كم هي عظيمة هذه الثورة..

عبد الرحيم منصور

عندما تلملم الشمس آخر خصلات شعرها الذهبي، وتختفي خلف الأفق.. يظهر القمر وملايين النجوم.. تحني سوسنةٌ رأسها تحية واحتراماً للقمر، الذي يقدم خدماته مجاناً لكل ما على الأرض، وتنعش ذاكرة الأحداث، ليقلب الحاج حمدي صفحاتها بهدوء وصمت، إلى أن يصل إلى مبتغاه.

يقول وهو مطبق فمه: كيف تسنّى لذلك الفتى الهادئ الوديع أن يكون في مقدمة سيل جارف من المتظاهرين الذين يهتفون للحرية والكرامة؟!..

وتنسل دمعة حرّى من بين الأجفان، لتنحط على وجنة الحاج حمدي.. سيلاً يتلألأ في ضوء القمر.. وتنفتح كوة الأحداث، وتترادف الخيالات والصور، ويتصدر الفتى هاشم المشهد البديع.. هاشم.. الذي ألفه الحاج حمدي، واعتاد على سماع التحية منه صباحاً ومساءً.

هاشم بن عبد الرحيم الزين.. شاب ذو شخصية هادئة متزنة قوية، لا يتكلم هذراً، ولا يضيع وقته سدىً.. غالباً ما يقضي ساعة وبعض الساعة مع أقرانه في ملعب الرياضة، ثم يعود إلى واجباته..

أموره المدرسية ميسرة، وهو فيها متقدم محبوب مرغوب.. دمث الأخلاق.. هادئ الصوت بنبرة قوية واضحة.. يأسر مستمعه بصوته، ويسحره بسمته اللطيف.

يستولي الحاج حمدي على لحيته بقبضة يده، ويمسحها عدة مرات وهو يفكر.. ثم يزفر زفرة.. لا تخلو من معنى لم يعبر عنه بعد، "إيه يا هاشم.. أين أنت الآن؟ هل أراك مرة ثانية؟!".. ويمضي الحاج حمدي مع أفكاره..

أما هاشم فقد كان يظهر في مقدمة المتظاهرين ويختفي.. يصول ويجول كالليث.. وينظر في كل الجهات بعيني صقر.. يقود المظاهرة، ويشجع المتظاهرين، يستثير فيهم الحمية والنخوة، حتى صار هدفاً لـ "شبيحة النظام" الذين فشلوا مرات عديدة في النيل منه، واحتاروا في طريقة ظهوره واختفائه..

كم هي عظيمة هذه الثورة.. عظيمة برجالها.. عظيمة في مقاصدها وأهدافها.. عظيمة في انطلاقتها وتنظيمها.. عظيمة في تفجير طاقات الشباب الحر التي كانت حبيسة القهر والخوف..

كان هاشم يقود المظاهرات، ويسعف الجرحى.. يحملهم على ظهره مسافات طويلة، ليوصلهم إلى بر الأمان، بعيداً عن أعين رجال أمن النظام وشبيحته، الذين يجهزون على كل جريح، ولو كان داخل المستشفى.

وكان يساعد الأسر المحتاجة بكل ما يتاح له من طعام وشراب ودواء.. وضرورات الحياة الأخرى، ولو كان ذلك من حسابه الخاص.

لقد رآه الحاج حمدي مرة وهو يقود مظاهرة حاشدة، فقد كان صوته يدوي فيخترق حواجز الخوف وهو ينادي: "الموت ولا المذلة.. الموت ولا المذلة". فتردد الجماهير خلفه بصوتٍ له دوي كصوت الرعد، ترتج له الأحياء والبيوت، وهم خلفه كأن سحراً يلفهم، غير مبالين بحجم الرصاص وجحيم قذائف القمع التي يواجههم بها رجال النظام وشبيحته.

ما يزال الحاج قلقاً على هاشم، وكان لهذا القلق ما يبرره، فقد غاب هاشم عن المشهد وطال غيابه، حتى أخذ المتظاهرون يفصحون عن خشيتهم من اعتقاله أو استشهاده.

لقد تداعت الأحداث واشتدت حملات النظام القمعية، واستهدفت المنازل والنساء والأطفال، وكان هاشم في إحدى جولاته، فوجد نفسه أمام زعران النظام وشبيحته، يحاولون الإغارة على منزل ليس فيه سوى النساء والأطفال، فلم يتمالك نفسه.. فاندفع كالليث الصهور وهو يصرخ: "الله أكبر"، ثم رمى سيارة الزعران بحجر حطمت زجاجها وأحدثت صوتاً مرعباً، جعل تلك الحثالة من الزعران في ذعر من المفاجأة، فابتعدوا وقلوبهم ترتجف خوفاً وهلعاً من صرخة "الله أكبر".

لقد عرف هاشم أنهم سيعودون، لذلك سارع إلى إخراج النساء والأطفال من المنزل، وانطلق بهم إل مكان آمن. وأثناء سعيه هذا تعرض لإصابة برصاصة غادرة في فخده الأيسر، ومع ذلك عصب هاشم جرحه بعصابة قوية، وتحامل على نفسه حتى أوصل الأسرة إلى مأمنها في رعاية الثوار الميامين، وأراد العودة إلا أن الثوار – وقد رأوا جرحه الذي لا يزال ينزف – منعوه من العودة وحملوه عبر الحدود إلى دولة مجاورة، حيث تلقى العلاج والعناية، وبعد أن استقرت حالته، واطمأن الجميع على سلامة إصابته، أبى إلا أن يعود إلى بلده حيث أهله ورفاقه الثوار، وكان أول ما فعله عندما وصل إلى الحي أن ذهب ليطمئن على الحاج حمدي الذي كان يسعد في شرب كأس الشاي معه كل يوم صباحاً مساءً.

ولكن هاشم وصل متأخراً.. لقد كان الحاج حمدي قد ارتقى إلى ربه شهيداً تحت أنقاض بيته بعد أن اخترقته قذيفة دبابة جبانة.. فوقف هاشم صامتاً مذهولاً.. إلا أنه سمع صوتاً.. كان قد ألفه عند جلوسه مع الحاج حمدي.. فالتفت ناحية الصوت.. فإذا بالسوسنة توشوشه.. وتقول:

- لقد كان شديد القلق عليك يا هاشم.