المرض تحوَّلَ ولم يزُلْ

بن العربي غرابي

مدينة ميسور، المغرب

 ألح عليه أبناؤه الذكور الثلاثة والبنت الوحيدة في ضرورة الذهاب إلى العيادة الخاصة الوحيدة بالمدينة فأطاع رغم تردده الذي لم يعلنه. ركب حماره الأعجف ورافقه ابنه إلى الطريق المعبدة التي تمر بمحاذاة القرية على بعد أقل من كيلومتر. على الرصيف، في انتظار إحدى الحافلتين اللتين تجوبان القرى المتجاورة بحثا عن الركاب، قضى أكثر من ساعة ممددا على الرصيف في الأرض تلفحه الشمس المسجورة متوسدا حجرة كبيرة يلفها بمعطفه السميك المتآكل . انحشر بين الركاب بصعوبة من آدمببن وأكياس وصناديق.وأنعام.

 في المدينة استعان بالمارة دلُّوه بحسن نية إلى عيادة الطبيب، دخلها معتمدا على عصاه فوجد طابورا من المرضى غالبيتهم من النساء. قاعة الانتظار ضيقة للغاية رغم نظافتها، بها كراسٍ جلديةٌ وطاولة عليها مجموعة من المجلات المصورة والمنشورات الطبية المتناثرة التي لا يأبه لها أحد. وضع عصاه لصق صدره وجلس بين المرضى.

 في أقصى القاعة جهاز تلفاز معلق قرب السقف تقريبا، يعرض خليطا من البرامج المتداخلة والمتناقضة : برنامج للطبخ تشرف عليه فتاة أنيقة ببشرة بيضاء،و نُتَفٌ من مقاطع كوميدية سيتم عرضها في المساء والليل و مطاردات طريفة للغريمين الأبديين" طوم وجيري". لا أحد ينظر إلى الجهاز، فلو أقيم استفتاء حوله بين المرضى لكانت النتيجة أن مائة بالمائة يريدون تعطيله وإجلاءه عن المكان، لأن الناس هناك كما يقولون " ينصتون إلى عظامهم أو أنفسهم". ففي محاوراتهم الهامسة والمجتزأة لا حديث لهم سوى عن الهموم الصحية والشكوى من تلاعب الأطباء وغلاء التكاليف، وتطفو العبارات التالية من كل الأفواه تقريبا مثل:

الصحة هي كل شيء

راحت الصحة

الطبيب الوحيد هو الله

من فقد صحته لم يبق له شيء....

 مد رجله اليمنى المصابة الملفوفة في مناديل قذرة : قبل عشرة أيام ذات مساء، كان يعلف سوائمه وفجأة انفلت عِجْلٌ متمرد يريد الخروج من المكان المظلم فداس على قدمه وكادت النتيجة تكون أثقل لولا تدخل ومساعدة زوجته له. قضى أكثر من أسبوع يدلكها بالماء والزيت الساخنين مستعينا أحيانا ببعض النسوة البلديات من القرى المتاخمة "المتخصصات" في مثل هاته الإصابات، فلما استفحل الوضع و"لم يعد في قوس الصبر منزع" وخشي أن يكون العظم مكسورا لم يجد بدا من الذهاب إلى الطبيب خصوصا بعد إلحاح الأولاد. أدى الواجب للطبيب دون مشاكسة على غير العادة حاملا ورقة عليه الذهاب بها إلى أقرب صيدلية لشراء الأدوية .

 نفض جيوبه في محل الأدوية. وحين كان متوجها صوب المحطة في قلب المدينة كان عليه المرور بالمتاجر الضخمة التي تغص بالبضائع، وكان عليه النظر إلى محلات الجزارين والخضر والفواكه. ولما ركب الحافلة نفسها للعودة إلى قريته كان يداعب قطعة البلاستيك التي وضع فيها الأدوية محملا بآهات جديدة وعميقة وكسور نفسية لاتجبرويفكر في الطريقة التي تمكنه من الحصول على حماره ليركبه وينقله إلى بيته بعد النزول من الحافلة .