التائهون

عبد الرحمن هاشم

عبارتان اختزنتا في ذاكرتي وضميري لا يعتريهما النسيان مهما طال الزمن وتعاقبت الأحداث.

عبارة أطلقها "تي دبيليو أدورنو" أحد علماء النفس الاجتماعي عندما سئل عن الأشخاص الذين ينشؤون في كنف أبوين متسلطين عقابيين فأجاب بأنهم يكتسبون شخصية مستبدة عنيفة تجاه الآخرين، وأن الغضب الذي يتولد من عقوبات الطفولة لا يتلاشى بل يستقر ويتراكم في العقل الباطن، فإذا ما لاحت الفرصة فُرِغ عن هذا الغضب المكبوت.

والأخرى أطلقها "روبرت جودوين" أحد علماء النفس الإكلينيكي عندما سأله صحفي: ما توقعاتك لمستقبل الأطفال الذين تتكاتف عليهم عوامل الهجر والرفض وقسوة العقوبات البدنية والتفكك الأسري؟

قال بعد تردد: كيف لي أن أتنبأ بالمستقبل.. ثم أطرق قليلاً وأردف: ولكني على يقين بأن هؤلاء ستصبح حياتهم نموذجاً للغضب والاضطراب والعناد والتمرد.. سوف لا يشعرون بأي التزام أخلاقي في سلوكهم.

وردت هاتان العباراتان على خاطري وأنا أدلف إلى "قرية الأمل" لاستكمال بحثي الميداني عن البناء النفسي لأطفال الشوارع.

وقرية الأمل، مؤسسة خيرية بمدينة نصر تفتح أبوابها لهؤلاء الأطفال طوال اليوم فمنهم من يذهب للاستحمام وتناول الإفطار ومنهم من يذهب للاستجمام واللعب والترفيه وتناول الغداء لكن أحداً منهم لا يفكر في المبيت رغم توافر الأسِرة والحجرات!

يطلقون علي القرية اسم "النادي" يأتونه حيث يريدون ويفرون منه حين يملون.. لا شيء يقيدهم البتة.

مضيت عدة ساعات هناك.. وقبل أن تبتلعني الظلمة وليت هاربة بعد أن وقف وعيي حيال النهار وذكرياته ذاهلاً حائراً.

أنا إنسانة هادئة، أخص ما أوصف به الهدوء المطلق والبراءة، ولعل ذلك ما حبب فيّ أساتذتي فشجعوني على الخوض في هذه الدراسة مطمئنين إلى أن الأطفال سيأنسون لهدوئي وسيفتحون قلوبهم لي.

لكن.. ما معنى أطفال الشوارع؟

إنهم فيما يبدو الأطفال من الذكور والإناث المقيمون بالشارع بصورة دائمة أو شبه دائمة دون حماية أو رقابة أو إشراف من جانب أشخاص راشدين بما يدفعهم للقيام بالعديد من الأعمال الهامشية وعلاقتهم بأسرهم غالباً إما متقطعة أو مقطوعة.

في اليوم التالي جلست في البيت أدون ما سجلته ولاحظته في الحالات الإكلينيكية ويا بؤس ما سجلت ويا هول ما سمعت ويا بشاعة ما أخفيت فلم أدونه.

الرحمة والعفو يا الله، إن يديّ ترتعشان وأنا أكتب هذا الكلام.. وإنك وحدك يا رحمن يا رحيم تستطيع أن تلطف بنا فيما جرت به المقادير في هذا الزمان.

هالة

طفلة في الثامنة من عمرها قصيرة نحيفة البنيان رأيتها آتية صوب الركن المنعزل الذي أجلس فيه، تتبختر في مشيتها فقمت لأعترضها مقدمة لها قطعة من الشكولاتة:

ـ تفضلي يا ...

ـ هالة.. اسمي هالة.. يا أبلة..

ـ أبلة فدوى.. ممكن أعزمك على عصير وأتحدث معك قليلاً.. هالة حبيبتي؟

ـ ممكن لكن بسرعة كي أنصرف من هنا.

أخرجت من شنطتي زجاجة عصير مانجو فتلقفتها من يدي وعالجت فتح غطاءها وشربت العصير دفعة واحدة فقلت وأنا أتناول منها الزجاجة قبل أن تلقي بها في الحديقة:

ـ حدثيني عن أبيك؟

ـ لماذا؟ هل تريدن الزواج منه؟

ضحكت رغماً عني، فقالت:

ـ لكنه مات.

ـ ما عمرك؟

ـ عمري الآن ثمان سنوات.

ـ وعندما مات؟

ـ لا أدري.. كنت صغيرة جداً.

ـ ما شعورك لما مات؟

ـ حزنت لأنه كان يحبني ولم يكن يضربني.

ـ كلميني عن أمك؟

ـ كنت أعيش معها لكنها كانت قاسية شديدة تضربني على الرايحة والجاية.. وأحياناً تعذبني بالسكينة المحمية على النار.. وعندما تعذبني لا تصالحني.

ـ عندك كم أخت؟

ـ لي أربع أخوات وأخين.

ـ من منهم ترك البيت مثلك؟

ـ أختي أميرة.

ـ ما سنها؟

ـ أكبر مني بأربع أو خمس سنوات لا أتذكر.

ـ هل تشعرين بحبهم؟

هم متوحشون معي وبسببهم هجرت البيت.

ـ هل أنت أصغرهم؟

ـ نعم.

ـ وعشت في الشارع!

ـ الشارع عندي أحسن من البيت؟

ـ لماذا؟

ـ في الشارع أفعل ما أريد ولا أحد يضربني.

ـ هل تزوجت أمك؟

ـ تزوجت عرفي لما مات أبي.. استيقظنا من النوم ذات مرة على صراخ جدي الذي يعيش معنا قائلاً: تعالوا شوفوا أمكم بتعمل إيه.. وجدناها مع رجل في حجرة النوم، فقالت إنها تزوجته عرفياً.. بعد هذه الليلة أصبح يدخل علينا ليل نهار لكنها تركته وتزوجت رجل آخر..

ـ ما رأيك في أمك؟

ـ هي حلوة لكن تحب الرجال أكثر منا.

ـ ما لعبتك المفضلة أثناء وجودك في البيت؟

ـ كنت شقية جداً وكنت أقذف الأولاد بالطوب وأنا ألعب معهم في الشارع.

ـ ما آخر مرة تبولت فيها على نفسك؟

ـ لا أتذكر.

ـ هل أدخلوك المدرسة؟

ـ لا.

ـ هل لديك رغبة في دخول المدرسة؟

ـ لا.

ـ ماذا كنت تحبين أن تكوني لو دخلت المدرسة؟

ـ ولا حاجة أو أقول لك أحب أن أكون دكتورة أو أي حاجة.

ـ عندما هجرت المنزل.. ما أول عمل قمت به؟

ـ بيع المناديل والأذكار في مواقف السيارات وداخل عربات المترو.

ـ والآن ما شغلتك؟

ـ جمع القمامة.

ـ تتركين بيع المناديل لجمع القمامة؟

ـ ربحها أكثر وأكيد.

ـ وأصحابك الذين تعملين معهم.. هل معاملتهم لك جيدة؟

ـ نلعب معاً ويحب بعضنا بعضا.

ـ منذ متى عرفت التفرقة بين الولد والبنت؟

ـ من بدري.

ـ متى كانت أول مرة تركت فيها المنزل؟

ـ على ما أتذكر كان سني خمس أو ست سنوات.. لا أدري هو من زمان وخلاص.

ـ يعني ما الحادث الذي جعلك تهجري البيت؟

ـ سجنت أمي في شيكارة بانجو وجعل جدي يعيرنا حتى لا نطالبه بشيء: أمكم هي السبب جعلت أبيكم يتاجر في المخدرات حتى مات وهو مطارد من البوليس.

ـ أين آويت؟

ـ عند ولد يبيع شرائط كاسيت.

ـ هل تعرضت لحادث أو مكروه عقب تركك المنزل؟

ـ لم يحدث لي حوادث لكن أصبت بأمراض أخرى.. لما أنظر إلى أي شخص لديه عاهة في وجهه أحزن بشدة وأريد أن أذهب للدكتورة في مستشفى الزهراء التعليمي لأني بجد أحس بآلام أسفل بطني وأسفل ظهري.

ـ حدثيني عن أول مرة أحببت فيها ولد؟

ـ أحببت الولد الذي كنت أبيت عنده.

ـ وبعد الحب؟

ـ آه.. عمل معي حاجات قلة أدب لكن كنت أحبه.

ـ هل هو فقط أم هناك أولاد آخرين؟

ـ زوج أمي كان أول واحد يفعل معي ذلك..

ـ كم كان سنك وقتها؟

ـ لا أدري.

ـ هل أخبرت أمك؟

ـ حتى لو أخبرتها هو عندها أغلى مني.

ـ ومن بعد زوج أمك؟

ـ بياع الشرائط.

ـ ومن بعد بياع الشرائط؟

ـ رجل في خرابة أميرة أختي.. بعد أن أخذت منه السجائر تركتني وانصرفت وفي هذه المرة أعطاني جنيهاً.

ـ يعني أميرة أختك سبقتك في هجر البيت؟

ـ نعم، ولما كنت أروح البيت كان جدي يعيرني ويقول لي "يا بتاعة الخرابة" ثم يمسكني ليعمل معي وهو يقول: هيا.. كي تكبري بسرعة..  أريد مصلحتك.. وفي المرات التي أكون معه أصاب بالإختناق.

ـ ومن بعد ذلك؟

ـ مرة كنت مع صاحبتي أنتظر أختي أميرة فوجدت شخصاً يوقد ناراً للتدفئة فقلت لصاحبتي هيا نذهب ننتظر عنده أميرة وبالمرة نتدفأ معه.. قال لنا: هيا نلعب.. وفي اللعب حضنني.. وبعد مرور أيام ذهبت إليه في مخزنه وهو رجل كبير متزوج وعنده عيال فكنت كل مرة أذهب إليه يعطيني خمسة جنيهات.

ـ بعد انتهاء شغلك ماذا تفعلين؟

ـ ساعات آتي إلى النادي وألعب مع أصحابي.

ـ كم سيجارة تدخنيها في اليوم؟

ـ ثلاثة أو أربعة وساعات أتناول برشام.

ـ مع من تعيشين الآن؟

ـ مع أصحابي في الشارع نأكل معاً ونلعب معاً وننام معاً وساعات أروح البيت عند أمي.

ـ هل الشارع أمان لك؟

ـ هو عندي أحسن من البيت.. لكن أحياناً الأولاد الكبار يجرون وراءنا.

ـ من الذي أخذ بيدك إلى الشارع؟

ـ أختي أميرة علمتني كيف أعيش في الشارع وزهقتني من العيش في البيت..

ومسرعة فتحت شنطتي وأخذت منها خمسة جنيهات وولت الأدبار فلم يقدر لها أن ترى بشاعة الهم الذي قلص أساريري ولا الحزن الذي طفر على وجهي، ولم ترني وأنا أمسح بيدي دمعي المنهمر..

سميرة

جعلت تسوي إيشاربها وترفع حاجبيها الرفيعين وتقول للولد الجالس إلى يمينها:

ـ وما الداعي إلى الخروج الآن من النادي؟

فقال صاحبها وهو ولد في الثامنة من عمره تدل آثار الجروح في وجهه على عنفه وعدوانيته:

ـ وما الداعي إلى البقاء وقد استحممنا وتناولنا الإفطار وشاهدنا الفيلم.. وقام ليجذبها من رقبتها فتراجعت مستلقية على النجيل الأخضر فحاول أن يمسكها من رجلها فأسرعت تجري من أمامه.. هنا تلقفتها في حضني فوقف الولد أمامي متنمراً فصرفت غضبه بإعطائه جنيهاً ووعدته أن أعطيه خمسة جنيهات إذا تركنا بمفردنا وجاءنا بعد ربع ساعة.

حاولت التملص من حضني فقلت لها:

ـ اهدئي سأعطيك مثل ما أعطيته.

نظرت إلي بقلق وقالت:

ـ ماذا تريدن مني؟

ـ أريد أن أدردش معك.

ـ في أي شيء ؟ ولماذا أصلاً؟

ـ مهمومة وأريد أن أفضفض معك.. ولا تنسي أنني لي الفضل في تلبية رغبتك في عدم الخروج معه.

فابتسمت وقالت:

ـ تمام، ماذا تريدين؟

ـ ما اسمك حبيبتي؟

ـ سميرة.

ـ الله.. اسمك جميل.

ـ لا يا أبلة.. أنا بنت اسمي سميرة.

فأخذتها في حضني مرة أخرى وقلت:

ـ لكنك صغيرة جداً على ترك البيت والحياة في الشارع يا سميرة.. ما سنك؟ أظن أنك لا تتعدي السنوات الست.. لكن منذ متى وأنت تقيمين في الشارع؟

قلت ذلك وأنا أعطيها كيس شبسي فأخذته وقالت:

ـ منذ قرابة خمسة أشهر.

ـ لماذا؟

ـ أبي بائع متجول.. ساعات أعمل حاجات فأجده يضربني بدون سبب وعندما هربت من البيت أول مرة جاء بي وعلقني في السقف من رجلي وظل يضربني على مؤخرتي وهي عارية.

ـ وأين أمك وإخوتك؟

ـ أمي ضعيفة لم تستطع أن تحمي ابنتها من زوجها الراحل، فكيف ستحميني من قسوة أبي وجبروته؟

ـ كيف؟

ـ هو عمل مع بنت أمي.. ونحن ثلاثة بنات وولد واحد.. نغلق علينا الباب خوفاً منه حيث يعود مخموراً مبتلعاً الترامادول مدخناً البانجو ولا ننام طوال ما هو مستيقظ.. أختي حملت منه وولدت.. وتريدينني على أن أبقى في البيت!

ـ فهمت كرهك لأبيك.. لكن ألا تحبين إخوتك؟

ـ بلى، وعلى العموم كلنا في الشارع.. ما عدا أختي الكبيرة تجلس في البيت مع أمي وكأنها ضرتها تضرب فيها وتشتمها باستمرار.

ـ من شجعك على الشارع؟

ـ أخي علمني أقعد في الشارع وأبيع مناديل وأمسح زجاج السيارات وأحياناً أبيع عسلية.

ـ هل تعرضت لحوادث بعد هجرك البيت؟

ـ تعرضت لحادث سيارة وذهبوا بي إلى المستشفى لكن بعد أن شفيت هربت منها كي لا يعيدوني إلى المنزل.

ـ لماذا؟

ـ لأني تعودت على الشارع.

ـ لكنك صغيرة جداً على الشارع.

ـ الشارع كبرني.

ـ هل عمل معك أحد من العيال أصحابك؟

ـ لا، عمري ما عملت.. أبي جعلني أكره ذلك.. والعيال في الشارع قالوا لي حكاية اللمبة والفيشة وإن اللمبة تضىء عند وضع الفيشة فيها وحذروني من أي واحد يحاول يعمل معي حاجة.. أحب أرى نفسي فقط.

ـ ترين نفسك فقط.. كيف؟

ـ أرى نفسي وأنا أخلع ملابسي.

ـ تعملي حاجة مع نفسك؟

ـ لا.

ـ هل رأيت أحداً يفعل مع غيره؟

ـ أبي وأمي وأبي وأختي.

ـ هل تدخنين؟

ـ لا.

ـ لماذا وكل العيال يدخنون؟

ـ أتعب من السجائر.

هل الولد الذي أراد أن يجبرك على الخروج من النادي هو شقيقك؟

ـ نعم.

وصدق فيه المثل: "جبنا سيرة القط جاء ينط".

تامر

أقبلت عليه أسأله:

ـ أين اختفيت؟

فقال وهو ينظر إلى زجاجة المانجو الفارغة في يدي:

ـ في إشارة المرور أمسح زجاج السيارات.

أخرجت من الشنطة زجاجة أعطيتها له وأنا أقول:

ـ كم سنك؟

ـ 11 سنة.

ـ دخلت المدرسة؟

ـ دخلت وتركتها في السنة الثانية.

ـ لماذا تركتها؟

ـ كنت أكره المدرسين لأنهم لا يتعاملون معي إلا بالضرب.

ـ ما سبب هذه الجروح الغائرة في وجهك؟

ـ الأولاد الكبار في الشارع.

ـ هل بحث عنك أبوك أو أمك بعد تركك المنزل؟

ـ لا.

ـ هل لو فعلا كنت ستعود؟

ـ أنا أكره المنزل.. وأكيد سميرة أخبرتك..

ـ هل تتكلم مع بنات في الشارع؟

ـ نلعب سوياً.. ونتقابل مع بعض.

ـ أين؟

ـ في الخرابة.. كلنا نعمل مع بعض وبعدها ننصرف.

ـ كم مرة في اليوم تعمل مع نفسك؟

ـ مرة واحدة.

ـ هل شعرت أن ما تفعله مع البنات خطأ وحرام؟

ـ حرام، لكن العيال كلها تفعله.

ـ هل الأولاد الكبار عملوا معك؟

ـ ساعات.

ـ وماذا تفعل بعد الشغل؟

ـ نجري ونعلب في الشارع.

ـ هل تدخن؟

ـ أدخن سجائر وأشد كلة.

ـ مع من تعيش الآن؟

ـ مع أصحابي في الشارع وننام في الحديقة بحلوان وأحياناً بجوار محطة المترو.

ـ وماذا تفعلون مع البرد الشديد والمطر؟

ـ إما ننام في حضن بعض أو كل واحد يبحث له عن سيارة نقل فينام بين عجلاتها.

ـ ما شعورك وأنت تعيش في الشارع؟

ـ ألعب بحريتي وأشعر بأن الشارع أفضل من البيت لكن أحياناً يطاردنا الأولاد الكبار بهدف الاستيلاء على أموالنا.

ـ لماذا أخذت أختك إلى الشارع؟ ألا تخاف عليها من الأولاد الكبار؟

ـ ما أخذتها إلى الشارع إلا لأحافظ عليها من والدي!

ـ لا أفهم.

ـ والدي لم يترك أنثى في البيت إلا عمل معها وكان الدور على سميرة أختي الصغرى بعد أن نال غرضه من ثريا ومديحة وقد سبقتا إلى ترك البيت بعد أن حملتا منه.

ـ من يصرف عليهما؟

ـ الدعارة.

ـ ما الشيء الذي لو حدث تعودون فوراً إلى البيت؟

ـ الموت.. أقصد موت أبي.. لكن المشكلة ليست هي البيت.. لقد اعتاد علينا الشارع واعتدنا نحن على الشارع.

ـ قص علي رؤيا رأيتها في المنام ولا تنساها؟

ـ رأيت قططاً تتعذب ثم رأيت أنني أتعذب بدلاً منها.

                                            ***

نال بحثي رضا أساتذتي وأخذت عليه الدرجة النهائية فقد كان هو مشروع تخرجي لكن ظلت المشكلة تؤرقني وأحسست أنني نلت درجة العلمية على حساب هؤلاء الأطفال فلهم عليَ دين لابد أن أوفيه.. لكن كيف السبيل والمشكلة تخص دول وأنظمة لم تستطع حلها حتى الآن؟ أيكفي التدوين والتحذير ووضع التوصيات ودق نواقيس الخطر؟ ربما.. لكن ماذا نتوقع من مجتمع ينهش أبناءه؟ كيف سيكون مستقبله؟ ونعود إلى السؤال الذي سأله الصحفي لروبرت جودوين فكانت إجابته إنه لا مستقبل.. إنه الظلام.. إنه الضياع.

هؤلاء الضُيّعْ التائهون.. كم يبدون لي الآن أنهم أبعد ما يكونون عن سمات الطفولة.. كم تبدو تصرفاتهم أكبر من سنهم حتى باتوا يستهينون بالحياة.

أيام طفولتهم البريئة من المؤكد أنها كانت كحلم لمع في سماء حياتهم الباهتة ثم انطفأ للأبد.

لماذا انطفأ فيهم كل شيء جميل؟

نور الفطرة الذي كان يضيىء باطنهم.. شموع السكينة التي طالما آنست من ينظر إلى وجوههم.. الإطمئنان إلى براءتهم الحانية.. حتى شمس النهار أحسب أنهم لا يرونها إلا مطفأة وموحشة.

إلى أين سينتهي بنا وبهم الحال؟

لم أشأ أن أدون تفاصيل الحالة الرابعة وهي حالة فتى ناهز البلوغ لخطورتها البالغة فقد آنس مني حسن ظن ومسالمة أغرته بمحاولة افتراسي.. لا أستطيع أن أكمل أكثر من ذلك.

ألا ليت آباءهم لم يولدوا أصلاً.. أو ليتهم ماتوا في زمن براءتهم.