اللحظة السابعة... لحظة وفاء !

اللحظة السابعة... لحظة وفاء !

آخر مُهمّة

ذ. جمال الحنصالي

[email protected]

أمال رأسه قليلا جهة اليمين وكمّش شفتيه الخاليتين من أي لون ثم عقف سبّابته وشدّ طرف عنق قميصه الأرقش حتى برزت صدريته المبتلة عرقا، ونفخ نفخات باردة سريعة ومتتالية صوب جسده الذي اجتاحه الحرّ، والعرق قدْ انهجم ماردا على جبينه الذي تتوسطه بقعة داكنة باحثا له عن مسار، راسما جداول مجهرية على وجهه الذي استعمرته تجاعيد رسمها الزمن هنا وهناك.

 فتح نافذة البهو التي كانت تقي آذانه من شر صيحات الساهرين الجالسين على جنبات الشوارع المنتشرين في قلب الأزقة المرسومة على الحي القديم. فاوضه الأمر بين الاستمتاع بالهدوء النسبي مع تحمل حرارة البهو الضيق أو فسح المجال للضجيج مع استدراج جزيئات من النسيم العليل الذي يتجول في الخارج علّه يهزم هجْمة الصيف القائظة. لم يتركْ نفسه أسير التفكير والاختيار، فانقض على مقبض باب النافذة معلنا حربا بين الحر والنسمات..

 تلطف الجو واسترخى الرجل ذو الستين عاما ويومين، استلقى على قفاه وفرّج بين رجليه، يتناظر شهادة تقدير يضمها إطار خشبي مزخرف، يتأملها بأسف عميق ممزوج بحبات من الفخر وقطعة من الاعتزاز مع شظايا ذكريات ما أحلاها؛ تحكي عن سنوات من العمل والتفاني والإخلاص، قضاها آيبا ذاهبا من وإلى المستشفى الكائن على ناصية الشارع الكبير المتاخم للحي الشعبي. كان رجلا واسع البلدة نعيم البال نقي السريرة بسيط القلب محبوبا لدى الناس، لا تفارق الابتسامة محياه، مهمته طرد العلّة من الأبدان وإيقاظ الأمل في النفوس ومحو الأوهام، وتخفيف الآلام وتضميد الجروح وفتك الأسقام..

 نطفتْ عينه فجأة وشيء من الفرح المنكسر يهز أركان جوانحه، إسْتَدى بيده المرتعشة إلى وزرته البيضاء المعلقة على الشماعة الخشبية، سحبها برقة الإحساس الرهيف التي يتأرجح كطفل صغير في قلبه المسنّ. ضم الوزرة إلى صدره ليشم بقايا روائح الأدوية والحقن.. معاتبا، في نفسه، الأيام الخوالي كيف مرت مرور الكرام غير آبهة بشعور رجل أفنى حياته في خدمة الشعب...

 وفي لحظة حاسمة، تحسّس الرجل الطيب جيب وزرته، وأثار انتباهه كائن ورقي يُصدر خشخشة إغاثة يبدو أنها رسالة منسية احتمت بحبرها وسطورها من شر القراءة في زاوية من زويا الجيب المريب، تنتمي لزمن تشاركتْ فيه مع الرجل أسرار المهنة، وتوقفت عن العمل وفاء له.

 أفرج الرجل عن الورقة لا بل الرسالة.. أي نعم.. هي فعلا رسالة، ومنحها الحياة من جديد كما تعود أن يفعل مع بني البشر... لم يكلف ذاكرته التي تعج بالأحداث عناء التذكر، فبمجرد أن قرأ رأس السطر الأول، استحضر صديقه "فريد" وتمثّل أمامه يقاسي لهاث الموت هامدا في صندوق الأموات.. برّق الرجل في الحروف التي خطّها الفقيد ومطرُ عينيه ينهمر، ولع الفراق كان شديدا، تذوق الرجل المتقاعد مرارته مرتين.

 نظر إلى الساعة الحائطية، ثم ارتدى ملابسه بعد أن سرّح شعر رأسه الذي اجتاحه البياض من كل جانب، لمّع الحذاء كما ألف، أغلق باب الشقة وامتطى دراجته النارية السوداء اللون من نوع بيجو..

 هو يعرف تمام المعرفة العنوان المدون أسفل الرسالة، يعرف الحي جيدا بل المنزل تحديدا لأنه يحاذي المدرسة العتيقة التي تعلم بها أولى مبادئ قراءة القرآن.

 دامت الرحلة على متن الدراجة المزعج صوتها ست دقائق، ثم أمسك بمقبض التشغيل وأسكت نباح المحرك المهترئ، واضعا كلتا رجليه على الإسفلت لشيخوخة المكابح.

 نزَل من فوق ماسورة المقعد المغطى بفروة كبش العيد، واتجه نحو باب الشقة، لم يتردد في الضغط على الجرس.. في الحال، فتحت سيدة في عقدها الرابع مضفرٌ شعرها تنظر إلى الرجل ونصف جسدها متوارٍ خلف الباب الحديدي، مدّ إليها الرسالة، قرأتها بعيون غارقة في دموع يائسة، متكسرةٌ تفاصيل وجهها من شدة الحزن... قاسمها الرجل ذو القلب المخموم ألمها وأنين جراحها، لأنه عارف بما جرى وما يجري أمامه، لقطات الأمس القريب نفسها تتناسل أمامه، لكن الآن بصيغة المؤنث. استلّ بحنان منديلا مطرزا من جيبه ومنحه إياها.. ستمسح عبرات الفراق الحارقة لكن الذكرى ستظل شامخة في الأعماق كجبل لا يتصدّع..

 لم يشأ الرجل الطيب أن يستدر جهة السيدة وأحسّ بغصّة تخنق أنفاسه المندفعة من الرئة صوب حنجرته المجروحة، امتطى من جديد دراجته النارية، وقد قام بآخر مهمة...

 وقبل أن يطأ برجله على بدّال الدراجة سمع حوارا أنثويا مائة بالمائة قادما من نافذة المطبخ في الطابق العلوي للشقة:

_ من يكون الطارق؟

_ إنه ... إنه جارنا يسأل عن كرة ابنه حسام يبدو أنه أضاعها ...

_ ماذا يحسب هذا الرجل؟ نبيع ألعاب الأطفال؟.. كل من أضاع شيئا عزيزا يفتش عنه عندنا.. أوووف احترقت الأكلة المفضلة لدى أبيك !! هل فكرت في موضوع الخطبة؟

_ نعم أمي، سيغيب بعض الوقت، لكنني سأنتظره...