دعاء المظلوم

سمر حامد العامودي

سمر حامد العامودي

كان جلّ اهتمامها بجمالها وأناقتها وأموالها فقط، وتؤمن بشّدة بأن الطبيعة وحدها منحتها ذلك وأنها ورثته عن أبويها بحكم القدر، الذي لا تعرف كنهه، ولا ماذا يعني، ولم تفكر البتّة أن الله سبحانه وتعالى حباها هذا الجمال بقدرته، وبحكمة منه أيضا قدر لها أن تكون وريثةً لأبيها المليونير، يشاركها أخ لها يعيش خارج البلاد.

وهي لا تفتأ تختال بين عقاراتها وشركتها ومحلّها التجاريّ الكبير، تلك الشركة الذي يعمل فيها أكثر من خمسة عشر موظفاً تحت إدارتها، وقلّما تذهب إلى تلك الإدارة، وتتابع أعمالها من خلال الهاتف، وتثق بموظفيها كثيراً.

كانت ممشوقة القوام، بهيّة الطلعة، ذات قسمات ناعمة وملامح إن دلّت على شيء دلّت على أن إحدى جدّتيها أوروبية شقراء إن لم تكن أمها، وبجمالها ذاك كانت تتباهى، وتلفت النظر إليها، وهي تسّر بذلك، مما جعل من يريد الوصول إلى قلبها فهذا طريقه، فيمتدح جمالها لمصلحة معينه أو للتودد فقط.

إلى أن جاء الرجل الذي عرف السبيل إلى قلبها مباشرةً، كان ذو مكانةً في المجتمع تبدو عليه سمات الغنى والعزّ. وبما أنها لم

تتزوج بعد، سعى إلى الزواج منها، وذلك في غضون ثلاثة أشهر فقط من بداية معرفتها إياه، ولم يعلم أحد كيف استمالها معلناً حبه وهيامه بها، وهي أيضا أحبّته حبّاً كبيراً. مما جعلها تغضّ البصر عن بعض صفاته القبيحة ألتي لم ترها، وعن نصائح صديقاتها المقرّبات لها، ولعلّها تتصرّف بحريّة تامّة أكثر من غيرها، لفقدانها والدتها بسن مبكرة، ومن ثمّ والدها بعدها بسنوات، ولا يعيش معها غير الخدم في البيت.

إهتماماتها كانت معروفة، اعتادت عليها. فالنوادي والمطاعم، والحفلات هذا ما كان يقتل أكثر وقتها، فقد كانت تسهر حتى الفجر وتنام إلى ما بعد لظهر، وهكذا كانت تقلب نهارها ليلاً وليلها نهاراً،  ومن أين ستسمع أو تعرف شيئاً عن دينها، دين الإسلام الحنيف، ولم تفكّر في أيّ يوم من الأيام ماذا يعني أنها مسلمة! ولم تقرأ القرآن الكريم في يوم من الأيام أو أيّ كتاب عن سنّة الرسول محمد r وهي لا تشاهد التلفاز، والبرامج الدينيه كثيرةً على الفضائيات العربية، ولو أنه قدّر لها أن تشاهد أحد هذه البرامج  إذاً لعرفت ولو شيئاً يسيراً.

وها قد تم ما أرادت، وتزوجت من هذا الرجل الذي عرفته من قريب، ومرّ على زواجها ستة أشهر من أجمل أيام حياتها وأوفرها مرحا وحبّاً للحياة.

ما أشد ثقتها بزوجها المحبوب حين سلّمته ممتلكاتها بالوكالة، وما أكثر تلك ألممتلكات والعقارات ونادراً ما تشرف عليها حتى من بعيد، وأبقت لنفسها ما يسلّيها فقط لتختال هنا وهناك.

إلاّ أنه في يومٍ من الأيام وفي محض الصدفة، كان أمامها بعض الأوراق انتزعتها من ملفٍ خاص، وقعت عليه يدها، فدقّقت بها، وشعرت أن هناك شيئاً يحدث من وراء ظهرها خيانةً وغدراً، وأخذت تتابع الأمور وتهتم أكثر وأكثر دون علم زوجها، فهي الشابة المتعلمة، الحاصلة على أكثر من شهادة وعدة دورات في فن الإدارة، فقد كان كل شيء تحت إدارتها قبل زواجها وتعرف كل صغيرة وكبيرة، وإن كان عن طريق الهاتف، إلى أن عرفت وتأكّدت أن زوجها يبيع ويشتري كما يحلو له، دون علمها، وكان يتقن خداعها وما أذكاه في مجال التزوير أيضاً.

لذلك حدث في داخلها شيئٌاً جللاً! فمشاعرها اختلفتْ وتبدلتْ فجأة اتجاه زوجها، وبدت وكأنها امرأةً أخرى في غضون ساعات، وانقلب حالها، مثل بركان شارف على الإنفجار.

وها هي تنتظر زوجها آخر النهار ليعود بعد الثانية عشر ليلاً كعادته راضيا كل الرضا عن حاله، سعيد كل السعادة إلى ما وصل إليه. مُظهراً بطريقةٍ أو بأخرى كل الحب والشوق لها.

وعندما رأته ولمّا يدخل بعد، وكانت قد وصلت هي إلى الحديقة ووقفت على الباب لخارجي وقالت مفتعلةً الهدوء المبالغ فيه:  ماذا فعلت بأملاكي؟ أين ذهبت باسمي أيها الوغد المحتال؟

فما كان منه إلا أن فغر فاه عن آخره، وجحظتْ تلك العينين الذابلتين ،وتجمدت تلك الشفاه وخانه لسانه فما نطق بشيء، إذ لم يتوقع أن تعرف بهذه السرعة على ما يبدو.

وتابعت بصوت مرتفع هو إلى الصراخ أقرب: ماذا كان ينقصك؟؟ كيف استطعت أن تزوّر كل هذه الأوراق في مثل هذه السرعة ؟ وكيف صار باسمك كل شيء وماذا أبقيت لي؟؟

وكان لا يزال واقفاً في الباب الخارجي للحديقة، وحاول تهدئتها بعد أن تماسك قليلاً ودخل بضع خطوات باتجاه زوجته وقال متلعثماً:

لم أفعل شيئاً مغايراً مصلحتك أو مصلحة العمل يا عزيزتي، قال ذلك بكلمات متقطعة وفي برودٍ شديد، كأن ريحاً عاتية أخذت بأمواج صوته بعيداً وتناهى إلى سمعها صدى صوته الخافت.

وفي جدال لم يزد على ربع ساعةٍ من الزمن كان هو خلف باب الحديقة الخارجيّ، وقد أدار مفتاح سيارته، وذهب.

ولم يعلم بهما أو يسمعهما أحد سوى بعض الخدم وبعض الجيران الفضوليون. وظلت صامتة جتى أذان الفجر.

كان ذاك الصوت بعيداً جداً عن مكان الفيلا، لكنها لأوّل مرةٍ تسمعه وتفكّر في صوت الأذان هذا، ونامت وخديّها لا يزالان نديّان من أثر الدموع.

ولكن! خيوط شمس الضحى ارتفعت وبانت من نافذتها العالية، فنهضت من فراشها وهي تحدّث نفسها وتلومها كيف وثقت بزوجها كل الثقة! وكيف سارعت إلى منحه الوكالة على معظم أملاكها ببساطة.

وعرفتْ الحقيقة وتأكدت منها بعد أيام قليلةً وهي كما توقعتْ، زوجها خان الأمانة، بمنصبه مديراً لشركتها وبتلاعبه بجميع الأوراق الرسمية لصالحه.

لأول مرة كانت تحوقل- وتقول: لا حول ولا قوة إلاّ بالله- وصارت لا تنام ولا تفعل شيئاً سوى الصمت حتى هواتفها الخاصّة لا ترد عليها. فهي تخاف الشماتة و اللوم أو الشفقة أو كل ذلك.

وفي ليلةٍ مقمرةٍ مضيئة، كانت سماؤها ونجومها جليّة، وهذه الصبية لا تزال ساهرةً لم يغمض لها جفن، وقد اعتادت على السهر، ولما تتعدى الساعة الثانية عشر بعد. احسّت في صدرها بضيقٍ وألم شديدٍين، فذهبت إلى النافذة مسرعةً كأنها تود أن تمسك طيراً صغيراً، رأته حطّ لتوه على النافذه.

وصرخت بصوتٍ عالٍ كأنها تصيح لتسمع جميع الناس. ولكن هيهات فصوتها المخنوق ما كاد يُسمع الطيور الساكنة أقرب شجرة إلى نافذتها، فشكت لله ربّ العالمين قائلة: يا ربّ يا ربّ إنتقم لي منه.

ووقعتْ على الأرض مغشيّاً عليها لا تعي شيئا ًمن حولها، وكأن صراخها قد أفرغ ما كان يضغط على أعصابها وعقلها، وجسمها كله.

وأفاقت كعادتها في ضحىً متأخر، وبقيت في بيتها لم تبرحه إلى اليوم التالي منذ وقوعها على الأرض، وأيضاً أفاقت في ضحىًً متأخر على جرس الباب يرن دون توقف.

نهضت متثاقلةً إلى أن وصلت الباب وهي تتمتم ألا يوجد غيري يفتح هذا الباب أم ماذا؟؟ وفتحت الباب لقريبتها التي كانت تتأبط جريدةً يوميةً، وقالت: ألم تدر ما حصل؟ وفاجأتها بصورة مصغرة لزوجها في أعلى الجريدة من الجهة اليمنى، مكتوب تحتها مباشرةً: رجل الأعمال المشهور يقع من على مقعده مغشياً عليه في مكتبه، وأخذ إلى المشفى. وكان هناك كلام كثير.

سجدت على الأرض بدموعٍ منهمرة، ساعدتها قريبتها على النهوض، وذهبت قاصدة الوضوء.

وبالفعل توضأت وصّلتْ لأول مرة في حياتها لله ربّ العالمين.

ولا يزال لسانها رطباً بحمد الله، ولم تترك الصلاة والحجاب بعد أن عرفت أن الله لا يرد للمظلوم دعاءاً. وهي التي لجأت الى الله واستجارت به.

فاستجاب لها، مع أنها كانت لا تطيع ألله إلاّ ما كان على الفطرة ولمّا ينحرف بعد. وعقدت العزم وعاهدت الله أن لا تترك الصلاة أبداً.

وأصبحت أجمل بكثير بذلك الحجاب الساتر الجميل مما كانت عليه.

واستردت كثيراً من ممتلكاتها عن طريق المحامي الموكل، ومع أنها علمت أن زوجها ردها لها عن طيب خاطر منه، نادماً على فعلته. إلاّ أنها طلبت الإنفصال عنه وبررت ذلك لعدم ثقتها به، وبعد ذلك علمت أنه ذهب خارج البلاد للعلاج.

وباشرت أعمالها بنفسها بنشاط واضح، مفعم بالحيوية،  وغيّرت مسار حياتها إلى طريق غير مِعوجّ. راضيةً بذلك.