أيهم وسرقة الدجاج

أيهم نور الدين

..

ما من مرة يطالعني فيها بوست فيسبوكي موجه لأحفاد سارقي الجيجات  إلا وتعود بي الذاكرة إلى تلك الأيام الغابرة في مرحلة الشلفنة وبدايات المراهقة  .

كانت أم أيهم في يوم  قيظٍ شديد قد طبخت حبوبية بلبن , إحدى أكثر الأكلات مقتاً لدي , كما كان البراد – كعادته – خاوياً على عروشه فخرجتُ دون أن آكل شيئاً .

كان أيمن ومحمد يقفون – ككل يوم - عند الحنفية الملاصقة لمحل نصري في السوق منتظرين أحد الجيران المحملين بالأغراض ليقوموا بمساعدته علّه يحن عليهم بنصف ليرة .

-         شو طابخة أمك اليوم ولاه " أسأل  أيمن "

-         ولا شي .

-         وأنت التاني ؟!

-         حبوبية بلبن

-         يا ربي ع هالعلقة .

كانت عصافير بطننا نحن الثلاثة تصوي .

-         وهلئ يا شباب .

-         شو بيعرفني " يرد أحدهم " .

أخذنا بقتل الوقت بالحديث عن الطعام ليصرخ محمد فجأة :

-         شو رأيكن نتغدى فراريج .

نظرت إلى أيمن وحال لساني يقول : شو عم يحكي هالمجنون :

-         هوه نحن لاقيين قالب سوركه الأول لحتى نتغدى فراريج .

-         والله يا زلمة , ليك , فيه ع الطريق العام جنب كازية القوجة بيت مهنا , عندون جنينة كبيرة ومليانة جيج .

-         مدجنة يعني ؟

-         لك شو مدجنة , هدول ناس شبعانين , والجنينة من القفا مسكرا بمنخل نصه خربان .

-         نسرق يعني .

-         لك شو نسرق , هدول الناس عم قلك شبعانين , واللي ما بدنا ناكله رح تاكله الجقيل ( بنات آوى )  بقا أحسن شي : عليهم يا عرب .

كانت المسافة طويلة بيننا وبين بيت مهنا اللي ساكنين بآخر ما عمر الله .

وبين الأخد والعطا والتردد وصلنا إلى هناك قبيل العصر .

لم يكن جامع عز الدين القسام قد بني بعد , وبالتالي فقد تسللنا إلى حديقة المنزل الكبيرة المكتظة بالأشجار دون أن يشعر أحد .

كان القن ملاصقاً للمطبخ وصوت الراديو يأتي قوياً ومسموعاً , شعرنا بالخوف وأحسسنا بفداحة ما نقوم به , فأردنا العودة وإذا بدجاجة بلدية كبيرة لا تقوى على الحراك  ولا تبعد عن أيمن النحيل أكثر من مترين .

انقض عليها بقفزة يعجز عنها أعظم حارس مرمى , وإذا بها بين يديه .

خرجنا بهدوء – كما دخلنا – ونحن نقنع أنفسنا بصوابية ما فعلناه , فها هو الدجاج بالعشرات لا يلتفت إليه أحد , ولولا أخذنا هذه الدجاجة العجوز لماتت خلال يومين أو أكلها الجقل  .

اتجهنا نحو النقعة , وعند المرج التاريخي الشهير جمعنا الحطب , ثم ذبحنا الدجاجة بالمقلوب بواسطة طبة تنكة صدئة .

كان الذي ذكّى الدجاجة هو محمد بعد أن أمسكناها له بطريقة فنية جعلتها لا تقوى على الحراك , ونحن نصيح به أن لا ينسى البسملة عليها كي يحل أكلها وإلا فهي حرام .

نتفنا الدجاجة ريشة ريشة دون ماء ساخن .. ظلت بقايا الزغب عليها , لكننا لم نبالِ كثيراً , ثم شققنا جوفها بالتنكة ونظفناها قدر الامكان و ...  أشعلنا الحطب ووضعناها على النار .

بدأت رائحة الشواء تزكم أنوفنا , لم ننتظر حتى تنضج كليةً فقد بلغ الجوع منا مأخذه , وهكذا صرنا نأكل الأجزاء المشوية منها ونقلبها ونعود لنأكل ما نضج حتى انتهت الدجاجة وصارت في خبر كان .

كان المغرب قد اقترب فعدنا أدراجنا إلى البلد ونحن نقسم أن لا نكرر الموضوع ونعود للسرقة مجدداً مهما حصل .

في اليوم التالي قادتنا خطانا المترددة إلى المكان نفسه لتكرار التجربة .. أحضرنا زاغتين إضافة لبعض البيض .

كانت النقعة بعيدة فقررنا طهي حصيلة الصيد عند سور مؤسسة الأسمنت .

تغدينا يومها دجاجاً وبيضاً مشوياً ... وأقسمنا أنها خاتمة الانحراف .

...

صرنا نذهب كل يوم تقريباً , لم نعد نذبح الدجاج بالزجاج المكسور والتنك , بل أحضرنا سكيناً مفلولاً أكل الدهر عليه وشرب , وبعض الثوم وملح الليمون والزيت والملح وأخفيناهم جيداً بين الأعشاب عند حائط مؤسسة الاسمنت .

كنا في كل مرة لا ننسى البسملة  .. وكذلك لا ننسى أن نقسم بعد الشبع بألا نكرر الموضوع , لكننا سرعان ما نخلف بعهدنا .

في المرة الأخيرة كانت زوجة عمار نجيب – التي رأتنا أكثر من مرة – قد أخبرت زوجها بالقصة , ويبدو أنه أو أحد أقارب زوجته قد قرروا وضع حد لغزواتنا المباركة تلك .

كانوا يسكنون في منزلٍ صغيرٍ مقابلٍ تقريباً لسور حديقة بيت مهنا الخلفي ( في الشارع الذي ينتهي بمدرسة مهنا ) , حيث لم تكن حينها عمارته القبيحة الضخمة المطلة على البحر قد انتهت بعد .

صرخ علينا من بلكونه الصغير وهو يلوح بمسدسه ونحن نهم بالدخول , فلذنا بالفرار .

لم نعد بعدها قط .

كنا نجهل من الذي لوح علينا بالمسدس , ثم علمنا أنه عمار نجيب ابن أم عاطف " فاطمة مخلوف " .. أبو سمير الذي قال لنا هذا أعقب بقوله أنه مشروع لص كبير كأخيه عاطف .

عندما علمنا بهذا لم نستطع كثيراً فهم لعبه دور حامي العدالة أمامنا , ألم يكن من الأولى به التعاطف معنا كزملاء في المهنة , أم أن الحسد والغيرة من وجود منافسين محتملين له ولأقربائه في دولة البعث الممانعة هو ما دفعه للعب دور باتمان حينها .

..

أخشى ما أخشاه أن يأتي فيسبوكي جديد بعد جيلين أو ثلاثة ليخاطب أحفادي وأحفاد أيمن ومحمد ببوستات مطنطنة تبدأ بعبارة : يا أحفاد سارقي الجيجات .