ابنُ مسكنة البار

 

اختار آدم ابن الرابعة والثلاثين  عاما من قرية مسكنه في ريف حلب الشرقي أن يسافر إلى بلد آخر ، والعيش وسط أناس مختلفين  ، بعد أن ضيّقت الحياة خناقها عليه . وبات تأمين لقمة العيش صعبا.كان يقضي آدم معظم وقته وهو يفكر بكيفية جني المال ، ليعيل عائلته . ورغم أن لبنان البلد التي اختارها_لاتبعد كثيرا عن سوريا الوطن إلاّ أنه منذ عشر سنوات رحل عنها . وازدادت الأمور سوءا وبات يسأل نفسه طوال الوقت هل سيعود إلى بلده مرة أخرى؟ ومتى سيكون موعد اللقاء بقريته ؟

يأتي الليل محملا بالآلام والذكريات.  يتذكر طفولته وكيف كان فتى يعتمد على نفسه ، وقد ترك المدرسة في المرحلة الاعدادية وعمل أجيرا عند السمّان ليحصل على بعض النقود التي تساعد عائلته ولو قليلا ، رغم صغر سنه

وكان يقضي وقته بعد عودته من عمله مع هاتفه (الجوال) يتصفح مواقع التواصل الاجتماعي ، يقرأ الأخبار مابين الفيس بوك والانستغرام والتويتر... هنا ترتسم على وجهه ابتسامة اثر فكاهة كتبها أحدهم ,وهنا تسقط دمعة متأثرا بحادثة حصلت، وهنا تنتعش روحه بآيات كريمة يسمعها من كتاب الله الكريم . فيطمئن قلبه هامسا لنفسه ستفرج إن شاء الله ...

اعتاد آدم المشاركة في القروبات التي تضم شرائح مختلفة من طبقات متعددة . وجنسيات مختلفة ، فيتبادلون الآراء ويستفيدون من خبرة بعضهم البعض . فيتقاسمون أفراحهم وأحزانهم ، ويخففون عن بعضهم قسوة الحاضر ، ويبعثون  في أنفسهم  الأمل الوريف بغد أفضل، إنَّ أحدًا ما لا تخلو حياته من المشاكل والأحزان. ولطالما تشابهت مآسيهم فهم ينتمون لبيئة واحدة ،ومشاكلهم وإن اختلفت في ظاهرها إلاّ أنها حقيقة تصب بذات الوجع بصوره المتعددة . كان يقرأ جميع المنشورات التي يكتبها الأعضاء في تلك المجموعة التي تضم الجنسين رجالا ونساء ، ومن جنسيات عربية مختلفة، كانت تلفت انتباهه منشورات بقلم نسائي لطيف دائما تبث التفاؤل والأمل في قلبه ، تنشر صفحات القصص ذات النهايات السعيدة والأحداث التي تمحو الأحزان،  كانت تلك منشورات( ضحى) المرأة الأكثر تفاؤلا في تلك المجموعة المحفزة بكلماتها ومنشوراتها التي تدخل السعادة لكل من يقرؤُها، أُعجب آدم بضحى أشدَّ الإعجاب ، وقرر أن يحدّثها عبر بريدها الخاص ، أرسل إليها رسالة يعرّف بها عن نفسه ، لكنها لم ترد عليه! وكرر محاولته إلى أن وصلت رسالة إليه منها رسالة : (أهلا بك آدم أنا ضحى من فلسطين) . انفرجت أسارير وجهه ، أجل أخيرا ردّت على رسالته ، بادلها التحية معرفا عن نفسه : (وأنا آدم من سوريا تشرفت بمعرفتك) . تبادلا حديثا بأسئلة تقليدية ليتعرّفا على بعضهما ،متزوجة أنا ولدي ثلاثة أطفال قالت ضحى ... دُهش آدم كونها متزوجة.. ربما لم يكن يرجو أن تكون كذلك لتكون له مساحة حرية أكبر بتبادل الحديث معها . لكنّ ذلك لم يشكل حاجزا أمامهما في مناقشة المنشورات التي تصدر في المجموعة وتبادل الآراء بشكل محترم عبر أحاديث وقصص تستغرق ساعات وساعات أمام شاشة الجوال .اعتاد كل منهما الآخر ، وأصبح يتشوّق لإنهاء يوم عمله الطويل الشاق في سبيل العودة للبيت لفتح جواله والحديث مع ضحى . وهي كذلك.. اعتادت إنهاء واجباتها المنزلية والتزاماتها العائلية لتحدّث آدم عن نهارها وأعمالها إلى أن أصبحت تحكي له حتى عن مشاكلها ، وكل ما يسعدها أو يبكيها . كانت تجد فيه نعم الأخ ، وربما هو ذاك الصديق الغريب الذي تثق به ، وتطمئن إليه. حدّثها آدم عن طفولته القاسية وعن اعتماده على نفسه منذ سِنٍّ مبكرة ثم غربته بعيدا عن عائلته ووطنه. وجملة أشواقه التي تكوي قلبه. كان عنوان علاقتهما الثقة المتبادلة والاحترام .و ذات مرة اعترف آدم لضحى بشعور بات يصعب عليه كتمانه. وأفصح لها عمَّـا يجول في ثنايا صدره . حينها ارتبكت ضحى حيث سمعت آدم يترجم مشاعره إلى جمل ، شعرت من خلالها أن آدم  كان مترددا ، وكان خائفا يخشى أن تتركه ...أنهت حديثه معها ، واختفت لبضعة أيام. وحين راسلها من جديد أجابته : (أن ليس باستطاعتها الاستمرار لاسيما بعد أن اعترف لها عن مشاعره التي ماعاد باستطاعته التحكم بها) .

لوى آدم مقود خُطاه إلى دار عزلته ، وموئل كآبته ،ليعيش دنيا أملٍ مرتقبٍ في عالم الغيب . يحرضه حنينٌ من عالم مجهول يفيض بأفراح ربما رسمتها له نفسُه حال هدأتها في ليلة قمراء . من ليالي صيف قريته الجميلة الوادعة ، قرَّر أن يعود إلى مرتع صِباه ، وإلى مغاني قريته ،أجل إلى مغاني قريته ، فعاد إلى دمشق ، ومنها امتطى السيارة التي امتلأت بالركاب المسافرين إلى حلب . وأخذ الركاب أماكنهم ، وانطلق ( الباص ) يتهادى على طريق طويل ... وربما يراه آدم هكذا ، وجلس إلى جانبه رجل ستيني ، تبدو عليه سيما الوقار ، وسأله إلى أين يابنَ أخي أنت ذاهب ، أجاب آدم : إلى قريتي مسكنة . التفت إليه الرجل وقال : مسكنة ! نعم مسكنة تلك قريتي وفيها أهلي وذكرياتي حلوها ومرها . انفرجت أسارير الرجل وكأن بابا جديدا فُتح أمام ماضيه الذي لاينساه في مسكنة ، ودارت الأحاديث ، وعرف الرجل والد آدم ، وقد فارق القرية منذ بداية الاضطرابات في البلاد ، وهاهو يعود مع أفراد أسرته إلى الأرض المباركة التي ليس له أن ينساها ... هكذا استرسل الستيني في حديثه ، توقفت السيارة  لاستراحة كعادتها في كل مرة ، ولتكون الأحاديث أقرب إلى مرتبة الإخاء والجيرة والتفاهم ، وحينما نادى قائد المركبة ركابه للصعود ، كان الرجل وابن أخيه آدم قد اتفقا على أن يتزوج آدم ابنة جار أهله الذي رأى فيه معاني الإباء والرجولة والمسؤولية ، وكان آخر كلام الرجل ويده بيد آدم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (حَقٌّ علَى اللهِ عونُ مَنْ نَكحَ التِماسَ العَفافِ عمَّا حرَّمَ اللهُ) . وفي موعد لاحق ، اجتمع شمل الأسرتين ، وتمت ترتيبات الزواج ، ليستقر آدم في بيته زوجا صالحا لزوجة مباركة ، وليبدأ الحياة من جديد .

وسوم: العدد887