قصة حسّان الولد

الفتى الذكيّ المؤدّب صاحب السنين الأربعة عشرة حين تغيّب عن الدرس وتفوّه ببنت شفته بعذر غير مقبول !

فما كان من المعلم الوقور ( جودت الهاشمي )

إلا أن صرخ بوجهه كفى ، أرسلك أبوك إلى المدرسة لتنهل من العلم وترقى لمرتبة المتعلمين ولتصبح عالما وتتدبر الحياة ، لم يرسلك لتلهو مع رفاقك خارج السور وتتغافل عن أداء واجبك ! وتأتي الدرس وكأنك آت إلى مقهى !،

كان حسان تائها بين أمرين ؛ أحدهما أن يلاسن معلّمه أمام أقرانه من التلاميذ ليظهر مكانته ، والثانية أن يكون أديبا كما شاء له أبوه أن يكون ، وآثر حسان على نفسه الصمت ، وما كان للمعلم جودت الهاشمي إلّا أن يأمر حسان بالعودة للبيت ويعطيه كتاب تأنيب وعتاب لأهله واستدعاء وليّ أمره !!!؟ حسّان وحيد أبيه المدلل ، وحسان طالب ذكيّ متفوّق ومميز عن أقرانه بالأدب الجم والطاعة ، أخذ الكتاب من يد معلّمه واستقبل الباب وقد دمعت عيناه ، لم يكن يقصد إثارة معلمه حين تأخر عن الدرس ولم يكن متوقّعا أنّ عشردقائق لهو خلف سور المدرسة ستؤدّي إلى طرده من الدرس ، أمسك حسان بمقبض الباب وفتحه بهدوء على أمل أن يستعطف قلب معلّمه جودت الهاشمي الذي أدار هو الآخر ظهره للباب كي لا يرى دموع حسان وانكساره ليغلق حسان باب الفصل كغروب شمس في عين حمئة باحمرار ورد شاميّ حزين ▪︎

في الطريق تراود حسان أفكار كثيرة ، غير أنه تغلب على شياطين فكره بالصدق ، ذهب إلى البيت ، وكان أبوه بحوار على الهاتف مع أحد الكبار من رجالات الدولة ، لم يستخدم حسان جرس المنزل بل أخرج مفتاحه الخاص به ففتح باب الدار ودخل بهدوء ، غير أنّ أمه مرهفة الحس كانت قد أحست بولوج مفتاح الباب فنظرت ترقب من نافذة المطبخ المطل على الباب مباشرة فدهشت بعودة وحيدها منكسرا إلى البيت ، أسرعت أم حسان وضمت ولدها لصدرها وقبّلته ، قائلة : (خير ماما شو في) رفع حسان رأسه من تقبيل يد أمه قائلا: طردني الأستاذ من الدرس وأنّبني !!!؟

كانت كلماتٍ تنزل كالصاعقة على سمع أمّه ؛ فبادرته قائلة : أهي مدرسة أبيه !؟

تلقّف الأبُ الكلمات وهو يضع سماعة الهاتف بعد أن أغلق الهاتف بسبابة يده اليسرى وهو يقول : لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم ، مابك يا حسان سأل الأب ،

ردت عليه الأمّ مباشرة دون انتظار حسان ليجيب أباه لا شيئ لا شيئ ، قال حسان : ماما لا ما هكذا لقد طلب الاستاذ استدعاء ولي الأمر وهذا كتاب من الإدارة بذلك : وخرج والد حسان ليمسك بالكتاب بيده ويقرأه !

ثم نظر لحسّان مستوضحا الأمر ؟ ثمّ رفع بيده ذقن حسان قليلا إلى الأعلى وقال : أهكذا يا حسان ربيتك لتضيع الوقت خلف الأسوار، ويحصل سواك على مراتب العلم وأنت تتعلم ماذا يفعل الفجار ، أهكذا تكون الأمانة والثقة ، هداك الله  يا أمّ حسان هات مفتاح السيارة ، أمّ حسان : اذهب بسيارة العمل فالسائق بانتظارك !؟

نظر أبو حسان إلى زوجته بحزم وقد كاد أن يتملّكه الغضب !؟ متى كنت أستخدم سيارة العمل لشؤون البيت هات مفتاح سيارتي ، أسرعت أم حسان إلى الغرفة وأحضرت المفتاح وبانكسار الزوجة المذنبة قائلة : الله يخليك لا تزعل مني قلت لنفسي بطريقك للعمل تستدرك الأمر ،فتقطب جبين أبي حسان لكلامها وقال( ادخلي بيتك الله يسامحك)

اركب يابني السيارة ثم ركب الأب يقود سيارته إلى مدرسة التجهيز الأولى (مدرسة حسان) وصلا بسلام وقرع الولد جرس الباب : وفتح الآذن : ويا لهول اللقاء ،!

أسرعت أسرة المعلمين جميعا بعد أن عمّ صمت رهيب مهيب بالباحة ؛

وتهامس الطلبة ، وراح أبو حسان يكلم التلاميذ بأبويّة ما عهدوها من آبائهم إلا من رحم الله تعالى ، ثمّ توجه أبو حسان برفقة مدير المدرسة إلى مكتب الاستقبال وقد ارتسمت على وجه المدير هيبة اللقاء ودهشته وهو لا يكاد يصدق ما يرى وفجأة قال وهو يطلب من والد حسان : قائلا سيدي الرئيس : أرجوك (اقرصني) بجلالة قدرك في مكتبي أرجوك أرجوك دعني أقبلك .

أبو حسان :أنا من يقبلك أستاذنا ، ثم أردف قائلا : ما شأن حسان  ؟ أجاب المدير والله من أنبل التلاميذ ، قال والد حسان ولمَ استدعاء وليّ الأمر إذا كان حسّان كذلك ؟ قال المدير : هو دائما جودت يعمل لنا مشاكل ، نعم سيدي الرئيس هو الأستاذ جودت ، قال الرئيس الأستاذ جودت؟ قال المدير نعم الاستاذ جودت ، قال والد حسان ولكن الاستدعاء ممهور بختم الإدارة !

نعم سيدي لم أكن حينها بالمكتب (وجودت بيك) مهرها ووقعها بيده.

المدير ذهب ليستدعي جودت بنفسه ، وعاد مسرعا.

تفضل سيادة الرئيس هذا جودت بيك الهاشمي بنفسه : جودت باتزان ووقار يصافح سيادة الرئيس ويقول : الحمد لله أنّي اليوم ولأول مرة أقف أمام والد لتلميذ عندي هو (بمثابة ولدي)كولد أمام أبيه

قال أبو حسان بل نحن نقف أمامك وأمام إخلاصك وتفانيك بأداء الأمانة دون تمييز بين الناس أنا فخور بك يا أستاذ جودت

▪︎ ثمّ فصلا فيما بينهما بخصوص ما كان حسان قد اقترف من مخالفة لنظام وقانون وعرف المدرسة ثم طلب السيد الرئيس شكري بيك القوتلي(أبو حسان )

من الإدارة أن يجمعوا الطلاب بالباحة وخطب فيهم قائلا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته بسم الله الرحمن الرحيم ، أبنائي الطلبة ، العلم أمانة وبه ترقى الأمم ، والتعليم أمانة وبه نسمو فوق القمم ، والمعلم باني الأجيال وسيد من أدى الأمانة واعتصم ، واليوم أنا بينكم وأمامكم لأنحني تحيّة إجلال وإكبار واحترام للمعلمين جميعا ولكم أنتم يامن اعتصمتم بالذي علّم بالقلم ، وأزيدكم أنّ هذه المدرسة منذ الآن لم تعد مدرسة التجهيز الأولى ،

بل هي مدرسة الأستاذ جودت الهاشمي ، فنعم المدرسة ونعم المعلمون ، وأستطيع أن أرتاح الآن فأبناؤنا بأيد أمينة تخشى الله قبل أن تخشى السلطان وهكذا تحقق قول ذي الفضل : من علمني حرفا كنت له عبدا ونعم التلاميذ أنتم ونعم المعلمون معلموكم ورتبة العلم أعلى الرتب وبها تسمو الأمم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ▪︎

كانت هذه القصة قصة جودت الهاشمي مدرسة التجهيز الأولى بدمشق وكان هذا هو الرئيس حينها شكري بيك القوتلي أبو حسان رحمه الله وطيب ثراه  ، ولكل المعلمين على امتداد العالم أقول أنتم وحدكم صنّاع الحياة ووحدكم أنتم بالقمم والأمم الراقية تجعل من المعلم نبراسا تقتدي به الأجيال وتعطيه أعلى الرتب ▪︎

وسوم: العدد 927