عيون تلمع في الظلام

عادل السمري - القاهرة مصر

ليس لها في الكون بأكمله سوى الله, وخصاً شيدته بيمين حافة الجسر, وفتاة بلهاء وحيدة رزقت بها فى خواتيم  شبابها, وفتاتها هذه أوتيت ما عوضها عن نقص عقلها- وزادها هى كأم هماً على همها- فقد أوتيت قدراً من حسن الوجه وحلاوة التقاطيع, يأخذان الانظار .. ويلفتان الانتباه, ومنحت جسدا حسدتها أعين النساء عليه, وتمنته الصبايا الرائحين والغادين على الجسر ورغبه بشده الدنيئون من صبية ورجال الجسر.كانت تتقوت هي وفتاتها  من صينية نحاس كبيرة, تبتاع عليها بعض الحلويات والسجائر وعلب الكبريت, وكان يقصدها كل من له رغبة دنيئة فى رؤية فتاتها والتطلع اليها, وبعض الأخيار الذين يرجون من مساعدتها ابتغاء مرضاة الله, وهذا الأعرج قبيح الوجه الملئ بالبثور البشعة على انفه, ووجنتيه التي ما تلبث أن تجف حتى تعاود من جديد تنضح بالصديد والدم.

 كان شابا فى مقتبل العمر, طيب القلب, رحيم بفتاتها البلهاء, وحريص عليها حرصه على روحه.

 كان يتردد عليها كثيرا يجلس بجوارها, يسامرها, ويستمع إليها, وتستمع إليه, وتبثه شكواها وخوفها من أن تموت وتترك فتاتها وحيدة لا عائل لها ينهشها كلاب الجسر المارون بها نهارا والمتلصصون عليهما من فراغات الخص ليلا. وكان هو يطيب خاطرها, ويطمئن قلبها, ويعدها بأنه لن يسمح بذلك طالما حياه الله على وجه ارض الجسر, وان فتاتها في عينه.

كانت تصدقه, وتكن له حبا يعادل حبها لفتاتها, وكثيرا ما منت نفسها أن تزوجه اياها حتى تنعم بظل رجلا ولو كان هو الأعرج قبيح الوجه, فلما لا فله عاهة أيضا كفتاتها, وهى تعرف أن أهل الجسر ينفرون منه ومن عرجه وقبح وجهه وبثوره وكثيرا ما رفضوا تزويجه من فتياتهم, فلما لا تلم الشامى على المغربى وتزوجهما.

 حينما كان يجالسها كانت تتمنى أن تطاوعها الشجاعة فتفك لجام لسانها وتطلب منه أن يتزوج ابنتها لكن الشجاعة كانت تخونها فتلجم لسانها بالصمت

 

ذات يوم  تجرأ احد الصبية المراهقين  بالجسر واقترب من باب خصها ليلا ليتلصص على فتاتها وهى نائمة ربما ينال من جسدها شيئاً يراه فيشبع رغباته الشهوانية الدنيئة فالكل يعلم أن الفتاة أحيانا تتجرد من ملابسها حينما تأتيها النوبة أو (الطوفة) كما يسميها أهل الجسر وعندما اقترب من الخص وأزاح بابه الحطبى قليلا واختلس النظرات من ورائه.. انتفض .. وتملكه الفزع.. فقد رأى جسداً متشح بالسواد لم يتبين منه سوى عينان واسعتان تطقان شرارا يلمع في ظلام الجسر ..فأخذ ذيل جلبابه فى اسنانه وراح يجرى بما اوتى من قوة  والرعب يلاحق خطواته على الجسر.

وأتى الصباح وخرجت تجلس بصينيتها وبجوارها فتاتها تسترجع ما حدث بليلة الأمس, والدم يندفع في نفوخها فيصيبها بالصداع والدوار, إلى أن أتاها الأعرج كعادته فوجدها حزينة كل الحزن تتململ من الدوار والصداع. ألح عليها في السؤال عن السبب في تململها  هذا فقصت عليه ما حدث بليلة البارحة.

 أخذته الغيرة عليهما. ونظر لفتاتها بعيون حانية, وشفقه بالغة, ودعاها للدخول إلى خصها كي تستريح قليلا, وتترك له أشيائها يبيعها بدلا عنها, وتترك فتاتها بجواره, ولا تخشى شيئا عليها.

 نهضت مستسلمة لدعوته, وجلس هو يفكر فيما قصته عليه, وهداه تفكيره إلى أن الظهيرة لن تمر على هذا المتلصص الحقير حتى ينال منه ما لم يناله متلصص أخر حتى يكون عبرة لمن يعتبر, ولم يكد ينتهى من تفكيره حتى مر المتلصص من أمامه مع زمرة من المتلصصين أمثاله, فنهض الأعرج من مكانه وعينيه تحملان شر الآرض كله, وفاجأ المتلصص من الخلف بضربة يد هوى بها على رأسه فأفقدته توازنه وسقط على الأرض , وحينما تمالك المتلصص نفسه وحاول النهوض كان هو قد عاجله بلكمة في انفه قويه جعلته يهوى مكانه ثانية, وظل يركله بقدمه السليمة ويسدد له اللكمات حتى أبعده من كان قد تجمع من أهل الجسر وعلت الاصوات وزاد الصياح وخرجت هي على نهايات  الأحداث الجارية فلما رأت المتلصص أمامها غارقا في دمائه فطنت لما حدث وخلعت نعلها البلاستيكي وظلت تهوى به على رأسه وتكيل له السباب والشتائم, وفتاتها تتابع ما يجرى في بله.

اجتمع أهل الجسر ونصبوا مجلسا أمام خصها, وتناولوا ما حدث بالتفصيل وتناقشوا, وحققوا, وتفحصوا الأمر جيدا, وتداولوا الآراء, وانتهوا إلى أن يدفع الأعرج للمتلصص مبلغا من المال لقاء ما أحدثه به من إصابات, وان يحق المتلصص نفسه لها ولفتاتها وانتهى الأمر وانفض المجلس لكن ما حدث لم تنفض سيرته من على السنة أهل الجسر, وبدأ القيل والقال واتسخت الألسنة بسب الأعرج  مع البلهاء, وصارت الأقاويل كثيرة, والإشاعات أكثر لدرجة إنهم حبلوا البلهاء من الأعرج, وجردوا الأعرج من شرفه, ودنسوا شرف البلهاء, والصقوا القرون بام البلهاء.  حتى انقطعت أرجل الأعرج من أمام الخص تماماولم يعد يأتي كعادته وانقطع رزقها ولم تعد تجلس بصينيتها ولم يعد أحدا يرى البلهاء على الجسر. لكن الأعين لم تنقطع عن التلصص علي فتاتها من فراغات الخص, بل وصل الأمر بالمتلصصين أن تلصصوا في وضح النهار,

وعلى الرغم من أنها غادرت هى وفتاتها سرا مع الأعرج إلى بلدته التي تبعد عن الجسر بعد السماء عن الأرض إلا أن المتلصصون  مازالوا يقسمون بأغلظ الإيمان  أن وراء فراغات الخص عيون واسعة تقدح شررا وتلمع في الظلام.