الله أكبر.. حرية

عبد الرحيم منصور

لا يدري لماذا أحسّ في ذلك الصباح الربيعي بنشاط وانتعاش غير معهودين..

نظر إلى السماء فأحس صفاءها والشمس ترسل أشعتها فتوقد في الأجساد والأرواح التي تلامسها شعلة حياة حقيقية.. قال عجباً: ثم انتبه إلى نفسه فقال: سبحان الله..

مضى إلى عمله.. الحياة هي.. هي لم يتغير فيها شيء. الصور على الجدران والشعارات كأنها نصوص من كتاب مقدس وأصنام متحركة لا تكف ولا تتعب من المراقبة والملاحقة والناس قطيع هائم لا يدرون إلى المسير تستغرقهم لقمة العيش ورغيف الخبز.

لا شيء في هذا الربيع تغير سوى أشعة الشمس النافذة التي اخترقت القلوب والأرواح فصار الناس يستقبلونها بشغف وقد تخلوا عن بلاهتهم المصطنعة المفروضة.

أحد الأطفال في السوق صاح وبكل جرأة: الله أكبر.. حرية.

توقفت حركة الناس للحظات ثم تعالت الصيحات: الله أكبر.. حرية، الله أكبر.. حرية، وكأن باب سجن كبير كان مغلقاً وانفتح.

حالة من الغليان المملوء سعادة غامرة سادت وامتدت، تجرأت الأيدي على صور الغول فمزقتها وعلى النصوص المقدسة على الجدران فأزالتها، وتوضعت في العقول والمشاعر صورة الحرية التي كانت مغيبة، فانطلق الناس بزهوهم وفرحهم إلى حرية لا يلوون على شيء.

أسقط في يد الغول.. ارتجف قلبه اهتز كيانه عشش الخوف في أعماقه، بدأ هيكله الكربة مثل تمثال من الشمع يذوب تحت شمس الحرية التي أشرقت.

كبّر الأطفال منطلقين من مدارسهم وأحيائهم صاحوا الله أكبر.. الله أكبر.. صاروا مآذن شاهقة وخلفهم الرجال فخورين بهم والنساء يزغردن من الشرفات والنوافذ.

ظهر حقد الغول الدفين، أدار فوهة الدبابة نحو مآذننا يريد أن يخنق نداء التكبير وصيحات الحرية، وانبرى بآلته العسكرية بكل صلف وغرور يرسل حمماً إلى صدور الأطفال والشباب والنساء ليجهض هذا المولود الجديد قبل أن يستفحل ويقوى، ولكن الألق ازداد إشراقاً والحرية سكنت في الأوردة والشرايين.

وبدأت الحياة الجديدة تنشر أجنحتها في كل مكان، وبدأ الألم العذب اللذيذ يستوطن في الشوراع والأزقة.

بدأ القصف على الحي بل على أحياء البلدة كلها، صاح الشيخ محمود: يا لطيف.. أسرع يختبئ انهار المبنى الذي هو فيه والمباني المحيطة، تحطمت أضلاعه تحت الأنقاض، تمزق لحمه في لحظات ولكن سيما الفرح والسعادة كانت بادية على وجهه المدمى..

أسرع الشباب يتفقدون الأنقاض ويسحبون جثث الأطفال والنساء من بين الركام، طفل ينهض من بين الركام نفض عن جسمه الغبار ونظر إليهم باندهاش قال: لم انته بعد ثم صاح الله أكبر.. حرية.. الله أكبر.. حرية..

شيخ فان تركه القصف وحيداً يتعثر في مشيته رأى مجموعة من الثوار انتعش قلبه، أشرقت روحه.. رفع أكف الدعاء إلى رب الأرض والسماء يدعو لهم ثم قال: أقول لكم أؤكد لكم هذه الحقيقة.. نحن هنا الآن لا ننتمي إلى الأرض ولا إلى أهل الأرض نحن هنا في هذه البلاد المباركة لا نأبه بقوى الأرض.. افهموها جيداً.. نحن ننتمي إلى السماء ونلوذ دوماً برب الأرض والسماء فلتفعل الحشرات ما تشاء.. ثم طلب منهم جرعة ماء واحدة وابتسم لهم ورفع صوته بالشهادتين ومضى إلى عليين.

ارتفع صوت التكبير.. وما زال نداء الله أكبر أقوى من القصف والتدمير، وما زالت أغاريد الأمهات والنساء تودع الفلذات وتستدعي الحرية وتفديها..