رنين الهاتف النقال

هشام جلال أبو سعدة

هشام جلال أبو سعدة

[email protected]

عينا حكيم ممتلئة بالدموع سنوات قاسية من الحبس والرفت، ليخرج منها فاقد الأمل في كافة شيء، لتبدأ الجائحة. لم يستفد أبدًا مرّة من لعبة الشد والأصباغ، فكلما نظر في المرأة وجد نفسه ما يزال صغيرًا، فقد اعتاد ملامحه على الرغم من أن المشيب قد حل بالشارب وبعض من السوالف، لحَتَّى أنه يرفض فكرة أن العمر قد ولىَّ وفات. فمن حوله يرونه ليس شابًا إنما شيخ كبير. آيات الإكبار والاحترام تبين على الوجوه كلما وجدته في محل، أيّ محل في مكتبة أو في السوق أو حَتَّى في المحلات التجارية الترويحية العصرية المنتشرة. احتدّ مرّة على شابٍ كبير- رأه هو ذاته كبير في السن- في الاختلاف على موقف السيارات أسفل البناية، فما كان من ذلك الشاب أن قال له معاتبًا:

-       لولا أنني أراك رجلًا كبيرًا في السن لكان ليَّ معك تصرُفًا آخر.

 نزلت تلك المعاتبة يومها عليه كالصاعقة، فأخذ يردد أنا رجل كبير في السن؟ كيف؟ .. تكسو وجهه هالة من الارتياح مشوبة بالسماحة والطيبة، إنما ليست طيبة الاستكانة، بل محلها التسليم بفوات النهار، بجانب ما تُضيفه المحبة المالئة لروحه تجاه الحياة الدنيا من الرضا. فلم يكن مغرقًا شديد التفريط في حب الحياة، بل تراه يحب الهبة الواهبها له الله سبحانه وتعالى، إنما لم يكن مُمسكًا فيها بقوة، إنما بشغفِ المُحب لما فيها من حلاوة وجمال. قطع تفكيره رنين الهاتف النقال، دار بينه وابنته كلام رقيق:

-          ألو .. يا بابا يا حبيبي؟ عامل إيه؟ ليه مش بترد عليه؟ اتصلت مرتين؟

-          إزايك يا حبيبتي، كويسة؟ وحشتيني أوي، نفسي أشوفك.

-          أنت أيضًا، عندي أخبار حلوة ، لما هتسمعها هتفرح أوي.

-          بسخريته المعهودة: أما زال من ثمة أخبار؟.. وكمان حلوة؟ أوليلي الأول بنتك العفريتة عاملة إيه؟

-          بنعومة: طعمة، نفسها تشوفك، كُلَّ شوية تسألني، فين جدو؟

-          سألها: عاملة إيه مع جوزك؟

-          بغيظ: الحمد لله، بيسأل عليك. لتستدرك، بابا؟ فاضي النهارده؟ هأمرعليك بعد ما اخلص شغلي.

-          بحنية: تعالي يا حبيبتي منتظرك.

-          عايزة أشوفك، عندي ليك مفاجأة.

-          مهموم: خلاص أنا فاضي.

يعشق حكيم ولديه التؤام ليا ولامي، ظلت ليا له بمثابة السلوى، فتُطيب جراحه عندما يتطلع في عينيها، فتنسحب آلامه وأحزانه وآسيه. رن الهاتف، ينظر برهة لرقم مدون على جهاز الرد الآلي، رقم لا يعرفه، فلم يرد، في العادة هو لا يجيب على الأرقام المجهولة، فجاءه الصوت من بعيد في جهاز الرد الألي: أين أنت يا رجل؟ لماذا لم تحضر في موعدك اليوم، كنا في الانتظار. فبدا له قد المتصل أخطأ الرقم، فرد على الهاتف: الرقم خاطئ، أسف. مرَّ الوقت بعد الاتصال العاطفي الخاطئ، راح في غفوة أمام جهاز البث الفضائي متذكرًا أيام ما كان في المعتقل، مع الرفاق.

-          (المحبوس1): خد نفسك، الجهاز ده بيوجع بس مش بيموت.

-          (المحبوس 2): ربنا ينتقم منهم، كُلّ زمان ومكان له زبانيته.

-          (المحبوس 3): لماذا؟ .. فالعالم كله قد انهى عهد الاستبداد، عهد الرجل الواحد، الفرعون الإله، الجاعل من حاشيته المهيمنين، طبقات الهيمنة لاستقرار نظامه.

-          (المحبوس 2): إلّا في أرضنا،  لديهم فكر غريب، عجيب، مريب؛ فما زال لديهم مقعدين.

-          (المحبوس 1): لينتقل الفكر مع الأحفاد إلينا؛ .. هم ذات المقعدين!

-          (المحبوس 3): فهموني.. لماذا هم مقعدين، .. ليسوا بثلاثة؟

-          (المحبوس 2): واحد للسلطة والآخر لمعارضيها، واحد ليتمدد عليه الوالي في كُلِّ موقع مهما صغر، وآخر يتمدد عليه المغضوب عليهم، .. إذن فلا حاجة إلّا لمقعدين.

-          (المحبوس 1): الغافلين فاكرينها دايمة، لا يعرفون أنها لحظات، فمغادرة، فعقاب، فعذاب، لا أحد يفكر في القادم الآتي، الجاي أكثر، إن غدًا لناظره لقريب.

-          (حكيم): معقول؟ .. هذا الكلام كان في السيرة التوهاتية.

-          (المحبوس 1): إذن  أنت الحكائيل الحفيد للحكائي القديم.

-          (حكيم): نعم أنا هو، إنما ما علاقة ذلك بتلك؟

-          (المحبوس 1): أنت المُنْتّظَّر؟ المُخّلِّصْ القادم من الماضي؟

-          (المحبوس3): لا أفهم شيئًا، المُنْتّظَّر والمُخّلِّصْ، مما؟

***

جاءت ابنته بعد الساعة، فاق، فرأها، فانشرح قلبه، احتضنها بحنان بالغ، جالسًا على الآريكة، فمالت في حضنه دقائق، كانت تعشق أباها، تعرف إنها تمثل له كُلَّ شيءٍ في الحياة، هي وأخيها لامي الذي صار مُقعدًا، مَحجوزًا في المركز الطبي عند الطبيبة شيخة الحكم، لا يمكن خروجه حاليًا بأيِّ حال، فالمرض عُضال صعب الشفاء منه. قبلها في خدها برقة، ليدور بينهما حوار بديع بين أب وابنته:

-          بنتك عاملة إيه؟ بحنان: كويسة، الحمد لله، مرددًا: أنت كويسة، مبسوطة يعني مع جوزك وشغلك؟ بحنان: أمممم كله كويس، اعتدلت وبشقاوتها المعهودة: بابا تعرف واحدة أمورة اسمها سماء الزاهد، انتفض في مكانه مرددًا: سما، أنت جبتي الاسم ده منين؟ بدلع: اعترف؟ تعرفها؟ ديه أمورة أوي، بتؤول إنها بتعرفك من زمان! ابتسم في مرارة: شفتيها فين؟ بدلع زائد: كانت معي في الصباح في المؤسسة، بتسأل عليك، متعجبًا: بتسأل عليه أنا! بغمزة عينها: على فكرة الست ديه متابعة كل أخبارك، باين عليها كانت بتعرفك كويس أوي، باستعباط: بتسأل عليه أنا! بعد العمر ده كله! بطعامة: أمممم قالت كمان إنكوا كنتم بتحبوا بعض، علشان أوافق إني أعرفها مكانك فين. لماذا لا تعطي عنوانك الجديد لأحد؟ فبلهفة: لماذا لا تعاود العمل من جديد؟ أنت موهوب، كل الناس بتحبك، لماذا اعتزال الحياة مبكرًا؟ .. أربعة وأربعون عامًا، ليس كبيرًا جدًا، ما زلت في عمر الشباب، لم تصل الخمسين بعد. بإلحاح مقبول، بابا؟ ممكن أقولها عنوانك؟ جرب، قابلها. صمت برهة، ينظر في عينيها: سما الراهب، الحب يطرق ثانية، .. ولا الحقيقة يا ولاد، أمال لو لم تكن مجرد رواية أو قصة كان حصل إيه؟ يا سلام يا سلام يا بابا، طيب وأنا إيه؟ آخذها في حضنه، كما لو كأنها ما زالت طفلة، ليقبلها مرّات: أنت روحي وعنيه، وقلبي إنما سما: أه أه (زي الأفلام) كانت ستُصبح زوجتي. تردد بطعامى وشقاوة:

-          زوجتك؟ إذن فالحكاية كبيرة خالص، إحكيلي على طول مش بعدين.