خالق العود والرب المعبود

م. محمد حسن فقيه

[email protected]

اتسع المجلس واحتدم النقاش وتداخلت الأصوات وتشابكت وارتفعت وتيرتها  ، والطفل الصغير سعد يطوف على الضيوف  بالقهوة المرة  في مضافة خاله الزعيم ، ومع اشتداد الحماس وتفاعل الزعيم مع الموضوع وهو يفند آراءه ، نسي الزعيم آلام بطنه التي تعتصره  وأمعاءه التي تتلوى وتقرقر في جوفه ، فانفلت الريح من إسته منسلا بلا استئذان ، وانطلق الصوت مرتفعا يعلو على صوته المجلجل وحماس الرجال ويضفي على المجلس حالة من الدهشة والغرابة ، ثم انفجرت الضحكات من الرجال يقهقهون ملء أشداقهم وجميع الأنظار مصوبة جهة الصوت نحو الزعيم ، وكاد أن يسقط في يد الزعيم وسط رجاله  ويحار في أمره ويفتضح بينهم .

 لكن سرعة بديهته وشدة نباهته قد أسعفتاه في هذا الموقف المحرج ، فقد بدا رابط الجأش بل استمر في تمثيل مهمة القائد الذي يبحث عن صاحب هذا الصوت الدخيل الذي اقتحم المجلس بلا دعوة ولا استئذان ، وقد رسم على وجهه الامتعاض والإستنكار حين التفت على يمينه بحركة تمثيلية رائعة كالمستغرب والمندهش  مما حدث وكأنه يبحث عن صاحب الصوت السفلي النشاز ، وما إن وقعت عينه على الصغير سعد حتى صرخ به بصوت جهوري مقرّعا ومؤنبا : أما تخجل من نفسك وتستحي من عمل هذا الفعل الشنيع وتخرج ذلك الصوت القبيح في المضافة بين  الوجهاء ... ؟ ! .

هبّ الصغير سعد منتصبا على قدميه وهو ينظر بدهشة وغرابة وقد شعر بالحرج الشديد بعد أن اصطبغ وجهه البريء بالحمرة خجلا،  وجحظت عيناه جامدتين في محجريهما وهو يقف  فاغرا فاه  مشدوها كالمذهول مما يسمع ، وبدا عليه الحيرة والاضطراب وعقدت الدهشة لسانه ، وخوفا من  أن يتمالك الطفل نفسه ويتحرر لسانه  وينطلق من عقاله فيتفوه بكلمة تقلب الطاولة على خاله ، أسرع الزعيم مواصلا هجومه بنبرة أعلى وصوت أكثر حدة  ليجهز على قريبه وحبيب قلبه سعد الصغير قائلا : أما زلت أيها الشقي تجلس بين الرجال ! .

أسقط في يد الصغير و" ضبعته " كلمات خاله الحادة وصوته المدوي ، فانطلق يجري مسرعا إلى الخارج حافي القدمين لا يلتفت خلفه ودون أن بنبث ببنت شفة .

وتلبست القضية هذا الطفل الصغير ، ولم يتبادر أدنى شك بعد ذلك من الحضور بأن صاحب هذا الصوت النشاز ما هو إلا سعد الصغير ، وهو أمر عادي بالنسبة لطفل صغير ولا يشينه في شيء .

 وبعد أن انتهى الزعيم من محاضرته وتعليماته ،  وانفض المجلس وخرج الرجال واحدا تلو الأخر ، كان الزعيم آخر الخارجين ، وما إن وجد نفسه خارج الباب وهو يهم بالتوجه نحو المنزل ، فإذ بسعد الصغير يجري نحوه مسرعا حافي القدمين وهو يحمل عودا بيده فاقترب من خاله بجرأة غريبة وقد احتقن وجهه  وتوردت وجنتاه وبدون مقدمات انطلق صوته  كالرعد منغعلا ومتأثرا وهو يدنو من خاله ويرفع العود الصغير أمام وجهه : خالي ... خالي ... إحلف بخالق هذا العود والرب المعبود  أن ذلك الصوت كان مني ! .

ابتسم الخال في وجه الصغير ومد يده يمسح على رأسه بلطف وهو يخاطبه بصوت هادئ حنون  ومع أنه يعرف الإجابة  بل الحقيقة قبل أن يسأله :

-  ألم تفعل ذلك  يا سعد ؟ !

- لا ... لا يا خالي  والله لست أنا ... أقسم ....

وقبل أن يقسم سعد ربت خاله على كتفه إني أصدقك يا سعد دون أن تحلف ، لا شك أن أحدا ما قد فعل ذلك غيرك ،  فلا تحزن يا سعد  ...  هيا يا سعد ابتسم .... أنت تعرف مدى مكانتك عندي ومحبتي لك .

هدأ الطفل وانبسطت أساريره وأسقط العود الصغير من يده واتجه إلى خاله مخاطبا : هل هذا يعني بأنك قد صدقتني تماما بأني لست الفاعل ؟ .

بالطبع يا سعد ، لقد صدقتك ودون أن تقسم لي  وحتى تتأكد من تصديقي لك سأمنحك هذا الدينار  ، ثم دسّ الزعيم يده في جيبه وأخرج دينارا وضعه في كف سعد ثم طبع قبلة على خده يمسح بها أثار دموعه التي جفت وقد تركت آثارها تخط على خديه ، ويجلو الحزن عن قلبه المنكسر وهو يبتسم في وجهه مداعبا : هيا ياسعد إذهب والبس حذاءك واشتر بالدينار بعض الحلويات ، ولكني أعدك بأني سوف أعرف قريبا ذاك المفتري الذي فعلها ! .

ثم مضى الزعيم مسرعا ليخلو بنفسه قليلا ، بعد أن عاوده المغص واشتدت عليه ألام بطنه وكاد أن يفعلها مرة أخرى ويفتضح أمره أمام سعد الصغير، لولا أنه ضبط إسته في اللحظة الأخيرة ، قبل أن يسحب يده من يد سعد الصغير ويدفعه من بين كتفيه ليمضي عنه بعيدا ويشتري حلوياته المفضلة بالدينار.