مسكين أنا ..

( قصة رسم المستقبل )

1-     لقاء ولهفة

مسكين أنا في وحشة الدروب ، وقد تخطيت وحشة هول الحفر ، كلما انتفض القلم من بين

أصابع يدي وسرت به رعشة الإبداع ، تحركت بالجهة المعاكسة ذيول الخمول وتغلغلت

فيّ خيلاء منسابة في عروق الاستسلام والإحباط للحظة الفراق .

فراق الذاكرة لأحلام السنين والرجولة المهاجرة من غير وداع ، وداع الغصب الذي لا

يخلو جوفه المتهاوي من قسوة وشراسة الانفصال ، انفصال العقل السابح بأمجاد العطش

لقطرات عذبة غريبة ، لازالت تتلأ لأ قادمة من أفق العمر الذي لم يأتي بعد .

فكيف هي معروضات الإقناع ، بأن ما سيأتي سيكون هو ذات الحلم الذي سطّره يوماً ما !

ثغر هذا القلم في ساعة ولادة الطموح ، يوم ان استيقظت في أصيل ذلك اليوم ، تذكرت

أحرف تباشير البدايات ، وقد وقفت مندهشا حائراً خائفاً أمام فضاء السبّورة السوداء

وحجمها المترامي ، والتي لم تستطيع كلتا عيناي أن تلما بكل أبعاده ، لم أكن أتوقع أنها

كبيرة بهذا القدر ، كنت أنتظر رؤيتها بشوق بالغ ولهفة زائدة ، لكثرة الحكايا ت والقصص

التي كنت أسمع أخي الكبير يتحدث عنها دائماً ، لكن دقيقة لقائي بها ورؤيتي لها بوجهها

الطبيعي الواقعي ، محى وبقوة كل ما اختزنته مخيلتي عنها ، وكانت الساعة الأولى

لمواجهتي ولقائي لها وفي ذلك اليوم الأول من أول سنة ، أعترف أنها قد غيرت ما

كنت فد هيأت وأعددت نفسي لمواجهتا وبدء التعامل معها .

2 - لقاء الغرباء

مسكين أنا عندما كنت أسمع وأختزن في ذاكرتي ، معالم عالم المهد ولم احسب أن

للاختزان له صنو يصاحبه ويرافقه ولا يفارفه ، مثله كمثل الظل بل أشد التصاقاً في

معنى الصحبة ، لا يعرف احدهما عن صاحبه أي تفاصيل تلهبه وقت اشتداد خلجات

الامتحان ، أي امتحان ! ،

وويل لمن لا يعرف عن الامتحان ، وهول تداعياته على كل ما تحتويه الذاكرة من مخزون

، المخزون بمثليه المراد بعملية التخزين والمراد بمعنى الظل أو الصاحب . إنه هو هذا

الحشد وهذا الجمع الذي يتدافع ويتزاحم في هذا المكان، وهم الآن ورائي لا ينفكون

يتصارخون ، لم أرغب في أن أنظر إليهم ، إنهم مثلي فقد كنت أرى فيهم نفسي ،وكنت

مشمئزاً مما أراه فيهم فتذكرته، حيث قالت لي أمي بالأمس وهي تعضني : إياك والصراخ

، لقد ولدتك وانت تصرخ ..!

نهرني المعلم لأني كنت انظر إلى السبورة أمامي وأطلت النظر فيها ، سرحت كل هذا السرح ،كان همي ثقيلاً ، وأحسبه ثقيلاً في تفكيري الفطري بتساؤلي:

  • كيف أملأ كل هذا الفضاء بالكتابة !؟ ثم أنني لا أعرف الكتابة ؟.

أنقذني المعلم مما كنت غارقاً به ، وكانت تلك المرة الأولى والوحيدة طيلة أيام وسنين

الكتابة الطويلة .

قال لي : أنظر إلينا ( وهو يشير إلى صدره) وليس للسبورة وقل اسمك فقط: ما اسمك ؟ .

قلت له ودبيب الرعاش لازال يتلاعب بأرجلي :

- أستطيع أن أكتب اسمي ، علمني أخي الكبير كتابة اسمي .!

كان كل أملي أن أعبر عن مخزون ذاكرتي الصغيرة بكتابة اسمي ، وأبيّن للمعلم والصراخ

يزيد من ورائي ،ولهذه السبورة الخالية المتبجحة بكبرها ، أني أستطيع أن أحدث في

فراغها بقعة مضيئة ولو كانت خافتة ، هي كلمة مؤلفة من حروف اسمي :

- أريد أن أكتب قبل أن أنطق أو أتكلم !

- لا...لا أريد أن تكتب ...قل فقط : ما اسمك ؟

3-     انشقاق الظل .. !

عدت إلى البيت , وأخذت أكتب اسمي على كل دفتر وكتاب ، وأخذت الأيام تهرب ،

وأكتب اليوم أشرق الصباح وتهيّأ جنود المستقبل الوردي ، وهم يتصارخون بألحان

اصواتهم الندية كزقزقة عصافير الصباح ، يخطّون أوّل الدروس بتاريخ يظلّ غريباً

مجهولاً ، لا تتحمله ذاكرة الشغف بمحو كل ما هو أمس ، يرمي عن كاهل طفل يكتب بأيد

مرتعشة مترددة منزوعة التهيؤ لتلقي شروط الضيف الغريب ، اليوم الأول من العام

الجديد ، اليوم أنا هنا في الصف الثاني ، وكنت بالأمس في الأول ، وغداً لا أعلم إن كان

سيولد تاريخ أم لا ، فأنا مسكين مصاب بشغف المحو، ولم لا فكاهلي غداً عجوز ولو أني

لازلت أجد فيّ طفلاً ، يتمثل لي دائما بتعابيري وتصرفاتي ،وهذا الدّاء الذي أسمّيه محو

الذاكرة ...!

4 -  توحد مجهول ..!

مسكين أنا ، أرسم تفاحة ذات لون أحمر، ولا أعرف إن كان لها لون ثان أم لا ، أرسم

شجرة ، أرسم بيتاً ....!!!وكذا الريشة تساعدني بعجلة من أمري ، والقلم البدائي الخجول

يردفها بخطوطه الأميّة على استحياء ، وينتهي الوقت المحدد لأنال الشكر والثناء من

معلمي .

معلمي هو الآخر يرقبني على تردده المضطرب بانتظار موعد خلخلة آلة إعلان انتهاء

الزمن ، الزمن الجاثم على أكوام كل المحتويات ، محتويات الفراغات والهياكل بكل

أسمائها وأشكالها وألوانها . معلمي لا أحسبه إلاّ رسولا ، والرسول سمعت به قبل أن أرى

معلمي ، وقيل لي أن الرسول جاء ليرسم المستقبل ، ومعلمي غاب هناك وأصبحت بعيداً

عنه ، ولم يعلمني كيف أرسم من سيودعني ومن يستقبلني .!!

5-     تيه الشغف ..!

مسكين أنا ، مطارد بالشغفين منذ أن وقفت في تلك اللحظات أمام السبورة ، أصارع فيها

الفراغ والفضاء :

-شغف رسم كل من لا يعرف الكلام بكل ألوانه وأشكاله ، وشغف محو كل ما ارسمه

وما أكتبه .

اليوم أشرق يوم جديد ، أمسكت بالورقة والقلم .......!

اختلطت صورتان في مخيلتي وحيدتان يتيمتان ، هما كل ما بقي من إرث لازال مسجل

بإسمي أنا الكهل الطفل ، صورة للسبورة السوداء الخالية المقفرة من أي خربشة ، وقد

تغير لونها الآن إلى الأخضر ، وصورة الورقة البيضاء بين يدي خالية من أي حرف .

شغف المحو قال لي : أيها الأبله المسكين لقد أصبحت ديار السنين خَالية ؟

وشغف الإبداع ..؟

قال لي : أيها الأبله المسكين لقد أصبحت كل فضاءات أوراقك خالية؟

سألتهما على سبيل إعلامهما بالذي أخفيه منذ تلك الدقيقة في اليوم الأول في السنة

الأولى : هناك شغف ثالث صنو لكما فهل عرفتماه ؟ وإذا كان ذلك فهل عرفتما

ما فعل الآن : لقد محى أولئك الذين كانوا معي ..! لقد محى مدينتي ..! لقد محى بلدي

برمته .. !

أخذت فيّ صحبة التأسّي تستيقظ للحظات ، داعبتني وقالت لها نفسي :

وهل دمعة حارة شاردة تخرج من خدرها السّكين حسرة ، كافية لأن أكون اليوم أنا

مسكين ؟

تداعى إلى مسا معي صوت معلّمي في الصف الأول في اليوم الأول، ولم استدرك نبرات

صوته ، لقد كنت أقوم بمحوه وبسرعة يوماً بعد يوم كلما وردت صوره على مخيلتي ، كان

يقول دائما : بهذه العصاة يبني الواحد منكم مستقبله ..! كنت أنظر إليه وهو يكثر من

حركاته ،تخيلته يوما أنه هو المستقبل الذي كان يهددنا به ، فكيف به يضرب المثل بنفسه !

هل كان يضرب نفسه بعصاته القاسية تلك ... ؟

تداعى إلى مسامعي صوت غريب قادم من وراء ثنايا الذاكرة ، يقول :

6- أرسم المستقبل ... !

كيف أرسم المستقبل ؟ كيف ؟ لا أعرف شكله ولا لونه ولا حتى ملامحه ...!

آه أيها المعلم أين عصاة الضرب تلك ،اريد أن أدخل معها في جدال ،هي من كانت

وراء انشقاق صحبة الذاكرة ، أرسلها لي أو عد وقل لي : هل أنا الآن في المستقبل حتى

أرسمه ؟ أم لازلت في الماضي وقد ذهبت كل أشياؤه وغابت عني مسرعة ؟ .

كنت دائماً أيها المعلم تسألنا عمّا حشونا في ذاكرتنا الصغيرة الضّيّقة ، والآن عد لأسألك :

من هؤلاء الذين أراهم الآن ؟ يحمل كل واحد منهم عصاة غريبة عجيبة ،يصرخ ويهدد بها

مردداً كلامك القديم ذاته : بهذه تبنون مستقبلكم !!.

وأي مستقبل ، وعصيهم الحديثة العجيبة بدل أن تضرب واحدا أراها تقتل عشرة ، وبدل أن

تبني بيتاً أراها تدمّر مدينة ..!

كانت عصاتك أيها المعلم قطعة من خشب ، أمّا هذه عصاة عجيبة فهي متوحشة متفجرة ..!

أيها المعلم ، إن كنت هذا أو ذاك ، عد وعلمني كيف أرسم المستقبل ..!!

مسكين أنا ..وحيد...ليس معي معلم ولا سبّورة ولا ذاك الجمع وصرخاته ...!

ليس معي الآن غير زيف الكتابة ..!!!

وسوم: العدد 943