إضراب

عصام الدين محمد أحمد

لم تصرف المؤسسة لى سوى ثلثمائة جنيه،تكاثرت زياراتى،لم يعرنى اهتماما أى مسئول،وأضحى قرار المحكمة حبرا على ورق،مما دعى أم كريم أن تسعى لمقابلتى،على أمل الأتفاق على تحديد موعد للذهاب إلى الرئيس؛ربما يعطف علينا بالعفو،أصرخ فى وجهها:

- لن أستعطف أحدا.

- فلنجرب فليس هناك ما نخسره..

أشرفت مؤشرات الوقت على الثانية ظهرا،ننتظر فى السكرتارية،لا يسمحون لنا بالدخول؛بحجة أنشغال سيادة الوزير،يستدرجنى (زيادة) للحديث والفضفضة،يستدعى من كتب السير والتراجم البطولات،يسألنى:

- ألم تتظلم من القرار؟

- ما جدوى التظلم؟

- ربما يصيبك العفو!

يطلبون منا الأتتظار بغرفة بعيدة ،نجر أذيال الخيبة،ننتظر السماح بالدخول،تتزايدالأعداد؛ما بين مجامل،متفرج،شامت، الأفواه فى ذات اللحظات تتحدث دفعة واحدة،فتتوه المعانى،يضحى النقاش نقاشات،أُستدعى أعضاء النقابة للمثول أمام الرئيس،غابوا طويلا،لا أحد يعلم –يقينا-ما دار خلف الباب المبطن بالجلد السميك،لم يستقر المجلس أثر خروجهم،أخذوا يتلاومون،يقول طارق:

- استدعانى لتهدئة الموظفين،أمرنى بمشاركتهم التظاهر.

يستطرد محمدعيد:

- سألنى عن المبررارت،فقلت له:أنا عضو نقابى والإدارة تأخرت فى التفاعل مع المطالب.

يقاضعهم خضر العضو المخضرم:

- ما كان على الموظفين التمادى ولكن ربنا يستر.

تجافينى الكلمات المناسبة للرد عليهم،مسرحية محبوكة الصياغة والاخراج،ومن أبرز فصولها أشاعة مثل هذه التبريرات الممجوجة،وهذا ما قيل أمامنا،فماذا قيل فى الداخل؟    تشتعل النيران فى عامر،ينتفض وكأنه على جمر،ينطق:

- ليس من حقهم إيقافى عن العمل.

أرد متأنيا لأغيظه:

- بل أنت القائد ومفجر الديناميت.

تتدخل أم كريم:

- ضعنا يا أولاد.

أعقب بصورة آلية:

- لكل شيئ ثمن.

تصرخ:

- لم يبق إلا سنة وأخرج على المعاش.

يتجمع الحراس تحسبا لأى تصرف،يطلب السكرتير أختيار مندوب،يدفعوننى للدخول،الغرفة تنم عن الفخامة والرفاهية،يجلس خلف مكتب عتيق،أكوام الدوسيهات تصنع من مشاهدته معاناة،يقول:

- ماذا تريدون؟

- معظم الاسماء الواردة بالقرار لم ترتكب شيئا.

- كل المتهمين يدعون البراءة.

- وما أكثر أحكام الأدانة المبنية على الأعتراف.

- أتترقبون العفو عن الجريمة غير المسبوقة؟

- فقدان راتب ثلاث شهور لن يهدم بيوتنا،العقوبة حققت الغاية منها؛شعر الموظفون بجسامة رد فعل الإدارة.

- ومن قال بإن المؤسسة ستكتفى بالإيقاف؟

انتظرت حتى هدأ،أشار لى بالمغادرة،جميعهم يترقبون أعادة بكرة الاستجواب ثانية،لم أنبس بكلمة،تعالت الاتهامات،فأصررت أن أقول:

- لا فائدة من المساعى.

يلتقط عامر الخيط فيخطب:

- فى ناديهم يكيلون لنا الشتائم،لا بد من مواجهة هذا الصلف و............

أتوه فى يم التذكر:

(أعتاد السهر فى هذا الملهى،يتجاذب الهمس مع مالكته،رشفة من هنا وأخرى من هناك،انعقدت علاقة المتعة والمصلحة،تبدل الملهى ساحة لقنص الفرائس؛أمير عربى،عمدة جيزاوى،وفى ليلة غمسها التوتر فى نهره،تراءت المرأة المكتنزة لحما بحر متعة لفحل تلاعب به الكحول،مد يده إلى كهف ما بين الوركين،أوجعتها القبضة،فتأذت،لم تعتاد الرفض،ولكنها هذه المرة تألمت كما لم تتألم من قبل،فعكفت على خدمته واعدة إياه بليلة حمراء،تُنتهك فيها كل الأستار،أحضرت له من الكؤوس ما يسكر العشرات،الليل يمضى بالإدراك إلى عالم التيه والتخبط،تتراقص الأضواء،تدور الأرض،تكشف بعض كهفها،فيهجم عليها،أنغرست سكينا فى أحشائه،أفترشت الأرض دمائه المخمورة،حضرت الشرطة،أرسلت عامر وصاحبة الملهى إلى النيابة،يكتب الطبيب الشرعى تقريره،يصدر القاضى حكما ببراءة المرأة وسجن عامر خمس سنوات،تصدر المؤسسة قرارا بفصله،يقضى العقوبة،يرفع دعوى قضائية لعودته إلى العمل،تصدر المحكمة حكما برجوعه،شئون العاملين تماطل التنفيذ،تأتى الأوراق مكتبى،أنسخ قرارا بتنفيذ الحكم،هذا ما كان بينى وبينه منذ ما يربو عن عشر سنوات،شكله غير مريح تماما،بشرته سمراء،لحيم البدن،يندفع فى الكلام وكأنه محامى الضعفاء،عبارة من الشرق ،وأخرى من الغرب.)

عموما لم أتعاطف معه؛ليقينى التام بإنه سيفلت من الأزمة وجيوبه منتفخة بالمال،تعددت القرارات بشأنه،خصومات مالية ضخمة مقابل ماكينة التصوير؛التى يديرها لحسابه الخاص،ولكنه سيطرق كل الأبواب ليسترد ما خصم منه.

كبيرالنقابة عميل لرئيس المؤسسة،أدعى البطولة،وقف أمام الكاميرات،قال:

- للموظفين حقوقا يجب إيفاءها.

وأضاف وكأنه الحكيم:

- لم نتساوى بالسادة،نطالب بالحصول على جنيه مقابل كل عشرة جنيهات يحصلون عليها.

لم يخدعنا الرجل،تقدم الصفوف،نادى بالمطالب،لم نكن ندرى أنه تمثيل فى تمثيل،شغل ارجوازات يا باشا،ثم لم يثبت على موقفه إلا عيد،قال أنه شارك كمتفرج،بصراحة أعجبنى موقفه ،ولكن لهذا البطل المغوار آيات ساطعة فى كتاب الفساد:

(حظى بثقة مدير شئون العاملين،وتولى شأن قرارات التعيين الجديدة بالمؤسسة،مهامه تتلخص فى تجميع الطلبات وتنظيم الأوراق وإعداد مسودة القرار ،ولكنه تمكن بدهاء شيطانى من تعيين العشرات من أقاربه،بل بعضهم يتولى عملين حكوميين فى وقت واحد ؛يقول بمنتهى راحة البال:

- لماذا الأبواب مفتوحة على مصراعيها أمامهم،وموصدة بالضبة والمفتاح أمامنا؟)

بينما عبد الكريم ؛زعيم النقابة الأعوام المنصرمة ،فقد تعلم من درس السنة الماضية،تعمد الأنقطاع عن المؤسسة طوال أيام الأزمة،أنشغل منذ العام الماضى فى البحث عن موطأ قدم فى عالم الشهرة:

(هذا الرجل غامض التكوين،ألتحق بشئون العاملين،رص أكثر من خمسين كتابا على مكتبه،قلبت هذه الكتب،وجدتها أشبه ما تكون بالنشرات العامة،أمتنعت عن الحديث معه؛ عبد الكريم لم ينسلخ من جلده ويدعى البطولة فى زمن الجبناء.)

ناوشتنى مثل هذه الذكريات،فقدت الأحساس بالمكان،رجعت من سفرى على وقع صدام حاد بينهم،تصر أم كريم على توكيل عامر للحديث إلى الإدارة ثانية،مما دعانى للتصريح:

- أنسحب من هذه الجلسة ولن أوكل عامر.

أستطرد:

- خلاص يا صفوت لا توكل أحدا،ولكن لا تتركنا هكذا حيارى.

- يا ست الستات ليس بيدى شيئ،والإدارة لن تقدم تنازلا،والموظفون قبضوا مكافأة الصمت،وما يحدث الآن زوبعة فى فنجان.

يتلقفنى عامر:

- لا بد من إيجاد حل.

يلضم عمارة فى عقد الكلام:

- قلت فيهم شعرا،نثرت أسفل أقدامهم قصيدة نفاق عظيمة،لماذا مسحوا كل هذه المآثر،وألقفونى لمقصلة الإيقاف؟

أمازحه:

- لماذا لا تكتب (تترا) لحكايتنا؟

- لم أكتشف المذهب بعد.

- ستحقق ربحا لو كتبتنا مسرحا.

تتهادى إلى الصور: ،

(انتدب من الأهرام  للمجمعات الاستهلاكية إلى المؤسسة،فالواسطة كبيرة جدا،لم يستغرق ندبه شهرا ونقل،أساسى مرتبه السابق عالى جدا،فأصبح راتبه بعد النقل يتجاوز مبلغ الستة آلاف جنيه،وبات مضرب مثل؛فلأول مرة يتقاضى موظف فى أدنى درجات التعيين هذا المبلغ الضخم،يكتب تترات لبعض المسلسلات،ويقوم بتمثيل البعض الأخر،يعشق الرومانسية،ولكننى أعتقد أن رومانسيته تصب فى خداع النساء،أعتلى الدور الثانى متنقلا مع الكاميرات،يمتدح المسئولين ويسرد المطالب،متوهما أن السادة سيغفرون له ،وأنه سيتحقق له الرضا التام ،فها هو الشاعر يمتدح سيرتهم العبقة ،جلسنا سويا فوق المقهى،بعد خروجنا من تحقيقات النيابة الإدارية،خطب لوكيلة النيابة خطبة عصماء عن الوجدانيات،وتحدث عن نفسه بغزارة،ألقى العديد من القصائد،عن الحب والهجر ولقاء الحبيب،عباراته معسولة،ولكنه أكول،أبتلع أكثر من عشرة سندوتشات كبده وسجق،تجرع ثلاث زجاجات مياه غازية،أقول:

- الوجدان المرهف يتناقض مع البطن المتخمة بالطعام.

- أصحاب العواطف الرقيقة معظمهم أصحاب أجساد ضخمة.

- مجرد مزحة يا شاعر.

بصراحة أشفقت عليه من مصاريف الطعام،طالت الجلسة ،تتعاقب القصائد،يرفع حاجبيه،فتكسو هيئته فظاظة وقساوة،أخاف النظر،أنشغل فى شرب الشاى،لم أجهز- بعد-للأختبار،لا تحضرنى بحور الشعر وقوافيه،لا أملك إلا الأستماع فقط،فلأتلذذ بالرشفات.)

هرج ومرج فى الطرقة المفضية إلى الرئيس،أنهض خارجا،أكثر من مائة مستشار يحوطون زميل لهم تصدرت صوره مواقع التواصل الاجتماعى،بطل مسلسل الشتائم،مع أقل استثارة سيصوبون مسدساتهم إلى صدورنا،لن يستثنوا أحدا،أقتحموا باب الرئيس،مكوثهم بالداخل لم يستغرق ربع ساعة،خرجوا رافعين البطل فوق أكتافهم،أحاط بغرفتنا الأمن وكأننا جرذان فى مصيدة محترف،لم أستوعب المشهد:

- ماذا يعنى هذا المنظر؟   

- أهو تظاهرة؟    ضد من؟    ما هى مطالبهم؟   

لا يستدعى الأمر الأنتظار أكثر من ذلك،ألفظ الجميع،أنهطل نازلا،أركب الرصيف المتجه إلى الصعيد،وكأننى أبحث عن النجاة،يستعصى على الفهم،تداخلت الأوراق،تباينت أحداث الرواية،ساخت الأقلام فى الزمن،يعبرنى النيل،تشتد حرارة الجو،يتصبب العرق:

- ما الذى حدا بك للأحتشاد معهم؟   

- ما الذى دفعك للأنحراف بفكرك عن يقينك؟   

- لماذا تجرجرك أم كريم كيفما تشاء؟   

- أى نعم تجدها أمامك فى كل كارثة؛ولكنها ستنجو كالعادة،سيراعون سنها،أيضا تتمتع بقدرة على التغلغل فى النفوس:

يسبقها صراخها،تحضرها الزغاريد،أعتى المسئولين لم يؤذها،ما عدا هذا القرار،عينت من البنات اثنتين،أتبعتهم بكريم،يعنى هى صاحبة أرث،فماذا يعنى لها الإيقاف غير حرمانها المصروف الشخصى،الدور الذى تمر به،يعرف جميع موظفيه أن أم كريم موجودة،منذ عشر سنوات أصدر يحى بيه قرارا بإلغاء أذون الأنصراف المبكر للسيدات،لم ينفذ القرار إلا يوما واحدا،قادت النساء لأقتحام غرفة الوكيل،الرجل لا يعشق وجع الدماغ فصرف النساء ممزقا القرار،منذ هذا التاريخ ونصبتها النساء عرش الزعامة،أستهوتها اللعبة،تمادت أكثر،عينت البنات والأولاد،تجنب السادة الصدام معها،أضافت البهارات على أحاديثها،مفرداتها تحوى الإيحاءات الجنسية؛فلا تملك إلا الأنصات لها،تصر على التظلم،تطرق الأبواب والأمر يستحق،تقول لى:

- أرسلوا لى استدعاء للنيابة العامة على عنوانى.

- كلمتان فقط ويخلى سبيلك.

- لا يا نور عينى؛سؤال وجواب لمدة ساعتين،وفى النهاية قيدونى بالأصفاد مكثت بقسم الدقى أكثر من خمس ساعات قبل خروجى،ولولا تدخل بعض المسئولين أحبابى لصُيغت واقعتى بالسواد.

- تجارب الحياة تجعلك تتحملين أكثر من ذلك.

- الواحد منهم يتقاضى مئات الألوف،ويستخسر فينا مئات الجنيهات.

- ليست كل الرؤوس سواء.

- أدفع راتبى كاملا فى الجمعيات؛تحتاج البنات إلى تجهيزات الزواج،وأنا عائلتهم.

- ربنا يعينك،الأمور تسير.

- روحت البيت أمبارح،الثلاجة فاضية،الجوع أصابنى بالهزال،ليست بى رغبة لصناعة أو شراء طعام،يدق الجرس،أفتح الباب،تدخل الست روحية وبيدها حلة،أقول لها:

- الشقة نظيفة؛فلا عمل لك اليوم.

- ومن قال لك أننى آتية لمسح الشقة!

لم تمهلنى الوقت،دخلت المطبخ،عشر دقائق وتفرش أمامى صينية مليئة بالمحشى واللحم،أكلت يا حبة عينى ألذ طعام فى حياتى،كلها دقائق وتأتى زوجة البواب بزجاجة مياه غازية كبيرة،لترين يا باشا،وما تشوف عيناك إلا النور،صحيح الأمور تعدى ولكن...

- الصبر مفتاح الفرج.

هذا آخر ما نصحت به.

...

أتعبنى المشى،أسترح فوق أحد مقاعد الخشب المنتشرة،جاورت قعدتى رجل أربعينى أسمر الوجه،تغطيه لحية كثة متسخة وغير مهذبة،تلبد رأسه فى طاقية من الصوف الخشن،عيناه سودوان مفنجلتان وكأنهما تبحثان عن نجوم وارتها الشمس المحرقة،يبادرنى:

- افسح ولا تقترب أكثر.

- يا عم أنا على طرف الدكة.

- جميعهم يقولون كما تقول.

- لم يسبق لى التعرف عليك.

- لماذا لا يتقن البشر إلا الغباء؟

- وسيادتك من أى كوكب؟

- كوكب التيه،أسمعت عنه قبلا؟

- بصراحة لأول مرة أسمع عنه.

- ألم تزر مجرة العسس؟

- لم أغادر كوكب الأرض.

- كذاب أيضا.

- يا باشا بالراحة على عقلى.

- ألم تجد عمليات الجمع والضرب؟

- بل حياتى مؤطرة بعمليات الطرح والقسمة.

- تنقصك المذاكرة يا مسكين.

- من أنت؟

- مجنون آبق من العباسية.

- المجنون لا يعترف بجنونه.

- هذا ما تقوله كتبكم التافهة.

- أتملك كتبا غير التى نملك؟

- كتابى صفحاته بيضاء.

- اتحفنى بالمزيد.

- فى نقاطه النجاة.

- لا شيئ فيه سوى السراب.

- أنتم من تصنعون السراب.

- أيها العالم الروحانى اتعبتنى.

قتم سواد وجهه،أنتفض صائحا:

- ما فى التيه سوى التيه.

اكتنفنى الحزن لمغادرته المكان،فر متشبثا بأذيال الزمان،يسوح فى تخوم الوعى واللاوعى،وأنت مازلت قاعدا،أصابك المشى بالهزال،سقمت روحك ما بين فهم وفهم،أليس للشيئ الواحد أوجه عديدة؟   هاأنت تعانى التصحر،تكسح الرمال البذور،تذروها الرياح،الأمطار لم تعهد طريقها إلى السماء بعد،فأين النماء؟    ثقل اليوم بأحداثه وذكرياته،أنفتح الصندوق الأسود فاضحا الأسرار،الغلبة للمصالح،أم كريم الوجه الآخر لعامر،والنقابة خصصتها النفوس،تاجرت بالأمال والألام،والشباب أفرزته معامل التوريث،وأنت مازلت تتغابى،تدعى فك شفرات الخطوط لن ينوبك من التجريب سوى القيح.

تمت بحمد الله

وسوم: العدد 771