أحلام مسافرة

خديجة وليد قاسم

( إكليل الغار )

ماما .. عندما أكبر ، سأصبح أنا بابا و أنت ابنتي .. هل توافقين ؟

رفعت عينيها عن الكتاب الذي تقرأه  مبتسمة و قالت  : موافقة يا حبيبي  و لكن قل لي ماذا ستفعل لي عندما أصبح ابنتك و تكون أنت أبي ؟

أسعدته موافقة أمه  فترك اللعبة التي كانت بين  يديه و اعتدل في جلسته كأنه قد بدأ يستعد بجدية لهذا اليوم الموعود وقال:

أول شيء .. سأختار لك اسما جميلا مثلك ..

ضحكت من داخلها بعمق ، و لكنها تظاهرت  بالغضب  قائلة : أوَلا يعجبك اسمي يا سنان ؟

و كأنه خشي أن تتراجع عن موافقتها .. بسرعة رد عليها مع قبلة على خدها : كلا يا أمي .. اسمك جميل و أنا أحبه ، لكن عندما أصبح ( بابا ) يجب أن أختار لك اسمك .. أليس الوالدان هما من يسميان ابنهما ؟؟

هكذا إذن ؟؟ حسنا يا بني .. ليكن  ذلك ، ولكن أخبرني  ما هو الاسم الذي ستختاره لي ؟

وكأنه كان ينتظر هذا السؤال حيث بادرها مسرعا :

أمل .. سأسميك أمل يا ماما .. أنت تناديني بابا و أنا أناديك أمل

لم تستغرب الأم اختياره هذا .. فأمل هو اسم معلمته في الروضة وا لتي يحبها كثيرا لما تتمتع به من نفس طويل في التعامل مع الأطفال ، و كأن كل طفل لديها في الصف ، هو ابنها بل و أكثر .. 

هكذا هم الأطفال يأسرهم من يعاملهم معاملة حسنة ، تفرحهم الكلمة البسيطة ، تستهويهم الهدية النابعة من القلب بغض النظر عن قيمتها المادية .. ما أطهر قلوبهم و ما أجمل صفاتهم ...

حسنا موافقة يا سنان .. أعجبني الاسم .. طيب وماذا أيضا ستفعل لي

صمتَ قليلا و كأن الكلام الذي  سيقوله ينشله  من بئر عميق مكتنز بالألم  الخفي  :

سأفعل لك مثل ما يفعل والد صديقي رأفت  له  .. ثم لم  يستطع كبح جماح سؤال  تردد بقوة  في داخله:

أمي ، لو كان أبي حيا ، سيكون  طيبا و حنونا  مثل والد صديقي رأفت أليس كذلك ؟

حاولت جاهدة أن تخفي دمعتها الحارة عنه .. لم يعلم صغيرها أنه  بسؤاله هذا أثار مكامن الشجن في نفسها و أجج نيرانا كلما حاولت إخمادها اشتعلت من جديد ..أعادها إلى ذكريات  رائعة  عاشتها بأجمل أحاسيس و مشاعر .. هناك إلى جوار شجرة الياسمين .. حيث كانت و والد سنان  يتحدثان بحماسة عن الضيف القادم .. و أي ضيف ؟ هو  خلاصة  حب  جمع أطهر قلبين و أصدقهما .. كانا يخططان لأسلوب تربيته  الذي  سيتبعانه .. لاسمه الذي  تنازعا حوله كل يريد اسما مختلفا عن الآخر  ..  للمدرسة التي سيختارانها له ، للقرآن الذي  يتمنيان أن يتمه حفظا و فهما .. حتى دراسته الجامعية و زواجه تطرقا إليها و هو لا يزال  جنينا يحتمي في  حضن  دافئ رؤوم .. لم يتمالكا بعد ذلك أن غرقا  في ضحك عميق  تبعه لحظات صامتة .. و كأنهما تركا المجال لروحيهما كي تتناجيا في عالمها الخاص ..و هذا دأبهما كلما جلسا مثل  هذه الجلسات التي ترطب حياتهما بأجمل  ندى و أطيب عبير ...

لم يكتب الله له أن يرى أحلامه تتحقق في ابنه .. بعد أن امتدت يد الغدر إليه و هو عائد من عمله  حاملا معه  الحلوى والهدايا احتفاء بإتمام سنان عامه الأول .. كانت يد قناصة يهودي حاقد .. يدا مجرمة لا يستطيب لها العيش إلا بكثير الشر الذي يحركها  و يدفعها لأذى الغير .. اختلطت دماؤه مع  ما كان يحمله بفرح  ليقدمه لمهجة فؤاده

أمي لماذا لم تجيبي عن سؤالي .. ألم تسمعيني ؟

بلى بلى يا نور قلبي .. سمعتك .. أجل يا سنان معك حق ، والدك رحمه الله  كان  طيبا و حنونا جدا   .

حسنا إذن .. سآخذك كل يوم جمعة إلى الحديقة ،  لن أدعك تلعبين وحدك ،سألعب معك .. أركب أنا أرجوحة و أنت أرجوحة و نطلق ضحكاتنا عالية في الهواء .. و سأشتري لك الحلوى اللذيذة ..و في العيد سأفاجئك بهدايا جميلة  ، كما أنني سآخذك لمدينة الألعاب  كي تستمتعي هناك ، لكن إياك أن تصرخي كما تفعل الفتيات الصغيرات .. أريدك أن تكوني شجاعة مثلي  اتفقنا ؟

اتفقنا يا سنان ، والآن  يا حبيي ، حان موعد نومك .. هيا لأقرأ لك قصة ما قبل النوم  كي تستيقظ باكرا  و لا تتأخر عن الروضة ..

قفز إلى  السرير حيث اعتاد أن ينام إلى جوار أمه .. احتوته بذراعيها و بدأت تسرد له  حكاية اليوم إلى أن أغمض عينيه  و راح في سبات عميق .. لم تلبث أن تبعته و أخلدت إلى نومها على أنين ذكرياتها الموجعة ..

أم سنان  ما بك ؟ ألا ترين كيف الدار تمتلئ بجموع المعزين .. ألا تريدين الخروج  إليهم  ؟؟ ثم  ها هم المشيعون قد أتوا ليحملوا  جثمان  الشهيد لينقلوه  إلى مثواه  الأخير ..

من بين دموعها التي كانت كسيل منهمر أجابت : بلى يا رُبى ها أنذا قادمة  ..

انتشلتها صديقتها ربى  من  رحلتها التي  أعادتها سبعة  عشر عاما إلى الوراء .. ألقت نظرة  وداعها الأخير على ابنها سنان الذي  مات شامخا و هو يذود عن حياض الأقصى  .. فبدلا  من أن تحتفل بتخرجه من الجامعة  الذي سيكون بعد يومين .. زفته إلى الحور العين ..

دمعة  باسمة فخورة تساقطت من عينيها على  وجهه الباسم .. أتبعتها بقبلة الوداع الأخير قائلة : لم  تحقق حلمك في أن أكون ابنتك كما تمنيت .. لم تحقق حلم الأبوة فيك .. كما لم تشعر  حقيقة ماذا يعني أن يكون لك أب ... ها قد سافرت إلى  دار النعيم  و سافرت أحلامك البريئة معك .. قد سبقتني إلى والدك يا سنان .. إلى الملتقى في جنة الرحمن ...