فاشل

ربيع عرابي

نظر حيزون إلى الوادي السحيق الممتد أسفل الجبل، وقد امتلأ بالصخور المدببة والنباتات الشوكية، ولمح بعض الأفاعي والثعابين وهي تتلوى وتتسلل بين الحجارة، وتسائل في نفسه : كم من الوقت ياترى سيستغرق سقوطه من قمة الجبل ليرتطم بإحدى هذه الصخور، ويصبح بعدها طعمة للثعابين والوحوش، ويغادر هذا العالم غير آسف ولا مأسوف عليه، وهل ستطول معاناته مع العذاب والألم، أم أنه سيموت بسلاسة ويسر، واضعا حدا حاسما لمصائبه ومتاعبه في هذه الحياة.

أخذ حيزون نفسا عميقا لعله آخر أنفاسه في الحياة ... وأغمض عينيه حتى لا يثنيه التردد والوجل عن تنفيذ قراره المصيري ... ثم مد يديه في الهواء كما تفعل الطيور ... حين تعانق أجنحتها نسمات الهواء ... ومال بجسده النحيل قليلا نحو الأمام ... وأسلم نفسه لرحلة الموت.

كانت رأسه تموج بالصور والذكريات الأليمة، منذ كان طفلا صغيرا، فشابا يافعا، فرجلا مكتمل الرجولة، ذكريات مليئة بالدموع والمخازي والجروح والأحزان.

تذكر الكاهنة الإنسية اللعينة التي كانت أمه تتردد عليها، فتملأ رأسها بالأكاذيب والخرافات، لتقوم الكاهنة بدورها بخداع زبائنها، وإفراغ جيوبهم ومعاصمهم مما حوته من أموال وذهب، وفي يوم مشؤوم زار الكاهنة أحد القادة المهمين، لتكشف له عن طالعه وتتنبأ له بمستقبله، يومها غافل حيزون أمه ودخل في قارورة مبرقشة جميلة، وأخذ يراقب الحاضرين من خلالها، ولحظه السيء سدت الخادمة القارورة، وانشغلت أمه بمحاولة إخراجه منها، فغفلت عن الكاهنة التي تلعثمت وتلكأت ولم تعد تدري ماتقول، فكان أن غضب عليها القائد غضبا عظيما، وطردها من البلدة شر طردة.

ومنذ ذلك اليوم، لم تعد أمه تناديه حيزون، بل فاشل، تعال يا فاشل ... إذهب يافاشل ... أغرب عن وجهي أيها الفاشل ... كم كانت تلك الكلمة تؤلمه وتجرحه، وكم كان الغضب يملأ كيانه كلما سمع أمه تناديه بها.

ورافق أباه بعد أن شب وكبر ليتعلم منه أسرار المهنة وحيل العفاريت، كان أباه قد بذل جهدا كبيرا، ونصب شباكه وحباله بإتقان، ليوقع أحد شبان الإنس البسطاء في غرام إنسية خاصمها  الجمال، فتمكن والده بوساوسه من إقناعها بتغيير خلقتها، وإبراز مفاتنها، وكشف سترها، فغدت تتمايل كاسية عارية أمام ذلك الشاب المسكين.

ثم أقنع والده ذلك الفتى بالخلوة بالفتاة، وزين له مداعبتها وملاعبتها، زاعما أن ذلك من الهفوات الصغيرة، التي لا قيمة لها ولا ذيول، وأن الضرورة هي التي تبيح المحظور، وتبرر الفجور.

كادت الخطة تؤتي ثمارها، فقد خلا الشاب بالفتاة، في غفلة من الرقيب والحسيب، وجلس والده بينهما يزين لهما الفاحشة ويجرهما إليها بخبث ودهاء، وفجأة نهق الحمار بأعلى صوته بعد أن لمح حيزون مارا أمامه، فاجتمع لنهيقه القريب والبعيد، وافتضح أمر الشاب والفتاة، وذهبت جهود والده أدراج الرياح.

وكانت النتيجة أن قاطعه والده، فلم يعد يطيق رؤيته أو صحبته، أو حتى النطق باسمه، وصار كلما وقعت عينه عليه يصرخ ويصيح :

فاشل ... فاشل ... أبعدوا عني هذا الفاشل ... لا أريد أن أرى هذا الفاشل ...

وكانت الطامة الكبرى، حين أوكل إليه رئيس العشيرة، إشعال الحرب بين بلدتين متجاورتين، بعد اختفاء أحد الأطفال، وبينما هو في الطريق لتأجيج الفتنة وأداء المهمة، لمح حفرة عميقة وقع الطفل فيها ولم يتمكن من الخروج.

أخذ حيزون يدور حول الحفرة فرحا متراقصا شامتا بالطفل العالق، حين لمحه كلب من كلاب القرية فأسلم حيزون ساقيه للريح، ورأى الكلب الطفل العالق، فأخذ يعوي وينبح بأعلى صوته، حتى اجتمع إليه أهل البلدتين، واستخرجوا طفلهم الضائع، وبدلا من المعركة الطاحنة، انتهت الليلة بسهرة ووليمة عامرة.

يومها حلت عليه النقمة الكبرى، فاستدعاه رئيس العشيرة، وهدد وتوعد برفع أمره إلى إبليس اللعين، ونهره بصوت غاضب حانق :

حيزون ... أنت فاشل ... أنت عار علينا وعلى عشيرتنا ... مكانك ليس بيننا ... فليس لدينا مكان للفاشلين ... إرحل عن عشيرتنا حالا ... فكفانا ما حل بنا بسببك.

انكب حيزون على أقدام رئيس العشيرة يقبلها، ويطلب منه العفو والصفح والمساعدة، وبعد طول عناء وأخذ ورد، استجاب رئيس العشيرة لرجاء حيزون وتوسلاته، ونظر إليه قائلا :

حيزون، ليس لك مكان هاهنا اليوم ... لكن لعلك إذا ذهبت بعيدا ... وتذوقت مرارة الغربة وقسوة الحياة بعيدا عن أهلك وصحبك وعشيرتك ... فلربما عدت إلينا بعد ذلك عفريتا ماهرا كعفاريت سليمان ... يدرك المسؤولية ويتحمل أعباءها الجسام.

أمره رئيس العشيرة أن يرتحل إلى مملكة الأحلام، فالأمور ميسرة هناك، وجميع مقدراتها تحت سيطرة الشياطين والجان، بعد أن بذلوا في سبيل الوصول لذلك جهودا مضنية، وسنوات طويلة، فكافة أسباب النجاح متوفرة لحيزون فيها، دون مشقة وعناء :

بل ربما تعاون معك أعداؤنا الإنس ... وساهموا في إنجاح مهمتك ... واعلم أن هذه هي فرصتك الأخيرة يا حيزون ... قبل أن يرفع إسمك إلى رئيس الشياطين ... إبليس اللعين.

تألم حيزون كثيرا لمفارقة عشيرته وصحبه، لكنه لم يكن يجرؤ على مخالفة الأمر، فانطلق في الصباح الباكر في رحلته الطويلة يقطع الأميال بعد الأميال، متوجها إلى المملكة الموعودة.

وطوال طريق رحلته، كانت تدوي في أذنيه صيحات السخرية والإستهزاء من العفاريت العابرين والمسافرين :

حيزون ... الفاشل ... إلى أي مصيبة أنت ذاهب أيها الفاشل ... من ذلك الإنسي المحظوظ الذي جعلت من قدره!!!.

اجتاز حيزون حدود مملكة الأحلام بعيد الظهيرة بقليل، وبدأ يتجول في الأراضي الواسعة التي تحيط بعاصمتها، وتتابع فيها الأشجار المثمرة، والغابات الباسقة، والمروج الخضراء، والأراضي القاحلة الجرداء، وأخذ يجيل النظر في معالمها، ويراقب الإنس القاطنين فيها، بحثا عن صيد ثمين، يكون فاتحة لحياته الجديدة.

وكان أول ما لفت إنتباهه رجل ضخم قوي البنية، أشعث الشعر، رث الثياب، واسع العينين، يحمل بيده عصا غليظة ينكت بها الأرض، ويضرب بها جذوع الشجر، كان الرجل يتجادل مع أحد رعاة الأغنام، طالبا منه قدحا من اللبن يروي به عطشه ويسد به رمقه، وكان الراعي يجادل بأن الأمر قد فاق الحد، وأن الغنم ليست ملكه بل هو مؤتمن عليها، وعلا صوته محتجا مستنكرا :

كل يوم تأتيني وأسقيك ... عيب عليك يا غريب ... أنت سليل أسرة كريمة ... والأرض مليئة بالخيرات ... وقد وهبت صحة وقوة وجلدا ... فلم لا تعمل وتأكل من كسب يدك ... بدلا من مد يدك مستجديا الناس؟

استشاط غريب غضبا، وأمسك بتلابيب الراعي ورفعه في الهواء، وألقى به بعيدا، وانتزع زاده، وروى عطشه من لبن الأغنام، ثم صوب نظراته المرعبة إلى الراعي المسكين، مهددا ومحذرا من رفض طلبه مرة أخرى.

راح غريب يمشي في المروج على غير هدى يجلس تارة ويقف أخرى، ويتلفت يمنة ويسرة، وقد ملأ فمه بالطعام، وامتلأت الأرض حوله بالفضلات، و قادته خطاه إلى تل قريب، افترش فيه عجوز أشيب سجادته العتيقة، وراح يؤنب غريبا على مافعله بالراعي منذ قليل، طالبا منه العودة إلى أصله، وإصلاح هيئته، والكف عن أذية الناس.

تابع الشيخ حديثه مصوبا بصره نحو السماء، وقد ملأت محياه مشاعر الطيبة الساذجة، فلم يلتفت إلى أوامر غريب له بالتزام الصمت، وأن يدعه وشأنه ويهتم بحياته الخاصة، فما كان من غريب وقد غلى الدم في عروقه، إلا أن أهوى بعصاه على رأس الشيخ العجوز، فخر ميتا من ساعته.

كانت الشمس قد غربت منذ لحظات قليلة، وبدأ الظلام يتسلل إلى أرجاء المكان، وذهل حيزون حين رأى ذلك الوحش الإنسي العملاق، جالسا يذرف الدموع من عينيه، وهو يؤنب نفسه ويلومها على طيشه وتسرعه، فالشيخ كبير عاجز لا تقوى رجلاه على حمله، لكن نظرات عينيه البريئة كانت كوقع السهام في قلب غريب، نكأت جروحه وذكرته بماض أليم نسيه أو تناساه، فزفر صدره زفرة كادت تخرج معها روحه، وراحت التلال القريبة تردد صدى آهاته وأحزانه.

انطلق حيزون صوب المدينة مسرعا، وقد ملأه السرور والحبور لما حصل عليه من معلومات أولية عن غريب، وكان يشعر في قرارة نفسه، أنها سترسم مستقبل أيامه ونجاحاته القادمة، وستفتح له طريق العودة المظفرة إلى أهله وعشيرته.

كانت المدينة تعج بالناس، وساحتها الرئيسة ملأى بالعربات المتنوعة، منها ما يحمل أطباقا للبث الفضائي، وأخرى تحمل أعلاما، وثالثة تحمل جنودا وأسلحة، وأخرى صغيرة تبيع الطعام والعصائر للحاضرين، وكان الجميع متجمهرين حول مبنى البلدية الأنيق الذي يتصدر المكان، وكأنهم بانتظار خبر عاجل أو قرار هام.

تسلل حيزون إلى مبنى البلدية، حيث اجتمع في قاعته الرئيسة قادة مملكة الأحلام وزعماؤها المؤثرين، بمشاركة المنظمات المدنية، والأجهزة الأمنية، والجهات المختصة،  ومنظمات المجتمع الأهلي، وحضور وسائل الإعلام المختلفة، كانت المداولات حامية والأصوات مرتفعة، والخلاف عميق حول القرار المصيري الهام الذي يترتب على الجميع اتخاذه في هذه الليلة، وتحمل نتائجه وتبعاته.

وانقسم الحضور إلى فريقين اثنين : فريق يؤيد إصدار عفو شامل كامل عن غريب، والتجاوز عن ماضيه وتاريخه، واحتواءه وترويضه وإدماجه في المملكة، ليعتاد شيئا فشيئا على أسلوبها في الحياة، وينسجم مع عاداتها وتقاليدها، ويتأقلم مع هويتها وثقافتها، وفريق آخر لا يرى في ذلك أي فائدة تذكر، فغريب هو غريب، وسيبقى كما هو غير قابل للتغيير أو التعديل، مهما صرف من جهود وبذل من مغريات، والحل الوحيد بالنسبة لهؤلاء، هو إلقاء القبض عليه وإحضاره حيا أو ميتا، لينال ما يستحق من عقاب.

سار الجدال على هذا النحو بين الفريقين، فمندوبو حقوق الإنسان والأحزاب الخضراء ومنظمات العفو وحماية البيئة والتراث، ظلوا مصرين على موقفهم، متمسكين بالعفو والإندماج سبيلا وحيدا لا بديل عنه، بينما تشبثت الأجهزة الأمنية والجهات المختصة والقادة العسكريون، بضرورة استعمال سياسة العصا الغليظة، في مواجهة غريب وأمثاله من الخارجين عن الشرعية.

أخذ حيزون يحرش بين الطرفين بعد أن أعجبته اللعبة، لكن فكرة شيطانية لمعت في ذهنه، مالبث أن وضعها قيد التنفيذ، فالوقت قصير، والقضية عاجلة، وستعرض على التصويت خلال دقائق معدودة، فلا مجال للتردد والتفكير.

تراخت فجأة نبرة ممثلي الجهات المختصة والأجهزة الأمنية والقادة العسكريون، وخَفَتَ اعتراضهم، وارتسمت بسمة ماكرة على وجوههم، بعد أن تبادلوا بضع كلمات هامسة فيما بينهم.

حسنا فلنصدر قرارا بالعفو ... فنحن لن نخسر شيئا ... فإذا ما أعجبنا الوضع الجديد تعاملنا معه دون مشاكل ... ولو شعرنا بأي خطر أو تهديد فسيكون من السهل عمل ترتيبات خاصة للتخلص من غريب ... وإلقاء التهمة على أي من أعدائه الكثيرين.

وصدر القرار بالعفو الشامل الكامل عن غريب، وإعادة دمجه بالمملكة، وتأهيله ليكون جزءا من ثقافتها وبنيتها، وأعطيت مهلة ثلاثة أيام لكي يوضع القرار موضع التنفيذ، ولتُتَّخَذَ كافة الإجراءات الكفيلة بإنجاحه، وفرك حيزون يديه فرحا بما أنجزه في ساعات معدودة منذ وصوله المملكة، وانطلق ليستعد للمهمات الهائلة، التي كان عليه الإشراف عليها في الأيام القادمة.

ما إن صدر القرار حتى نقلته القنوات الفضائية عبر شاشاتها، وازدحمت شبكات الهاتف النقال نتيجة لكثافة المكالمات، وامتلأت شبكات الإتصال الإجتماعي بالتعليقات، وبدأت تظهر التحليلات المختلفة لهذا القرار التاريخي، ونتائجه المرتقبة على البلاد والجوار والعالم بأسره، وآثاره على مستقبل البشرية وحاضرها.

ونشرت الصحف المسائية والصباحية على صفحاتها الأولى تقارير شاملة عن غريب، مخترعة قصصا وهمية، وحكايات خيالية، مبررة أو متغاضية عن بعض تصرفاته السالفة، مبرزة بعضا من مآثره وإنجازاته الطيبة، والتي لو قيض لها رعاية كافية، ووجهت وطُبِعَتْ بهوية وثقافة مملكة الأحلام، لأتت بالخير العميم والتقدم العظيم.

وأجرت العديد من مراكز البحوث، استطلاعات سريعة للرأي، لسبر ردود الفعل لدى الناس، ونظرتهم إلى إعادة تأهيل غريب واندماجه في مملكة الأحلام، وقدرتهم على تقبله في مجتمعاتهم، ومدى استعدادهم لإندماجه في حياتهم.

وسارت أغلبية قليلة من الناس وراء أجهزة الإعلام، فأيدت القرار وتفاءلت بنتائجه، بينما تحفظت أقلية كبيرة على القرار، ورأت فيه ضحكا على الذقون، وتقويضا لبنية المجتمع، وقضاء على ثقافته وهويته.

اتخذت البلدية إجراءات عاجلة استعدادا للإحتفال المهيب، بانضمام غريب إلى ركب الحضارة واندماجه في حياة الأحلام، وعممت الأجهزة الأمنية أمرا شفويا على جميع وسائل الإعلام، بإبراز الجانب المضيء من حياة غريب، والتعتيم على القضايا الشائكة.

وحلقت طائرة عمودية تابعة للشرطة في سماء المملكة، وجابت أرجاءها حاملة لافتة كبيرة كتب عليها : أهلا بك بيننا ... نحن بانتظارك ... مرحبا بك في مملكة الأحلام ... ، بينما كانت مكبراتها تذيع بصوت عال، قرار المملكة بالعفو الكامل الشامل عن غريب، ودعوته للإندماج في حياة الأحلام من جديد.

تحولت المملكة إلى خلية نحل، وهي تعد العدة لإستقبال غريب، وحبست الناس أنفاسها وتسمرت أمام شاشات الفضائيات، تتابع ما تنقله من مستجدات لحظة بلحظة، وما تعرضه من تحليلات وبيانات ووثائق ومناكفات.

كان الوقت يمضي سريعا بالنسبة للبعض، بطيئا لآخرين، إلى أن حلت اللحظة الموعودة، واتجهت الأنظار صوب البوابة الرئيسة للمدينة، وقد اجتمع أمامها علية القوم، ونجوم الفن والسياسة في المجتمع، واتخذ عناصر فرقة التدخل السريع والجهات المختصة أماكنهم تحسبا لأي طارئ، وصوبت كاميرات المحطات الفضائية كاميراتها ولاقطاتها لتواكب الحدث السعيد.

وما لبث أن سمعت خطوات غريب تقترب من بعيد، وشاهد الملايين عبر العالم كله وصوله للمدينة، بجثته الضخمة، ومنكبيه العريضين، وشعره الأشعث، وعينيه المتقدتين، ومحفظته الجلدية الغريبة الملتصقة بجسمه، كان يسير متثاقلا بخطى مترددة صوب الجموع، وبدا وكأنه يقدم رجلا ويؤخر أخرى، ذاهلا عما يحيط به، جاهلا ما ينتظره في مقبل الأيام.

كانت أولى المهام الصعبة هي إدخال غريب إلى الحمام الميداني الذي أقيم خصيصا لهذه المناسبة، وإقناعه من ثم بالتخلي عن محفظته الجلدية لبرهة وجيزة حتى لا يصيبها البلل، وكان الحل الوحيد الذي قبل به غريب، هو وضعها في صندوق زجاجي أمامه في الحمام، حتى لا تفارق ناظريه لحظة واحدة.

وقام الخياطون الذين أرسلتهم أشهر دور الأزياء في المملكة بأخذ مقاسات غريب على وجه السرعة، ليتم اختيار الزي الفولكلوري الذي صمم خصيصا له، وسيظهر به أمام الناس، وسيصبح شعارا إعلاميا وسياحيا للمملكة.

وبذل الحلاقون جهودا مضنية في تحديد صَفَّةِ الشعر واللحية الأكثر جاذبية وتناسقا وتناسبا، والمعبرة عن غريب وماضيه الجميل وقراره التاريخي الحصيف بالإندماج مع عادات وتفاليد وثقافة المملكة.

كان عشرات الأشخاص يدخلون ويخرجون، حاملين المقصات والأوراق، وقطع القماش والمناشف، وعلب الكريمات الغالية وقوارير العطور الفاخرة، وبدائع المجوهرات والساعات والأوسمة والنياشين، مقدمة جميعها من أرقى وأغلى المتاجر والشركات والأحزاب والجمعيات.

وفي نهاية المطاف، تحلق حول غريب مجموعة من الشبان والفتيات، أوكل إليهم تلقينه وبشكل سريع موجز، أهم جوانب الإتيكيت والتقاليد، ونُبِّهَ بحزم أن تكون إجاباته بكلمات معدودة قليلة، وأن يُرفقها ما استطاع بابتسامة لطيفة، وأن يُحيلَ ما يعجز عن فهمه والإجابة عليه إلى سكرتيرته الحسناء الفاتنة التي سترافقه ليل نهار، فهي الكفيلة بإخراجه وتخليصه من حبائل الإعلام ومكائده.

كان البرنامج اليومي لغريب حافلا بالأعمال، فمن مشاركة في البرنامج الإذاعي الصباحي، إلى مقابلة صحفية، ثم إجتماع مع إحدى الشركات، يليه غداء عمل، فمؤتمر حزبي حول أهمية الإندماج وفوائد العولمة، وأخيرا السهرة المسائية على الشاشة الصغيرة وبرنامجها الحواري الإستعراضي الجماهيري الممتع، والذي أصبح غريب ضيفا أساسيا فيه.

امتلأت الأسواق بآلاف المنتجات، من القمصان، إلى القبعات، وربطات العنق، تحمل جميعها صور غريب وزيه الفولكلوري، كما أضحت ألبان غريب، وكعك غريب، ولحوم غريب، المواد الأكثر استهلاكا في المطاعم ولدى ربات المنازل.

وصدرت عشرات الكتب والأبحاث والأفلام الوثائقية، تتحدث عن غريب، ماضيه وحاضره، وقرار اندماجه، وباشرت كبرى الشركان العقارية، بناء مشروع عملاق، يتألف من فيلات سكنية فاخرة، مستوحاة من بيئة غريب وماضيه العجيب.

وكان أهم الإنجازات وأقواها، العقد الذي وقعه غريب مع أكبر شركات الإنتاج السينمائي العالمية، تعهدت من خلاله بانتاج فيلم طويل، تتداخل فيه الدراما والكوميديا، ويشارك فيه ثلة من أشهر نجوم الفن في العالم، وتسند بطولته المطلقة إلى غريب، وقد رصدت له ميزانية هائلة، كما تقرر عرضه في كافة صالات السينما حول العالم في آن واحد.

واتُّفِقَ أن تقوم شركة أخرى، سرا ودون لفت الإنتباه، بإنتاج فيلم إباحي، يحكي عن غراميات غريب، وقدراته الخارقة، ولياليه الحمراء الألف والواحدة بعد الألف، مع الحوريات الفاتنات، الإنسيات منهن والجنيات.

وأصبح غريب بزيه المميز ومظهره الجديد، مفتاح النجاح لأي مشروع مهما كان تافها أو عديم القيمة، وكلمة السر التي تفتح محافظ الناس، وتكنس جيوبهم، وتستهلك مدخراتهم.

كاد حيزون يطير من الفرح لإنجازاته الباهرة، وتغلبه على العديد من المصاعب والعقبات، سيما تلك التي واجهته في إقناع غريب بوضعه الجديد، وتزيين الحياة الصاخبة في ناظريه، فقد ساعدت وسوسات حيزون على انخراط غريب في عالم الأضواء الساطعة، والموائد الممدودة، والمراقص الصاخبة، والأزياء المبهرة، والشهرة والنجومية والمجد.

وكان حيزون يحث غريبا على العَبِّ من الملذات عَبَّاً دون توقف، يساعده في ذلك شعور غريب بالحرمان الطويل، والوحدة القاسية، والفراغ العاطفي والعقلي، وهكذا أضحت حياة غريب الجديدة، تنقلا من سكر إلى سكر، ومن مشروع إلى آخر، ومن وليمة إلى تاليتها، ولم يعد قادرا على اتخاذ قراراته، وتذكر التزاماته، وإحصاء عهوده ووعوده، ولولا مساعدة مرافقته الفاتنة، وذلك الجهاز الصغير العجيب الذي تحمله معها على الدوام، فتذكره أولا بأول، بما عليه من واجبات، وما لديه من التزامات، لكان الضياع المطلق مصيره المحتوم.

ومع مرور الوقت أخذ حيزون يفقد قدرته على إغواء غريب بمزيد من المتع والملذات، وبدأ الملل يتسرب إلى قلب غريب وعقله، فما هو في الحقيقة إلا حبيس هذه الدائرة المغلقة، والقفص الذهبي الذي وضع فيه، وهؤلاء الذين يضحكون ويمرحون حوله، فيتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، إنما جعلوه مطية لتحقيق رغباتهم وقضاء شهواتهم، فما إن ينقضي ذلك كله، حتى يتركوه وحيدا غريبا تائها من جديد.

ثم ماهذه السفاهة والتفاهة، والكذب والدجل الذي يعيشه هؤلاء القوم، فما هي ألبان غريب وبم تختلف عما سواها، وكيف اخترعوا حكاية حوريات الإنس والجن، وليالي الفحش والغرام القميئة هذه، وما أدرى هؤلاء الكذبة الفجرة بتاريخه المجيد، الذي نسيه هو شخصيا أو تناساه منذ زمن بعيد.

لقد كان حقا وسخ الجسم أشعث الشعر رث الثياب فظ الأخلاق، لكنه كان إنسانا يشع في قلبه بقايا نور خافت، لا زال يجاهد للإبقاء عليه، واليوم وبعد أن غُسِلَ جسده بالعطر، وصُفِّفَتْ خصلات شعره، وكُسِيَ بأفخر بالثياب، وعُلِّمَ مبادئ الإتيكيت، لكنه لم يعد إنسانا كما كان من قبل، وانطفأ ذلك النور في قلبه أو كاد.

تزايدت الهواجس والشكوك في قلب غريب، وتزاحمت الأفكار في عقله، وصار من عادته الخلوة بنفسه ساعة كل مساء، ينطلق فيها خارج المدينة، ليستنشق الهواء الطلق النظيف، ويستمتع بنقل خطواته في الرحاب الواسعة، مستذكرا ما مضى من حريته وانطلاقه.

لم يفلح حيزون في ثني غريب عن الخروج عصر أحد أيام العطلة، فقد انطلق يحث الخطى صوب الأحراش البعيدة، واقترب من التل الذي شهد مصرع العجوز الطيب، وأخذ يجيل النظر في الأشجار السامقة، والأغصان المتدلية، وقد حجبت أوراق الشجر الكثيفة الشمس، ومنعتها من الوصول إلى الأرض، إلا أن بعضا من أشعتها الرقيقة، تمكنت من التسلل بخفة ورشاقة، فرسمت على وجه الأرض أشكالا وزخارف بديعة، كانت كافية لإنارة الدرب وتبيان الطريق.

استدار غريب نحو الخلف بقوة بعد أن أمسكت قبضةٌ عنيفة برقبته ...

ماذا تفعل هنا أيها السائح العجيب ... وما هذا الزي المضحك الذي ترتديه؟

أنزل يدك ... فما شأنك أنت بي وبلباسي ... ومن أنت؟

أنا راقص في السيرك الوطني ... أو ... أو مذيعة في الأخبار ياحبيبي ...

أنا أكبر قاطع طريق هنا ... ألا تفهم أم أنك أحمق؟ ...

أجل أنت أحمق ... أحمق بالتأكيد ...

عرفتك ... أنت غريب ...

غريب الذي باع حريته ليجعل من نفسه ألعوبة في أيدي هؤلاء التافهين.

وتابع قاطع الطريق كلامه :

لقد كنت أنوي أن أنتزع منك ما تحمله من أشياء ثمينة، ثم أدعك تعود إلى مدينتك، أما الآن، وقد عرفت هويتك، فلن أتركك حتى أجعل منك عبرة لكل ذي بصر وبصيرة.

ماذا ستفعل أيها المجرم ... صاح غريب في وجه قاطع الطريق.

سأقتلك شر قتلة ... أجاب قاطع الطريق ... سأقتلك بطريقة لم تخطر على بال أحد ...  يتناقلها الناس جيلا بعد جيل ... ويحكيها الآباء لأبنائهم ... سأصنع خصيصا لك خازوقا مدببا من جذع شجرة يابسة ... وسأعلق فوقه حبال مشنقة يتدلى من تلك الشجرة العالية ... سأشد الحبل على عنقك وأجلسك على الجذع ... فكلما مزق الجذع بعضا من أحشائك ضاق الحبل على عنقك ... فلا يدري أحد بأيهما مت بهذا أو بذاك ... بينما أتسلى أنا بجلدك بالسياط ريثما تحرج روحك من جسدك النتن هذا ... وبعد ذلك أستولي على أشيائك وأرحل ... لتتسلى الأفاعي والطيور بجثتك.

لم يكن لدى حيزون ما يفعله، فلو نفذ قاطع الطريق تهديده، فسيموت غريب قبل أن تصل إليه أي نجدة، وكيف له أن يقنع الناس بوسوسته بإنقاذ غريب، وفوق ذلك كله هل هناك في مملكة الأحلام كلها من يهتم أصلا بمصير غريب، أمات أم عاش، فما هو بالنسبة إليهم إلا مشروع تجاري ناجح مر وانقضى، ولربما أسلموه للموت، ثم صنعوا له تمثالا، وكافؤوا قاتله سرا.

وكان غريب في هذه الأثناء، يحاول إقناع قاطع الطريق، أن ما يهم بفعله من جريمة نكراء، مناف لحقوق الإنسان، وللشرائع والمواثيق التي تنهى عن التعذيب، ولوثائق منظمات العفو، وأن قطعه لجذع الشجرة يعد جريمة فادحة، ومخالفة صريحة وجارحة لقوانين حماية البيئة، وأنه بقطعها سيؤلب عليه الأحزاب الخضراء، في شرق الأرض وغربها، وستوجه له تهمة الإضرار بالطبيعة، وتلويث البيئة بالدماء، فهي جريمة ضد الإنسانية وضد البيئة في آن واحد.

كما أكد غريب لقاطع الطريق أن عمله هذا مناف للحرية الشخصية، وأصول الحوار والتعايش السلمي، وأنه كرجل متحضر مندمج لن يواجه الجريمة بمثلها، بل سيكتفي بالمعارضة والمقاومة السلمية، والإستنكار الشديد لهذه الخروق الجسيمة، محافظا على عهوده والتزاماته التي قطعها على نفسه في مملكة الأحلام.

قهقه قاطع الطريق عاليا، بعد سماعه خطبة غريب العصماء، ثم صرخ في وجهه منذرا ومحذرا : إجلس مكانك يا أحمق وإياك أن تتحرك، وانتظر مصيرك المحتوم بصمت، ودعني أجهز لك مسرح الإعدام حسب ما يليق بمقامكم السامي، واندماجكم الأنيق.

جلس غريب على صخرة قريبة، يتأمل قاطع الطريق وهو ينفذ وعيده، ويقوم بمعالجة جذع الشجرة اليابس ببلطته، ويربط الحبل بأحد الأغصان العالية، بينما كان يدندن بإحدى الأغاني الهابطة.

بدأ الغضب يثور في قلب غريب، وأخذ يستذكر ماضيه البعيد، حين كان الجميع يرتعد فرقا لسماع اسمه، وينحني إجلالا لذكر عائلته، ويحسب ألف حساب لغضبته، كانت أصابعه تتلمس المحفظة الجلدية المعانقة لخصره، فتمر على الزخارف النافرة التي تزينها.

الجميع يظنونها رسوما وزخارف قديمة فحسب، ولا يعلمون أنها حروف كتابة لا يعرفون قراءتها ولا يتقنون أبجديتها، وتذكر جده العجوز حين أعطاه هذه المحفظة، وأوصاه ألا يفرط فيها مهما كانت الظروف، وألا يتركها تسلب منه إلا وقد فاضت روحه معها، وألا يفتحها إلا حين يرى الموت بعينيه، وليبحث فيها آنذاك فلربما عثر على نجاته بداخلها.

لم يدرك غريب حين ذاك مراد جده، إلا أنه حافظ على وصيته، فالتصقت الحقيبة بجسمه وروحه، في يقظته ومنامه، وحله وترحاله، وأصبحت المحفظة جزءا من كيانه، فهل أزفت ساعة فتحها وكشف مكنوناتها وسرها ...

كان غريب يحل رباط المحفظة، وصورة العجوز الذي قتله في هذا المكان، وهو يتعبد على سجادته لا تفارق مخيلته، فما أشبه وجهه بوجه جده، وما أشبه عيينيه البريئتين بعيني جده ... لم قتله؟ ... ياليت يده قطعت يومها قبل أن تمتد إليه بسوء.

فتح غريب المحفظة بعد معالجة رباطها، فهاهو يرى الموت بعينيه، ولم يبق أمامه إلا لحظات قليلة، وينفذ قاطع الطريق وعيده الآثم، فيصبح جثة هامدة تنوشها الطيور وتتنازعها الوحوش، أي نهاية بشعة اختارها له نظام مملكة الأحلام، أمن العدل أن يكافا التزامه بنظام المملكة بهذه النهاية المفجعة.

مد غريب يده داخل الحقيبة وبدا يخرج ما فيها من أوراق ونشرات ملونة جميلة :

حقوق الإنسان ... يالها من نكتة سمجة ... يعرفها ويحفظها عن ظهر قلب.

ميثاق العفو الدولية ... كوميديا مملة فجة ... قرأها مرات ومرات.

حماية التراث والآثار ... أو سرقتها ... شاهد فيلما رديئا حولها.

وهذه الأوراق الملونة المضحكة ... الشبيهة بأفلام الهر والفأر ... آه ... إنها الخضر والصفر والزرق ... وحماية البيئة ... وحقوق الحيوان ... وحماية التماسيح والدببة من الإنقراض.

وهذه أجل يذكرها جيدا : إنها حقوق الشواذ ... وحرية الإنحلال ... لطالما حدثته عنها بإعجاب وإسهاب سكرتيرته الفاتنة.

كلها أورق تافهة كاذبة ... لا تساوي ثمن الحبر الذي كتبت به ... والصحف التي سطرت عليها ... فما هو سر الحقيبة إذن ... ولم أعطاها له جده.

كانت يد غريب تجول في زوايا المحفظة الخفية باحثة مستنجدة، علها تعثر على أمل ينقذها من الموت القريب، حين لمست أطراف أصابعه كتابا صغيرا، اختبأ في خجل واستحياء في أحد جيوبها بعيدا عن الأنظار.

أخرج غريب الكتاب برفق، وقد تهرأ غلافه بعض الشيء، واصفرت أوراقه قليلا، إلا أن حروفه وكلماته لا زالت شديدة الوضوح جلية المعالم، وأدرك غريب أنها نفس الحروف المحفورة على جلد المحفظة، فما إن قلب بعض الصفحات حتى وجد العبارة ذاتها تتردد في جميع أقسام الكتاب، فأخذ يرددها بصوت هامس خاشع : بسم الله الرحمن الرحيم.

إنه القرآن الكريم، الكتاب الذي ورثه جده عن آبائه وأجداده، وكان يقرأ فيه صباح مساء، وتلعثم غريب قليلا وهو يحاول قراءة بعض الكلمات * :

"يا صاحِبَيِ السِّجنِ

أَأَربابٌ مُتَفَرِّقونَ خَيرٌ

أَمِ اللَّـهُ الواحِدُ القَهّارُ

ما تَعبُدونَ مِن دونِهِ إِلّا أَسماءً سَمَّيتُموها أَنتُم وَآباؤُكُم

ما أَنزَلَ اللَّـهُ بِها مِن سُلطانٍ

إِنِ الحُكمُ إِلّا لِلَّـهِ

أَمَرَ أَلّا تَعبُدوا إِلّا إِيّاهُ

ذلِكَ الدّينُ القَيِّمُ

وَلـكِنَّ أَكثَرَ النّاسِ لا يَعلَمونَ"

كانت الدموع تنهمر من عينيه، وصوته يعلو شيئا فشيئا، فتردد صداه التلال والجبال من حوله :

أَأَربابٌ مُتَفَرِّقونَ خَيرٌ

أَمِ اللَّـهُ الواحِدُ القَهّارُ

إِنِ الحُكمُ إِلّا لِلَّـهِ

أَمَرَ أَلّا تَعبُدوا إِلّا إِيّاهُ

ذلِكَ الدّينُ القَيِّمُ ... ذلِكَ الدّينُ القَيِّمُ

صرخ قاطع الطريق غاضبا : مالك ويلك ...، وانطلق نحوه بسرعة ليبدأ بتنفيذ جريمته البشعة ... ونهض غريب من مكانه بقوة ... وقد أمسكت يمناه بالقرآن ... بينما أطبق بقبضته اليسرى على عنق قاطع الطريق المذهول فرفعه في الهواء،  وأذاقه من الكأس التي أعدها بيديه.

تمكن حيزون من لفت انتباه الجهات المختصة في المدينة إلى غياب غريب، وتمكن بوساوسه من جر خطواتهم إلى موقع الأحداث، وماهي إلا لحظات قليلة حتى امتلأ المكان بعربات الشرطة، والأجهزة الأمنية، ووسائل الإعلام، ومندوبي الأحزاب، والمنظمات والهيئات المختلفة، كان الجميع يصيحون ويصرخون :

إرهابي ... قلنا لكم من البداية إنه إرهابي ... عدو الإندماج و الحضارة ... انظروا إلى القرآن في يده ... محال أن يتخلى عن همجيته ... لا بد أن يُحاسَبَ على جرائمه ... لا بد أن يُحاسِبَ خزينة المملكة ويعوضها عما أنفقت عليه ... لا بد من تخليص العالم من وحشيته وتخلفه ...

كانت الجموع يشجع بعضها بعضا، وقد أخذ منها الحماس كل مأخذ، فبدؤوا بالإقتراب من غريب محاولين النيل منه والقبض عليه، فالتفت إليهم ممسكا قرآنه بيمينه، موجها إليهم نظراته الصارمة، فألقي الرعب في قلوبهم، وملأ الخوف أوصالهم، فارتدوا على أدبارهم خاسئين، وهم يصيحون ويرددون : دعوه الآن ... فلا بد أن يأتي اليوم الذي يعود فيه إلينا راكعا مستجديا طالبا العفو والعون والمغفرة.

أسلم حيزون رجليه للريح حين رأى المصحف في يد غريب، فما إن سمعه يردد بعضا من آياته، حتى كادت أطرافه تتخدر وأنفاسه تنقطع رعبا وخوفا، فقد خبت نيران مكره، وتقطعت حبائل كيده، فانطلق بعيدا تعتصره الأحزان وتحاصره الذكريات.

كان واثقا أن أخبار فشله الجديد، قد بلغت لا محالة رئيس العشيرة، الذي رفعها بدوره إلى إبليس اللعين، وسيكون حسابه عسيرا مريرا، بعد الخسارة الكبيرة التي تسبب بها لمعشر الشياطين، فهدم لهم في مدة وجيزة مابنته أجيالهم في عقود طويلة.

وقرر حيزون أن ينهي المأساة بنفسه، ويضع حدا لحياته المليئة بالفشل، فانطلق صاعدا إلى قمة الجبل الشاهقة، المطلة على وادي الأفاعي السحيق، ذي الصخور المدببة والعقارب السامة.

وقف حيزون على قمة الجبل مستعرضا مآسيه وأحزانه، تتراكض الصور والذكريات في مخيلته، وقد عقد العزم الأكيد على الإنتحار، فألقى بنفسه في الهواء مادا يديه كأجنحة الطيور، متخذا قراره الأخير، فلن يعود بإمكانه تغيير مصيره، بعد أن غادرت قدماه قمة الجبل.

لم يتجرأ حيزون على فتح عينيه ليقيس المسافة المتبقية إلى صخور الوادي، فقد فضل أن يرتطم بها فجأة، فيلاقي مصيره المحتوم دون حساب أو تفكير.

لكن الأمر طال ... وطال ... وطال ... ولم يصل جسمه للأرض بعد ... ترى ما الخطب  ... هل تغيرت قوانين الكون بين ليلة وضحاها، لقد استعرض حياته وذكرياته كلها ولم يبق لديه ما يفكر فيه، ألم يشاهد بأم عينه العديد من الناس، ينتحرون بإلقاء أنفسهم من أعالي الجبال، ليتحولوا خلال ثوان معدودة إلى جثث هامدة، لا روح فيها ولاحياة.

قطعت تفكير حيزون صرخة شيطانية غاضبة اهتزت لها جنباته وأركانه :

يا فاشل ... يافا ا ا ا ا ا ا شل ... أنت فاشل ... فاشل ... فاشل ...

حتى الإنتحار لا تتقنه ... يا فاشل ...

الإنس هم الذين ينتحرون بإلقاء أنفسهم من علٍ ... يا فاشل ...

لأنهم خلقوا من طين لازب ... يا فاشل ...

فهم يقعون على أمهم الأرض ... فتتفتت أجسادهم الضعيفة وتعود ترابا.

أما نحن معشر الجن المتفوقين ... يا فاشل ...

فقد خلقنا من مارج من نار ... يا فاشل ...

فعندما نقرر الإنتحار

نصعد إلى أعالي السماء ... فيصيبنا شهاب ثاقب

فنموت ... يا فاشل ...

.....................................................................................

"يا صاحِبَيِ السِّجنِ أَأَربابٌ مُتَفَرِّقونَ خَيرٌ أَمِ اللَّـهُ الواحِدُ القَهّارُ ﴿٣٩﴾ما تَعبُدونَ مِن دونِهِ إِلّا أَسماءً سَمَّيتُموها أَنتُم وَآباؤُكُم ما أَنزَلَ اللَّـهُ بِها مِن سُلطانٍ إِنِ الحُكمُ إِلّا لِلَّـهِ أَمَرَ أَلّا تَعبُدوا إِلّا إِيّاهُ ذلِكَ الدّينُ القَيِّمُ وَلـكِنَّ أَكثَرَ النّاسِ لا يَعلَمونَ ﴿٤٠﴾" - يوسف