار والفواكه لأن ثلاجتنا كانت فارغة. ساعدته بارتداء قميصه الكاروهات الأزرق والأسود، وشمّر بنطاله لما فوق كعبيه وقبل أن يخرج ودعني بقبلة على خدّي ، وقلت له بأمان الله ، ولم يستجب الله لدعوتي ذلك اليوم !!!

خرج عمر ، فشعرت بكآبة لم أشعر بمثلها من قبل ، تنهدتُ بعمق وشربت القليل من الماء ، ومضت الساعة تلو الساعة ، وحلّ المساء ولم يعد عمر.. كانت الخالة أم عمر وأمي قد جالتا الشوارع ، وسألتا كل من صادفهما عن عمر إلاّ أن أحدا ما لم يره أو يعرف عنه شيئا .

كان الدواعش ينتشرون في الشوارع ذلك اليوم  ، ويقومون بحملة اعتقالات واسعة وذلك على خلفية الخسائر الأخيرة التي تكبدها التنظيم في قتاله مع القوات الكردية . كانوا يسحبون المدنيين من داخل بيوتهم ومن أمام محلاتهم وفي الشوارع. . هذا ما رأته أمي وأم عمر ذلك اليوم. لم اكتف بمحاولة أم عمر وأمي في البحث عن عمر ، وهرعت إلى الشارع بنفسي ووقتها نسيتُ أن أُغطي وجهي فضربني أحد رجال داعش بعصا على ظهري أوقعني أرضا، أسدلت الخمار على وجهي ، وركضت إلى حيث لا أعرف . مرت ثلاثة أيام لم أنم خلالها إلا دقائق ، ولم يصبني يأسٌ أبداً بأمل عودة عمر ، حتى طرقت إحدى الجارات علينا الباب ،  وقالت: الدواعش أعدموا ثلاثة رجال في الساحة. خرجت من المنزل حافية أستطلع ماوراء النبأ ... عرفته من قميصه الكاروهات كان ممددا على الأرض وينظر إلى السماء بأعين مفتوحة، غادرني حبيبي وانكسر حصني المنيع وأصبحت أرملة ، وأنا في السادسة عشرة من عمري .

يقال الضربة التي لا تقتلك تقوّيك.. ماحصل لي ببداية حياتي كان وقعه قاسيًا جدا.. كنتُ في كلّ مرة أبحث عن سعادة كاملة فأفشل في إيجادها ..حتى أدركتُ أن لا وجود للسعادة بالمطلق مالم نرضَ بما قُدّر لنا.. ثم لنتخطى الوجع.. فالحياة مستمرة كما قلتْ.. ولدينا دائما خيار رسم خطوط استمراريتها... نحن من يختار تخطي العثرات وإكمال ما بدأناه ... نعم لازلتُ مخلصة بحبي لعمر فهو أول وآخر من شرح لي معنى الرجولة التي نقرأ عنها في الأشعار .أكملت حياتي وحققت ما أردتْ. رغم صعوبة الطريق وكل العثرات إلاّ أني نجحت بفضل مساندة أمي لي دائما ودعائها.. وإصراري للوصول إلى متكآت الأمان . نجوت من كل ما حدث لوطني ، وبقيتُ على أرضه، وكتبت عن كل ما شاهدته وعشته . وفي كل يوم مر، تكبر أحلامي وطموحاتي ، وكانت انكساراتي محفّزا للكتابة وآمنت أن الوجع يولّد الإبداع . وهاأنذا اليوم كاتبة مرموقة لي مصداقيتي ومكانتي ، فأوجاعنا لم تخيِّبْ ظنوننا ، وهكذا همست لي (عليا) بعد غروب شمس ذلك النهار ، وخلف مسيري أغفتْ حسراتي على وسادة أمل بهيج  لا أظنه يأفل أبدا ، لأن الأفق مازال رحبا ، وأبواب السماء لَمَّــا تزلْ مفتوحة للموجوعين .

*هوامش:

*هذه القصة من سلسلة الروايات الإذاعية : ( قصر البنات ) على القناة الإذاعية : ( شوفي مافي ) ، وتمت إذاعتها في الأسبوع الفائت من هذا الشهر المبارك رمضان للعام 1441هـ . وهي من القصص التي اختارتها هذه القناة ...

وسوم: العدد 876