لا تفتح هذه الرسالة

زبيدة هرماس

تقدم فؤاد نحو علبة الرسائل وهو عائد من صلاة الفجر، بدا له شيء أبيض يلمع بين ثقوب العلبة، فتحه فوجد رسالة تفوح عطراً، حملها ثم تساءل في نفسه: من أرسلها؟

ازدادت حيرته حين قرأ على وجهها "لا تفتح هذه الرسالة"!

... وبما أن الجو كان بارداً جداً فقد دسها في جيبه وصعد الدرج بسرعة، ثم دلف إلى غرفته والرائحة العبقة تداعب أنفه، خلع معطفه وجلس على سريره وفتح الرسالة وهو عازم على أن يهزم تردده، ففضوله لم يسمح له بعدم فتحها فوراً، ما إن أخرجها حتى ضجت الغرفة برائحة القرنفل والياسمين بنكهة عطر باريسي فاخر، إنها عبارة عن منديل ورقي صغير مضغوط بعناية فائقة ومكتوب عليه بخط متناثر:

- فؤاد، أنا سلوى، جارتك، أراقب خطواتك صباح مساء، دعني أراك وألتقي بك من فضلك، سأخرج من الثانوية الساعة الرابعة بعد الزوال، سأنتظرك أمام باب المؤسسة، أرجوك لا تتركني أنتظر، لا أصبر.. لك كل الود.. مع السلامة.

لم يكد فؤاد يقرأ تلك الرسالة حتى شعر بقشعريرة تملكته وهو يقرأ متمتماً تلك الكلمات الرقيقة، مد يده نحو وجهه ليداعب لحيته القصيرة فعلقت بها تلك الرائحة، ما زاد من تعلقه واشتداد نبضات قلبه وشوقه إلى استنشاق عبيرها كل حين، قرر أن يلحق بالجارة المعذبة ليخبر خطبها، هَمَّ أن يخرج أحسن ملابسه لذلك اللقاء، تردد حيناً وبدأت فكرة الاعتذار تراوده، هذا العطر الرائع لم يترك له فرصة للحسم، فأحس أن شيئاً ما يدفعه للمغامرة، هو يعرف سلوى جيداً، ولطالما لعب معها في صباه أمام حديقة البيت، سأل نفسه إن كانت بحاجة إلى مساعدة علمية أو ما شابه ذلك، قام يمشي خطوات في الغرفة، ثم أعاد فتح الرسالة برفق وكرر قراءتها مراراً، استلقى لحظة على سريره ولم يشعر إلا وهو يعفر وجهه بذلك العطر النفاذ، فهجمت صورة سلوى على مخيلته، أخذ ينتقل معها في خياله من مكان إلى مكان، ولم يلتفت إلا والساعة تشير إلى الثامنة صباحاً، أدرك أن وقت ورده اليومي من القرآن والأذكار قد مضى، وأن هذه أول مرة يغفل فيها عنه منذ أن توفيت والدته قبل سنتين، حمل نفسه بخفة نحو الدولاب ولبس أحسن ملابسه ثم خرج مسرعاً دون تناول طعام الإفطار، كانت المحاضرة في الكلية قد بدأت، تسمر في مكانه ساهياً دون تركيز، كل ما فعل أنه وضع يده على وجهه محاولاً استنشاق العطر الأخاذ، وود لو مكث في البيت يكرر قراءة تلك الرسالة الرقيقة ويستنشقها استنشاقاً، كانت الساعة تشير إلى الثانية عشرة حين ذهب إلى دكان صغير وتناول قطعة من الجبن والخبز، ثم صلى الظهر وطار إلى غرفته دون أن يشعر أخواته بحضوره، جلس على أريكته وتلقف الرسالة في جنون وأعاد قراءتها عشرات المرات، خرج قاصداً مكان الموعد مع سلوى في الوقت والمكان المحددين، أمام الثانوية ترقب أفواجاً من الفتيات يخرجن مندفعات، فصار يحملق فيهن كالمجنون، وكأنه يراهن لأول مرة، كأنه يرى في كل واحدة منهن سلوى التي ينتظر، بالغ في النظر – على غير عادته- وهو يشعر أن شيئاً ما لا يريد أن يتوقف بداخله، ود لو أنه أدار عقارب الساعة من فترة ليرى ما تريده منه سلوى، وما هي إلا لحظات حتى ظهرت سلوى أمامه، لم يصدق أنها تقترب منه، ولكنها هي بشحمها وعظمها، مدت يدها في حركة مذللة وابتسمت ابتسامة رقيقة وهي تتفرس في ملامح فؤاد وقالت:

- مرحباً، لقد كنت في الموعد تماماً، ما توقعت استجابتك بهذه السرعة.

- لماذا؟ رسالتك كانت لطيفة.

- علمت أنك ملتزم بدينك بشكل جدي، وخشيت أن تصدني وترفض طلبي، سمعت الكثير عن شخصيتك ونقلوا لي عنك أنك أصبحت متديناً متطرفاً، ولكنني... ههه.. اقتنعت أنهم كانوا على خطأ، سأثبت لهم أنك عكس ذلك تماماً، اسمع يا فؤاد، منذ زمن وأنا أراقب خطواتك إلى الكلية وإلى المسجد، ووددت أنك أنت الذي عرفت أول مرة وليس أخاك الذي اعتدى على شرفي وهرب إلى إيطاليا، صدقني أنت غيره تماماً.

رد فؤاد متأسفاً:

- لقد قضى عقوبته السجنية وأنا الآن أعتذر منك مكانه.

- اعذرني يا فؤاد، لم أستطع نسيان الجرح ولا أظن أن تلك السنوات قد محته.

- اسمعي يا سلوى، أنا هنا لا أعلم ما الذي تريدينه مني، هل من مساعدة؟

- لعلك ترفض صداقتي، أنا أتفهم عفتك، و.. و.. ولكنني بحاجة إلى أن تشرح لي العديد من دروس الرياضيات التي استعصت علي.

- حسناً هذا يسعدني، أرني ما وجدت صعوبة في استيعابه.

المقهى

- توقعت منك هذه الطيبوبة، وعلمت أنك تراعي حق الجوار، ولكن هل سنجلس هنا؟ لنذهب إلى أقرب مقهى؟

- حسناً، هيا إذن.

- مقهى الاستراحة مكان مفضل، لطالما ارتدته مع زميلاتي وزملائي، إننا نحتفل فيه أحياناً ونرقص، يعود الفضل للزجاج الغامق الذي يحجبنا عن الخارج.

- ليس لائقاً بفتاة مثلك أن تلج المقاهي من هذا النوع باسم الدراسة يا سلوى، تأكدي هذا ليس في صالحك.

- لا.. لا.. يا فؤاد، ليس الأمر كذلك، تفضل بنفسك وسترى.

مشى فؤاد قليلاً ثم لحقت به سلوى وهي تدله على المقهى القريب، وقبل أن تدخل أمسكت بيده فجذبته، أطرق رأسه قليلاً ثم شعر بالعرق يتصبب من جبينه، بينما ظلت هي تمسك بيده وتضغط عليها دون أن تأبه لأحد، كان المقهى متعوداً على تلك المغازلات، وغاصاً بالفتيان والفتيات في مشاهد مريبة، يغطيهم الزجاج الأزرق الكثيف بعيداً عن رقابة الوالدين والأهل، كثير منهم وضع كتبه المدرسية على الطاولة البلاستكية اللامعة وغرق في مداعبات طويلة، أخرجت سلوى كتاب الرياضيات وأحنت رأسها، فيما بدأ فؤاد يشرح معادلات اختلطت بنفحات العطر الذي ملأ غرفته بعد صلاة الفجر حين أصبح مؤمناً طاهراً، وها هو أمسى في هذا المقهى المشبوه ممسكاً بيد سلوى دون أن يتمالك نفسه، تشجعت وجذبته ليرقص معها ثم ارتمت على صدره وهي تشير إلى زميلتها التي سلمتها مفتاحاً وقالت:

- فؤاد يا عزيزي، لنذهب من هنا، لدي الكثير مما أحب قوله لك.

- لنذهب؟ إلى أين؟

- اتبعني وسنكمل الرياضيات فيما بعد.

الفاحشة

جذبته من قميصه، ثم نزلا السلم بسرعة وقصدا بيتاً في الطابق السفلي لعمارة صغيرة قرب المقهى، أدارت سلوى مفتاح الباب وهي تتغنج، ثم تبعها فؤاد والنشوة تغمره، وعندما دخلا كان الشيطان ثالثهما وأمسى فؤاد ينظر إلى عقارب الساعة كأنها تلسعه، لقد كانت تشير إلى التاسعة ليلاً وهو لم يصل المغرب والعشاء، استجمع قوته وشعر أنه ارتكب ذنباً عظيماً، أحنى رأسه وقال لسلوى دون أن ينظر إليها:

- لقد استدرجتني إلى فاحشة عظيمة، أشعر أنني أغضبت ربي، ولن أعود إلى هذا بعد اليوم.
ضحكت بسخرية وقالت:

- لن نعود يا عزيزي بالتأكيد، لن نعود.

- هذا ما قررته أنا أيضاً يا سلوى، ما الذي حدث لنا؟، ماذا لو توفانا الله الآن وهو غاضب علينا؟ يا إلهي.. يا إلهي أنجدني، لقد ارتكبنا جرماً عظيماً.

ماذا لو توفانا الله الآن وهو غاضب علينا؟ يا إلهي..

- لقد توفينا معاً يا فؤاد.

- توفينا معاً؟!! ماذا تقصدين؟

- أنا أحمل فيروس الإيدز! ألم يخبرك أخوك الذي دمر حياتي؟

- يا إلهي يا غافر الذنب وقابل التوب أغثني الآن، أيتها الحقيرة، لم أرسلت إلي تلك الرسالة؟

ردت وهي تكشر عن أسنان مصفقة لامعة:

- ألم أكتب عليها: "لا تفتح هذه الرسالة"؟

نظر إليها فؤاد ونار الغضب تحرق قلبه، لم يتمالك نفسه، فحمل شماعة نحاسية إلى جانبه وهوى بها على رأسها حتى فارقت الحياة، خرج مسرعاً ورائحة العطر والدم تلطخان يديه.