وطن وإن جار

كثيراً ما تقع قصاصة ورق في يدي، ألثمها بشوق وحنين، أسبل جفني على خيال حبيب، ثم أخفيها بعيداً عن عبث الأيدي.

صباح يوم نهضت بتثاقل، أخذت أرتب الأشياء، برزت قصاصة الورق، احتلت مكانها على صدري، قد تكون المرة المئة أو أكثر.. أوشكت أن تبلى من لهب شوقي لابني الذي هاجر إلى أمريكا ولم يعد.

أيُّ شيء بسيط يثير أشجاني، خط فيه ابني بيده جدول الحصص المدرسي، ألثمه، أشم عطراً خفيفاً، وكأنني أراه وألثمه للمرة الأولى، يلامس شغاف قلبي، يتمثل خياله في ذهني، ألمس أصابعه من خلال الحروف، أحس بحرارة كفيه، وصدى صوته يتردد في أذني.

في جو التذكر يظل بيتي غارقاً في الصمت، بين الجدران المرتفعة، تحجب الأشجار المحيطة به، كما لو أني لم أر أبداً أشجاراً كهذه مزروعة في حديقتي، لا أحس بالبهجة عندها إلا عندما تزورني أمي.

سأظل دائماً في حاجة إلى التعبير عن ذاتي، والتنفيس عن آلامي وآمالي، وأنا أعيش بين صمت الجدران.

أتذكر حين أتيت إلى المدينة المنورة أتأبط أولادي، في حالة من التوجس، والجفول من زحم الأحداث في الوطن، ولأتحصن بالعمل.

*  *  *

ضحى يوم ربيعي شذي، أفقت على خفق نبضات فؤادي، تتلألأ بحنين غامر يسري في داخلي، نظرت إلى الفضاء الواسع من خلال النافذة، رأيت غيمات تتهادى برفق، ثم تتناثر، بدهشة تساءلت:

إلى أين تسير؟

هل سترحل كأبنائي، وتتفرق في أمكنة بعيدة، بعد أن تترك آثارها في كل مكان؟

بتحسر قلت:

آه.. لم يبق إلا آثارهم في أشيائهم. يا ويلتي، لقد طالت غيبتهم.

طيف أصغرهم يلاحقني، لا يزال يحوم في البيت، يمر أمامي بخطواته الرتيبة، وقوامه الناهض، كأن لم يمض على سفره سوى أيام معدودات..

أعود إلى نفسي، وأنا أغوص في مقعدي، تعتريني رعشة مفاجئة، أدرك من خلالها أن الفراق صار بعيداً، وأيامي قاربت نهايتها، ولم يبق لي منها إلا زمن قليل.

تأملت اللوحات المعلقة بصمت فوق الجدران، كانوا في مرح، في سرور، أكاد أسمع أصواتهم وأشم عطرهم.. ولكن الكلام، أين هو؟.. أراني أعيش الآن في شحوب الكلام، وأنا هنا، وأبنائي تحت سماء أخرى بعيدة، ومشاعري موزعة على الأشياء بعد ارتحالهم، أسترجع في ذهني عفو الذكريات، تصل النوافذ المغلقة في مكان أنا فيه، بالنوافذ المغلقة في المهجر.. ارتحال، منافٍ، صياغة تجارب، وإكسابها طابعاً خاصاً.

آه.. ما أصعب الاغتراب!

كيف تسير أمور المغترب؟

لماذا يؤلف العرب المغتربون روايات، وقصصاً في المنافي، حتى صار لدينا حصيلة كبيرة في الأدب العربي المهاجر؟.. علينا أن نجد أجوبة لهذه الأسئلة.

لماذا يهاجر أبناؤنا؟

ماذا تعني الهجرة عندهم؟

أهي للتحصيل العلمي، ثم ليعودوا إلينا؟.. هذا ما نريده، أم هي للاستقرار، حتى يشعروا بحقوقهم تتساوى مع المواطن الأصلي؟

ما أكثر الذين يأتون إلى الغرب من بلدانهم!

من العجب أن نشهد تيارات الهجرة تتزايد يوماً بعد يوم من البلدان العربية إلى أوروبا، وأمريكا، وإسترالية وكندا إنها ظاهرة جديدة في عالمنا المعاصر.

ثمة ظاهرة نلاحظها وهي ظاهرة هجرة الروس من الجمهوريات السوفياتية السابقة إلى روسيا، وعودتهم إلى وطنهم الأم، فمتى يعود أبناؤنا إلينا؟

وثمة ظاهرة أخرى نلاحظها وهي توزع قلوب أبنائنا المهاجرين بين أوطانهم، والقارة التي هم فيها الآن.. لن أنسى ما قاله لي ابني في الهاتف ذات يوم:

- إن أمريكا غدت لي وطناً، ولكني في حنين دائم إلى موطني الأصلي.

*  *  *

أراني أتعذب، أمشي على رمال ذكرياتي الحارة، ويضيق بي البيت، ويحيرني معنى الاغتراب، مع الرغبة الشديدة في الابتعاد، والرغبة في التعبير المباشر عن مشاعر النفي، ولديّ الرغبة الشديدة أيضاً في الانطلاق بعيداً عن كلمات المنفى حين يضيق بي المكان، ويسكن بداخلي معانيها.

التساؤل يهيج أحزان قلبي، الشام أحب ربوع الدنيا إلي، وما تزال كذلك، لا أرى الجمال الحق إلا الذي يشبه جمالها، كل ما في الدنيا تقليد لها، ترابها أبهى إلى قلبي من كل الكنوز، لا أبيعه بذهب الأرض، حسبي أنه نبضة في فؤادي، وسيظل خفقة تتلجلج في كياني.

يرن الهاتف، صوت ابني، بحرارة أسائله:

- لا أدري يا بني، هل قدمت إلى أمريكا كطالب، ثم لتعود إلينا؟ أم هي رغبتك في الاستقرار هنالك؟

هل وجدتها ملائمة لتحمي نفسك، ومذهبك، ولو لفترة قصيرة من الزمن؟

هل تبدو لك أشد مناعة، وأكثر أماناً من وطنك؟

بصوت متهدج قال:

- أرى ذلك.. فقد كثرت الفتن، والقلاقل التي أضحت تفتك بالوطن، وتهدد استقراره.

صمت الهاتف، وعادت تحاورني التساؤلات:

هل يشعر أبناؤنا المهاجرون بأن أمتهم تنبذهم، وتتخلى عنهم؟

هل يقودهم شعورهم هذا إلى الذعر، والهلع، وفقدان احترام الذات، وهم يعانون الاغتراب عن الأهل والوطن؟

حكت لي إحدى الأمهات، أن ابنها في المهجر يعيش بأسلوب سلبي انسحابي بدرجة لافتة للنظر، ويصاب بالاكتئاب العميق.

كثير من الشباب الذين يهربون إلى الغرب من الفتن، يتساءلون:

هل الغرب أكثر بطشاً، أم أكثر عدلاً؟

*  *  *

بعد حصول ابني على الجنسية، أخبرني بقوله:

- أصبحت ابن أمريكا.

بهلع قلت:

- قتلت حلمي يا بني، أهكذا تتغنى بهذه العبارة، ونحن في صراع مع سرطان الاستعمار والجسد؟

ما أظنك كما تقول، إنك تعيش في دائرة اسمها الخوف، أليس كذلك؟

بهمس قال:

- بل في دوائر الخوف.

- آه يا زمن.. إنها أصداء العولمة كما في سفينة نوح عليه السلام، لا ألومك يا ابني، إننا نهرب من أنفسنا جماعات، وأمماً، فهاهي تركيا تتجه برمتها غرباً.

كيف تمضي وقتك وأنت في هذه الحالة؟

- تجتاحني رغبة في معانقة الطبيعة، حيث الفلوات الفسيحة، والغابات الكثيفة، أو عند نبع يتدفق، يذكرني هديره بهديري المكتوم، فأنصت إليه بتمعن.

المهاجرون يتدافعون من الأوطان، يمسكون بالأمكنة الجديدة، يظلون ينصتون، يتطلعون إلى هبة رحمة من حقوق حرموا منها في أوطانهم.. كل ما في البحر يغدو موجة عظمى، يظلهم هدف واحد، هو أن يصبحوا موجة كبرى في الأرض الجديدة، ثم تشرق الآمال في نفوسهم، وفي أيديهم هويات مكتسبة.

بذهول أتساءل:

هل يستمر الإشراق عبر المنافي، وعبر الارتحال عن الأوطان؟ شوارع جميلة، غابات رائعة، حقوق.. حرية مطلقة؟..

هل يذوب أبناؤنا في تلك المجتمعات، ويتحدون مع عناصرها؟ ما أظن ذلك.. المنسيات تستيقظ بكل تفاصيلها التي أغفلتها المشاعر، فالذكريات تتلاحق على امتداد العمر، وتولد مشاعر وقصائد، وتسجل أسماء الأماكن والبلدان، وارتحال عبر الفضاء الواسع إلى الأوطان، يحملون الأحلام، فسماء الأوطان أرحب في القلوب من السماء الجديدة، أسماء بلادهم ألذ، تهدي إليهم المحبة، والألفة، والبهجة، ثم.. القلق، واستحضار عالم جديد لا يزال عصياً على الحضور في رؤيا لا حدّ لها ولا نهاية.

بحيرة أتساءل:

هل الاغتراب يصقل الإنسان، كما تصهر النار المعدن، كي تجعل منه عنصراً أكثر نقاء؟

هل تختفي المؤثرات التي كونت شخصيته في وطنه؟

ماذا لو تخلى المهاجر عن مبادئه، وشعاراته التي انطلق منها؟ وبهلع أتساءل:

هل الغربة تجعل حياته تتراوح بين الرماد والورود؟

تعبت من التفكير، أراني أغوص في الرؤيا حتى تضيق بي العبارة، ولا يستهويني قرارة القرار من بلاد المهجر، والاغتراب التي تتفجر في صميم أعماق المهجرين.

كانوا في أوطانهم بسطاء، ولكنهم مراوغون كالقنافذ، مرهفو الحواس كالأطفال المأخوذين بالأشياء.

 فهل الحياة في المنافي رموز، أم أن منها ما هو شائك كالمسامير، وما هو أليف كالنباتات المنزلية، وما هو مرهف كالأسئلة؟

*  *  *

رسائل أبنائي تغريني بقراءتها المرة تلو المرة، فأرى الشعر عند أحدهم ولد دفعة واحدة وهو في منفاه يحتفظ بجذوره الأولى في ثبات، رغم أني أراه لم يبق على حاله منذ أن غادرنا.

سألته:

- لماذا؟

أجابني:

- لأنني أقوى من الموت، لي دفء الحياة.

- هل حياة الاغتراب موت؟

- أشبه بالموت.

- لماذا يا بني؟

- لأننا نحلم بالغد الأحمر، والدنيا لنا.

حيرتني كلمته، همست:

- ربما يفكر أبناؤنا المهجرون بأمور لا أعلمها.

صمت، ثم قلت:

- إنك تحلق بعيداً مع أحلامك المهاجرة، ومع رغباتك المكبوتة، أرى أسرارك بدأت تتعرى أمامي سراً تلو الآخر.

- أحياناً أكبح جماح نفسي بكل قواي عندما أستشعر ملامح الدهشة على وجهكِ.

بذعر قلت:

- كف عن هذا، أرى أسرارك مرعبة.

ضحك، أو توهمت أنه يضحك، وهو يقول:

- لِمَ لا تتغاضين عن بعض تصرفاتي، وأقوالي، وتتعاطفين معي بعض الشيء؟

بحزم قلت:

- لم أكن لأوافق بخنوع على كل شيء تقوله، كما لو كنت أحضن نفسي.. حقاً ما تقوله شيء تافه، أعرفك عنيداً، من الممكن أن أتحدث معك إلى الأبد دون أن تبدي أي جهد لتغيير نفسك.

بعجب سألني:

- هل حديثي عن أفكاري خطأ كبير؟

بخوف قلت:

- أرجوك كف عن هذا لأنني أخشى عليك، عندما تتحدث عن أفكارك أتصورها ترتسم على وجهك، بذلك التعبير الغريب، وأنت شارد الذهن.

- ربما كنت محقة، أنت تلمسين وتراً حساساً بداخلي.

- ألا تستطيع التغلب على أفكارك؟

آثر الصمت، كان يفكر بذلك الوضع الذي آل إليه، ثم ردّد على سمعي قوله:

- يا له من وضع جائر حكم عليّ وعلى أمثالي أن نلقى فيه، شيء غريب حقاً.

ارتسمت مشاعري على وجهي، عندما لامست أفكاره ذهني، ثم أسلمت نفسي لأحلام اليقظة، بدأت أحاورها، كان صوتي يرتجف في داخلي، وأتساءل:

كيف يمكن أن نعالج هذا الأمر؟

بهدوء انساب صوته عبر الهاتف، قائلاً:

- لم لا نقف في وجه الطوفان اليساري؟

هل سنكون نعاجاً يسوقنا اليسار؟

قلت:

- نستطيع عندما نحيي هويتنا الإسلامية.

أراد أن يغير وجهة الحديث، سألني:

- ما أخبار أبي؟

- لا نعلم عنه شيئاً.

- حلمت أمس بأبي الذي كنت أحتاج إليه، وما زلت أحتاج إليه، متى يعود إلينا، ليلملم أحزاننا، ويطارد الأشباح بين ضلوعنا، ويمسح دموعنا؟

إن الخوف يكبلنا يا أمي، يطوقنا في كل مكان، يحاصرنا بعيون لا نراها.

- آه يا بني، لا أملك من ذهني سوى صور، وأخيلة، وأوهام، وما من فكرة شوهاء إلا تعلقت بها، وظننتها واحة خضراء.

- إني أتوهج بنيراني فتحرقني.

- ......

- لماذا صمتّ يا أمي؟

لم يكن يدري أني أشرق بدمعي، وأغص بحلقي، ودموعي حيرى بين أجفاني، رضيتُ أم سخطتُ، وهو يسألني عن أبيه، ويلح بقوله:

- متى يعود أبي، متى؟

*  *  *

نظرتُ إلى لوحة معلقة على الجدار، تحمل صورة أبيه، غرست عيني بها، لاحت بارقة أمل في عودته، وومضة مرهفة، تذكرت حياتي معه ومع أبنائي، كانت ضجيجاً لذيذاً، ثم غدت من دونه ضجيجاً بلا حياة.

ويطل وجه أمي، تلومني قائلة:

- أين إشراقة الابتسامة يا ابنتي، والعافية، وبريق الشمس في عينيك؟

بتحسر أجبت:

- بعتها بالقلق، والألم، من أجل أفكار ضاعت، ثم ما لبثت أن أظلمت.

بحدة قالت:

- كلا لم تظلم.

- اغتراب أبنائي، وغياب أبيهم جعل حياتي ظلاماً.

بقوة عنفتني قائلة:

- احتفظي بهذا لنفسك، لا تنقليه إلى أبنائك.

- سأبقى أحلم، وألمس المستقبل البهيج بعيدة عن عيون الآخرين.

- هكذا الحياة فيها الحلو والمرّ.

تابعت قائلة:

- مالي أراك متوترة دائماً؟

- أجل، وصلت إلى درجة يمكن أن أثور لأتفه الأسباب، فتزداد لديّ حدّة التوتر.. أرجوك لا تعنفيني بقسوة.

بدا على وجه أمي الحيرة، وبدوت في غضبي فاقدة الحس.. أرسلت نظراتي خلال زجاج النافذة، كانت الشمس وقت الغروب، أخذت بيد أمي وأنا أقول:

- هيا نستمتع بمنظر الشمس، حيثما تتوسد الغيمات الوردية، وتجذب رداءها تلتحف به في أحضان الأفق.

شقّ السكون في الحديثة أصوات الطيور تودع النهار بزقزقة سريعة تنادي فراخها.. جلست تحت الشجرة أتأمل، أسمع، أناجي في سرّي، لم أحس بخروج أمي من الحديقة وأنا في ذهولي، اختلست فترة خروجها لأكتب رسالة إلى ولدي.

بنيّ:

قلت إنك أصبحت أمريكياً.

يا طيراً مهاجراً، البحر هو البحر، الأرض هي الأرض، والغدران هي الغدران، وبالرغم من ذلك تودون أنتم الشباب أن تمضوا إلى مدن غريبة، فيها الصقيع، والأغاني المزهرة، وأبواب شفافة من زجاج، تجري في غرفها ضفائر العتمة، وأغنيات، هل هي للوطن أم للآخرين؟ أم أنك تبحث عن أفق جديد في تجارب إنسانية جديدة، وتفاصيل لا تمت إلينا بصلة؟

سرعان ما قادتك إلى تحقيق فكرة الرحيل؟

تمضي الأيام، ويأتيني الجواب.

يا أمي:

الرياحين في المهجر لا تشبه الرياحين في وطني، البحر غير البحر، والغدائر، والطير غير الطير، والظلال غير الظلال، وأبوابنا غير الأبواب الشفافة المفتحة، والريح هنا تتلاعب في الغرف.

آه يا أمي:

الأشياء في الوطن لها طعم لذيذ يسري في كياني، يهزني بقوة، كغصن حزين تنثر الريح أوراقه، وترحل بها بعيداً، إلى وطني الحبيب.

متى الملتقى فيه؟

أتبقى ذكرياتي غريبة عنه؟

صوتي يختلج بالأنين والحنين، الغربة قاسية، لا أقدر أن أخفي ملامحها على وجهي، يزيدها الحزن نضجاً، يبصرني بالذكريات الصغيرة، يجعلني أتوحد معها، لتوحد اغترابي عن وطني، فياخوفي أن أبقى غصناً مقطوعاً في شجرة، أنا فرع يتطلع إلى أصلة، ويبقى مصيري في المهجر معلقاً في لا شيء.

كتبت إليه:

- وأنا يا بني شجرة قطعت فروعها، أبحث عن أطيافها بين الأشياء، في الصالة، في دفاتركم، خلفتها أنت وإخوتك، في كتب تركتموها، صامتة أمام عيني، ثابتة في أمكنتها، باهتة، نابتة بالحكايات ناطقة بصدى الكلمات.

بمرارة أتساءل:

كم ستدوم غربة الفروع المقطوعة؟

أتبقى مسكونة فيها، مقطوعة عن سرّ الشجرة، ترتعش كل مساء في غير هوائها؟

إلى متى سيدوم الانقطاع عن الجذور؟

متى يحضر الغائبون؟

*  *  *

أمي:

- ما أصعب الابتعاد عن الأصل، والحياة في أرض غريبة تحت سماء غير سمائنا، وفي سجن كأس ماؤها محبوس عن ينبوعه المتدفق بإرادته، أو بإرادة القدر، أرى إرادتي ماثلة في البقاء الصامت في غير هواء الشجرة، بقاء ثابت، باهت، بلا نمو، في زمان مديد.

*  *  *

ستبقى يا بني مرتعشاً في داخلي، وسأبقى مرتعشة أمام الأشياء المعلقة على الجدران، وفوق الأمكنة، تحمل عطرك، وعطر إخوتك، تخفي حركاتكم دون صراخ أو ضجيج، وأنتم في تجربة الاغتراب، والانقطاع عن سر الشجرة، عن عصارة الحياة تحت سماء الوطن.

*  *  *

إيقاع السنوات الممتدة تتسارع، مرآة تريني تحولات حضور الذكريات ومتغيراته في الليالي كلها، وتبقى صورة الفروع المقطوعة ثابتة لا تفارق ذهني، ويبقى بيني وبينها بحار وقارات شاسعة، وبيني وبينها قبر ينتظرني، وبيني وبينهم واحة خضراء مفتوحة، يمر بها الهواء الرطب يؤرجحني، ويقبل علي الليل يهدهدني، ثم يضمني الفجر، ويسقي جروحي الظمأى، ويبقى النهر بخيلاً، وتدخل الشمس من شباكي.. فكيف أغلق الشباك، والأصوات تأتيني، تصفعني بلا كف، تحشرج روحي، ثم تلقيني.. ولا يسمع همسها، ولا يحس بسرها سواي.

وتظل الأشياء ماثلة أمامي، دلالات على الطير المهاجر، على الفرع المقطوع، على ذكريات الطفولة، على الرعشة الأولى.. وعلى امتداد أزمان الاغتراب.

يا ويل زمني!

طال بعاد أبنائي عن الشجرة والوطن.

هل نسوني، ونسوه؟

هل يتذكرون أوائل خطواتهم؟

هل نسوا الحكايات في الأمسيات قبل أن يغفوا؟

مالي أرى أمسياتي تزداد وطأتها كلما أوغل الظلام، يبعثني على تذكر الموطن البعيد، والسماء الأولى؟

كل نسمة ها هنا أحسب فيها نسمة من هنالك.

*  *  *

ما يزال أبنائي هنا في البيت الذي ضاق بأحلامي، حتى ليخيل إليّ أنهم يسكنون في أشيائهم في الغرف، والصالة، في كل مكان، بدهشة أتساءل:

هل غدت الأحلام جامدة، أم هل ماتت؟

دفاترهم، أمشاطهم، جداولهم المدرسية، خفاقة البيض التي أحضرها أحدهم في يوم الأم، أضحك، وأسائل نفسي: هل أحضرها حباً بي، أم حباً بالكيك؟

الأشياء حولي صامتة، لا أيدي تحركها، لا حياة تنبعث منها، أصبحت مجرد ذكريات توقظ المشاعر، وتبعث الآمال.

كم كانت الأشياء تحرك أحاسيسهم، ثم حين مضوا إلى ما وراء البحار همدت، رحلت الأيدي التي كانت تحركها، أصيبت بالخرس، لا ضجيج فيها، ولكن بقي الضجيج في نفسي وحدي، يخطف بأمواجه ذهولي، يجعلني كريح صاخبة، كرعود قاصفة، كمطر هاطل.

هل يحس بصخبي، وقصفي من أحد؟

كل مشاعري تجيش، وهواجسي تهطل، وأنا أرنو إلى فروعي المتناثرة في أصقاع الأرض، أتلوى على أشواك آلامي، وقطرات المطر تنساب على زجاج النافذة، أراقبها، أعدها إلى أن تفقد بريقها أمام أنوار الفجر.

تعبت من السهد، غبشت الدموع عيني، سرى الصقيع في أطرافي، وصدري يرتعش من الشوق، وألم البعاد.

هل أستسلم هكذا لمشاعر الحزن، وألم الفراق؟

هل أستطيع أن أقاوم عاصفة النحيب؟

دعوني يا مهجة روحي أحيط أخيلتكم بذراعي، أخنق صخب نفسي، وضجيج الذكريات، علي أخفت شجني في صدري.

أنا وحدي.... وحدي مع مشاعري، أصارعها، تصارعني، لا يحس بي من أحد.

صوت خفي يناديني:

أمهات أمثالك، لا تدرين عنهن، يعانين ما تعانين، يشاركنك أحاسيسك في هذه الأرض الواسعة.

*  *  *

لا أدري، كم مضى من الوقت وأنا ألصق وجهي بزجاج النافذة، وقلبي يرتجف، ورأسي بين كفي، أضغط على الضجيج المنبعث من أذني، إنها أصداء لأصوات بعيدة الزمن.

هدأت طرقات المطر على الزجاج، سرى في أعماقي صوت دافئ حنون، بدهشة يسألني:

- أما تزالين يا أمي تعدين حبات المطر، وترحلين في الفضاء الواسع؟

دعي التفكير، استريحي.

بحب منهمر قلت:

- إذاً أنت معي يا بني، لم تغادر الغرفة كعادتك في طفولتك، إذ كنت تجذبني بثوبي إلى السرير، وتغفو على حكاياتي.

تصورت خياله وهو يمسح الدموع عن وجهي، نظرت إلى قطرات المطر وهي تنافسها في الانهمار، وصوته الرقيق يناديني:

- أرجوك، كفي عن البكاء، لا أطيق أن أرى عينيك باكيتين، ولا أحتمل رؤية تعذيبك من أجلي.

هتفت:

- أعرف أثر ذلك في نفسك، كنت تضم ذارعي إلى صدرك، ترجوني أن أكف عن البكاء، وقد أوشك يوم سفرك على الاقتراب.

قلت في ذلك اليوم:

- قد تطول الغربة يا ولدي.

كنت تبتكر الأعذار لتحملني على الهدوء، تنكت، تضحك، عسى أن تبدد مخاوفي.

*  *  *

رن الهاتف، صوته ينساب من أعماق الآفاق البعيدة، كأنه يدرك أن الأحزان تعاودني، إحساس جمع بين روحينا، سر من أسرار الإله… لم يسألني شيئاً يعرف أن الهواجس أكبر من أن يستطيع تبديدها بمجرد الأسئلة المألوفة، والكلمات التي تسري عن نفسي.

بكلمات متقطعة بنشيج يفيض بالدموع قال:

- لا أدري، ما الذي يصدنا نحن الشباب المغتربين عن الرجوع إلى أحضان أوطاننا، وأمهاتنا؟

وكلما همَّ بالانطلاق في الحديث أكثر، خنقتني العبرات، وفي حنان أحثه على الإيمان والصبر، وترقب الفرج.

- ستفرج إن شاء الله، وستفرج باللقاء، ونقضي أياماً سعيدة في الوطن.

- وأنا أنتظر، وأرقب، وأحلم بالعودة.

ثم بفتور قلت:

- كغيرك من المهجرين في المنفى، أليس كذلك؟

بحماسة قال:

- الإشاعات تنتشر أن سنعود قريباً، سنعود.

في همس قلت:

- ثم تذوب الشائعات، وتمضي الأيام، وتقفل الآمال أبوابها.

لم ينبس بكلمة، يعلم أنني أعاني من الهم والقلق، ما لا يقل عن معاناته في الغربة.

بصمت تساءلت.

هل المسئولون في الوطن يقدرون مشاعر الأمهات، والأخوات، والأبناء؟

أليس من العار أن يتخلى الوطن الحبيب عن الكثير من أبنائه، وتصادر بيوت آبائهم، ويشردون عبر البحار والقارات، ويستجدون حقوقهم المهدورة؟

ما الذي اقترفوه؟

كلما أطلقها الآباء، فيها جراءة في الفكر، والرأي، فإذا هي كرصاصات تصيب قلوب الأمهات والأبناء.

أليس ذلك منتهى الظلم؟

طال صمتي، وإن كان في وجهي المحتقن، وعيني الدامعتين ما يعبر عن الكثير مما أريد أن أقول.

بذعر تساءلت:

هل يمكن أن أحقد على الوطن؟

اعتراني الخوف:

لا، لا، الوطن حب منهمر، ذكريات، حكايات، أهل، أحباب،… لكن ماذا أقول، وصدري يفور بالغضب على الأيدي، وهي تكم الأفواه، وتصادر الحريات. وتلقي بالأفكار البناءة في غياهب السجون؟

ثم في رضى، أحمد الله أن لم ينل أبنائي سوى التشرد، والشتات، أراه أهون وقعاً من الفتك، والتعذيب.

أفكار تداعت إلى ذهني، كمن يفيق من إغماء طويل، أو ينهض من غيابة جب عميق، تنبهت، تساءلت:

لم الحزن والأسى؟

ابتسمت حين عاودني التذكر:

لأن أولادي كانوا في رغد من العيش، والآن يكدحون، حياتهم في كنف أبيهم إن هي إلا مرحلة من العمر، وحياتهم في المهجر هي كل العمر.

وبأسى قلت:

ونحن الأمهات، ما مصيرنا في فلاة الحياة؟

صوت من أعماقي اخترق أضلعي:

استمتعي بأيامك، انظري إلى السماء تكللها الغيوم، لم تزل بعد بالخير.

*  *  *

أقبلت أمي لزيارتي، كانت دائماً سلوتي، ما كادت عيناها تقعان عليّ حتى ذهلت، نظراتها تسمرت في وجهي، لم ترني بهذا الشكل كما تراني الآن، خطر في ذهنها أن أمراً رهيباً قد وقع، نظرت إليها أتكلف الابتسام، وقلت أطمئنها:

- ليس بي من شيء، كل ما في الأمر أن الشوق لأبنائي يجتاحني، وقطرات المطر أثارت أشجاني وعبراتي… انظري إلى هذه السحب، إنها في انهمار مستمر طوال الليل، سهرت معها، ومع قصف الرعد، تذكرت ماضياً سعيداً مع أطفالي في الوطن فبكيت.

في بهجة قالت:

- لقد أصبحوا شباباً، يعتمدون على أنفسهم، دعيهم يا ابنتي بحالهم.

هززت رأسي، وباستنكار قلت:

- هل أقدر أن ألقي بقلبي في سلة المهملات؟

- طبعاً، لا، ذاك أمر صعب، ولكن تسلحي بالصبر والإيمان.

هدأت من روعي، قبلتني، مسحت بحنان على رأسي، ثم نهضت وهي تهمس في أذني:

- إنني في أشد الجوع والبرد، هيا نطبخ شيئاً من الحساء.

بأسف قلت:

- كيف لم أنتبه؟

ثم سألتها:

- هل تعلمين متى يكون الإنسان ميتاً؟

ربتت على كتفي، وهي تحثني على النهوض، وتقول:

- قفي أمام مرآة الذات، وكوني وفية لذاكرة الأيام الماضية، الحب وحده يهزم الموت.

- سأكتب، الكتابة هي الحياة.

- شيء رائع، وستعلمك الحياة الصبر، والمثابرة، والإرادة القوية... شققت طريقك في البدء، فلم لا تستمرين؟

زفرت وأنا أقول:

- لقسوة القلوب، والعقبات.

- بل ينبغي أن تزيدك إيماناً على إيمان، حاولي أن تتغلبي على همومك.

رفعت يدي، وفي دعاء قلت:

- يا رب، لا أسألك أن تخفف من همومي، ولكن أسألك أن تقوي من عزيمتي، فالضربة التي لا تميتني، تزيدني قوة.

بنصح واتزان قالت:

- أعطيت اهتمامك لأبنائك، إن حاجة الإنسان إلى الشعور بأهميته تدفعه دوماً إلى تحميل نفسه تبعات ومهامَّ ينوء بعبئها، ويئوده النهوض بها، فيغرق في بحر من القلق، والاضطراب.

وضعت كفي على يدها، وبحرارة قلت:

- رجاء لا تلوميني، دعيني أطلق دموعي، أخشى أن يحبسها الصبر، أدرت رأسي يمنة ويسرة، وبهمس سألتها:

- هل فرضت المحنة التي حلت بنا، أن نترك وطننا إلى غيره، حتى نظل في الغربة دائمي الحنين إليه، وفي مشاعر رقيقة؟

ثم قلت:

- ألتقي بمعتمرين هنا، في المدينة المنورة، قادمين من بلاد الشام، أُقبل إليهم متلهفة، أسائلهم، أذكرهم بنفسي الغريبة، ويعودني الشجن برؤيتهم، ويجفو النوم أجفاني.

ريح الصبا حين تهب أصيح:

إنها من وطني، فيا شوقي إلى وطني.

سألتني أمي:

- لم الشعور بالغربة وأنت في مدينة رسول الله، بين إخوان ، عرب ومسلمين؟

- كل شيء في الشام يختلف، ماؤها أعذب، شجرها أبهى، عطرها أشذى، ما أجمل قول شوقي:

وطني لو شغلت بالخلد عنه   نازعتني إليه في الخلد نفسي

*  *  *

ينتابني هلع حين أسمع صوت أصغر أبنائي في الهاتف، يمر على مشاعري فيهزها بخوف وشوق، أثرت الغربة عليه، يمني نفسه باللقاء، لقاء الطفل بأمه، أودعته الله، وإخوته في غربتهم، أدعو الله أن ييسر عودتهم.

ما كان باختياري أن يغتربوا، ولكني وافقتهم على ما يريدون، أذوب شوقاً إلى طلعتهم.

بإلحاح أسائل نفسي:

متى تعود الطيور المهاجرة إلى أعشاشها؟

أهكذا حكمت الأقدار عليها بالاغتراب؟

قلوب الأمهات تروي أحاديث الشوق، وعيونهن تتيه في الروابي والسفوح، تبحث عن ظلال الأبناء والأصحاب، ليجددن ما مزقت الأزمان.

قرأت في إحدى رسائل أبنائي:

لا عيشة في المهجر ترضينا، ولا الدنيا العريضة فيها تغرينا، وأنفاسنا ممزوجة بالشكوى والحنين، إننا في الغربة نبيع شبابنا بالشقاء.

بسخرية ومرارة ضحكت، وأنا أتصور نفسي قد رجعت إلى الشام، متلهفة إلى لقياها، والوطن يتأمل وجهي، ويتساءل:

- من الآتي؟

أقول:

- ألم تعرف يا وطن وجهي القادم الفرح، المتهلل بلقاك؟

- أجل، ولكن الزمن هضم جسمك، وبدل قسماتك بعد غربة نائية طويلة.

- أعلم، سأعيش فيك يا وطن في غربة ثانية، أرضى بها، أجدد العهد لك، وصوتي يردد مزغرداً:

حلوة يا بلدي حلوة.

ما أعذب أبيات ابن الرومي، وهو يعلل أسباب الحنين إلى الوطن، ويثير مشاعر الحب، بقوله:

ولـي وطـنٌ آليتُ ألا أبيعَه       وألا أرى غيري له الدهرَ مالكا

وحبَّبَ أوطانَ الرجال إليهمو       مـآربُ قضّاهـا الرجالُ هنالكا

إذا ذكروا أوطـانَهم ذكرتهمو      عهودَ الصبا فيهـا فحنّوا لِـذلكا

وأنا في غمرة الشوق نظرت إلى نحلة في إحدى الضواحي نائية عن أخواتها النحلات، هيجت أشجاني، بحزن قلت:

هي شبيهة بي في التغرب والنوى، وطول البعاد، آه يا نحلتي:

هل أنت مثلي تشتكين البعاد والمنتأى؟

هتفتُ:

ما أجمل مرابع الطفولة، في مروجه، وغوطته، ونواعيره، وبحره!

ما أعذب ذكرياتنا في صبانا!

كل عيد أبكي، العيد يثير لواعج الحنين.

لا تلوموني يا أحبابي، ليس على الغريب ملامة.

الغربة سيف فتاك.

صوت أمي يعنفني:

- عجب، وأنت في مدينة رسول الله تكثرين من الأنين والحنين؟

- الوطن وإن كان بلقعاً هو عندي أحب بقاع الدنيا، وألصقها بنفسي، وأجملها في عيني، ناسه أكرم ناس، ونجومه أسطع الكواكب.

بلهفة أتساءل:

هل تنسيني الأوطان والبلدان وطني وبلدي؟

قالت أمي:

- لقد اعتل وطننا في ذلك الزمن.

قلت:

- وهو شافي العلل.

قالت: نزلت محنة به، أرغمتنا على الارتحال، والاغتراب زماناً يطول أو يقصر، تبعاً للظروف، والملابسات المحيطة به، والمؤثرة فيه.

- أعلم، وجردونا من ممتلكاتنا، فاغتربنا في سبيل العيش، وكسب الرزق.

بهدوء قالت:

- الاغتراب قديم قدم الإنسان، كان العرب منذ أقدم العصور الجاهلية يرحلون من مكان إلى مكان، ويغتربون من أرض إلى أرض.

قلت:

- لأنهم أهل بداوة وارتحال، لا أهل حضارة واستقرار، كانت ذكرياتهم بأوطانهم الأولى تحملهم دائماً على الشوق والحنين إليها، ما داموا مغتربين عنها.

- وكانوا يبكون على الأطلال.

قلت:

- ونحن، ألا يحق لنا أن نبكي، ونستوقف أمثالنا المشردين؟

قالت بضيق:

- حيرتني، ماذا أقول لك حتى أهدئ من روعك؟

قلت:

- غربتنا عن الشام طالت، طعمت نفوسنا بلون مميز، أثارت فيها لواعج الحنين، أمدت ألسنتنا بفيض غامر من التعبير، ووصف آثاره في نفوسنا.

قالت:

- أنت محقة، الاغتراب يثير الذكريات، ويهيجها، ويلذعها بالألم.

قلت:

- هل تبتل عروقنا بالعودة، ويفرح باللقيا بعد طول الغياب؟

هل نلقى الأحبة ونسترجع ذكريات صبانا، ونجول في الغوطة، والروابي، ونشرب من بردى والعاصي، ونغرز أقدامنا في رمال الشاطئ؟

بتضجر قالت:

- كفى، لا ترحلي بعيداً بخيالك، عيشي في الواقع.

قلت:

- دعيني أعبر عن حبي، وأحلق في سماء سورية، أم أن الأقدار قد قضت علينا بدوام الاغتراب؟

قالت:

- ما أظن ذلك، تفاءلي.

ضغطت على رأسي، يكاد ينفجر، أتذكرهم، أصغرهم هاجر إلى أمريكا، وبعضهم إلى أسترالية، فمتى تسعدني الأيام بعودتهم إلي، ثم إلى الوطن الحبيب؟

بألم قالت:

- إنك تعذبين نفسك.

قلت والدموع تنهمر على وجهي:

- لقد تحملت من الفراق الكثير، وذقت أفانين العذاب، هل أفتح عيني وأجد نفسي في الشام مع أبنائي؟ هل يمكن أن يتحول الحلم إلى واقع، إلى حقيقة؟ هل نعود إلى العش الذي أظلنا؟

بسخرية قالت:

- روحك تدغدغها موسيقى الأحلام.

- هل تصبح الأحلام أوهاماً؟

أما آن للمهجرين المغتربين من أبنائنا أن يغادروا في أوطانهم؟

بفتور قالت:

- هناك بارقة من أمل.

- أرجوك، حدثيني عنها، هل تعلمين شيئاً تخفينه عني؟

بهمس قالت:

- لقد أخطأ المسئولون في أرضنا، و…

بجدية قلت:

- الخطأ طريق إلى الصواب أحياناً.

*  *  *

أبى الليل إلا أن يبارك أشواقي، ويصغي إلى شكواي، ويسري الشجن بين جوانحي،... تبلبلت به روحي، سرق شعاع البدر النوم من عيني، وعيون النجوم ترعاني، ثم صافحت عيناي خيال أحدهم، وهو يخطر في غرفتي، وتشرق منه دنياي، قدمت لذة الكرى ضحية لقائي به.

فهل تبقى من حبي لأبنائي سوى إحساسي المرهف بوجودهم معي؟ يجعلني أتقلب على النيران، أصطلي بها.

آه... البعاد نيران، خيالهم يسمو بوجداني، ويوحي إليّ بحوارات تطول، ويلهمني الشعر ألحنه، وتدغدغني نشوى تهزني، وتملأ أجواء حياتي بذكراهم، وتمسح أحزاني وآلامي... ليس لي إلا هذا أسى، ورضى، أرضى به، أواسي نفسي، تزودني الألحان من فيضه.

الغربة نغمة حزينة أترنم بها، يفيض منها الإحساس، وتبقى منهلاً عذباً يتدفق بوهم عطر اللقاء.

حسبي من أبنائي أني أتنعم بظلال هواهم، وأسرح بجذل حين أسمع هتافاتهم، فتموج في صدري خطرات الحنين، ألا يكفي أن ناظري خلا من شخوصهم؟ فيا عجباً للدهر، أبعدهم واحداً إثر واحد.

تعكرت مشاعري، إلهام في داخلي يدعوني إلى حظيرة الإيمان، عساي أن أعود إلى النقاء، أتخلص من تموجات الأفكار وهي تظلني كالظل، أقبع تحتها بلا هوية.

ضاعت هوياتنا، نرانا نكثر التساؤل عنها، لشد ما نحتاجها في مواجهة الشتات، بغرابة أتساءل:

متى يكون لأوطاننا خطة شاملة تجمعنا؟

يا خوفنا أن نبقى هكذا مسلوبي الهوية!

كتب لي أحد أبنائي:

- أنا مهاجر يا أمي لا أهدأ إلا بالموت.

لبثت أتأمل هذه العبارة، لماذا يفكر بهذه الطريقة؟

قال:

- العالم بدأ يطاردنا من قارة إلى أخرى.

قلت:

- يا حسرتاه، وأوطاننا تشتتنا.

*  *  *

لججت في ذكراهم، وطالما بعث اللجاج في النشيج، لقد طال انتظاري، متى يأتون ليكونوا ضياء لعيني ونوراً؟

هل البعاد جعلهم يجافونني؟

أأحقد على الفراق، أم على من كان السبب في الفراق؟

أم هي الأقدار سرقتهم مني؟

لست أدري... أنا في حيرة.

عادت بي الذكرى إلى عشية سفر أصغرهم، وفيّ يضمر الحزن لفراقه، تساءلت:

هل سأبقى حتى أدرك رجوعه ثانية؟

الهواجس ترعبني، لا شيء مما كان بقيت بشاشته، ابتعد الأبناء، اغتصب البيت والحقوق، ماذا بقي لي؟

هل كان سفرهم مغامرات لهم؟

من لي برفيق حيرتي وقلقي؟

الهاتف رفيقي، قلت لابني:

- يأتيني طيفك يا بني، وقد ضننت بزيارة، والشقة قد بعدت بيننا.

الأيام تمضي تباعاً، وأنا أدير في ذهني كلماتكم التي أسمعها عبر الهاتف، أو في الرسائل، أقلبها على وجوهها الكثيرة، أتلمس من خلالها صوراً عديدة، أوهم نفسي بسعادتكم حيناً، وحزنكم الشديد على فراق الوطن والأهل هيناً آخر.

*  *  *

كثيراً ما تسألت:

لماذا يقتصر على الحديث معي بالهاتف فقط؟

لماذا لا يجيء لزيارتي؟

أربعة عشر عاماً لم يطل علي بوجهه الحبيب.

طال الغياب، ضاق صدري، وقل صبري، قلبي بشوق إليه، يداي تمتدان، تقبضان على خياله في الهواء، ثم ترتدان خائبتين، عيناني، شفتاي، كل شيء يشتاق للمسه، لتقبيله، حناني يزخم في داخلي، أريد أن أفيض به عليه.

بحيرة سألت نفسي:

كيف أستدرجه للمجيء؟

اتصل بالهاتف، بجلد تماسكت، سألته:

- من المتكلم؟

- ألم تعرفيني يا أمي؟

- لا. لم أعرفك.

- أنا ولدك!

- ....

أغلقت الهاتف.

عاد الرنين، وعدت إلى نفس الطريقة، كرر المحاولة، فما وجد غير الصدود، كتمت لهفتي، ودفأ مشاعري، كانت أمي تراقبني، ذهلت من تصرفي هذا، أرجعته إلى قساوة قلبي.

قلت:

- ليس بي قساوة، ولكنه استدراج.

لم أشك بالقلق الذي ينتشر في نفسه، وعلى وجهه، والاضطراب في عينيه.

أدرت حواراً مع نفسي:

إن جاءني، هل بإمكاني التعرف على وجهه بعد غياب أربعة عشر عاماً؟

هي ما يزال وجهه يحتفظ بابتسام البدر في لون الورود؟

آه.. ما أقسى الحياة!

*  *  *

انزويت في ركن قصي من صالة المطار، أراقب الزحام، وألتقط الهمسات، كلنا في حالة انتظار،... ثم يطل حبيبي ولدي بقامته الناهضة، ووجهه كالبدر في لون الورد، وعيناه تتفحصان الوجوه، وهو يستحث الأمنيات.

بلهفة المشوق سبقتني خطاي، والفرحة تطفر من عيني، واللهاث يشق صدري، إنه هو، هو بعينه.. شققت الزحام في لحظات يسيرة، وكان بين ذراعي أحتضنه، ودموعي في انهمار.

لست أدري من أين كانت تنطلق الزغاريد، ضجت الصالة ببهجة لم أسمع أندى منها، وأروع.

في ألم قال:

- آلمني صوتك على الهاتف، هلعت يكاد قلبي ينفظر من الخوف، كنت أبكي بكاء الثكالى، وفي أحلامي رأيت طيفك يحملق من بعيد، يدعوني إلى المجيء إليك.

سنستعيد الذكريات، ونقاوم الجراحات العنيدة يا أحن الأمهات، وأرق الكائنات، ونلملم أحزاننا، ونطارد أشباح الاغتراب بين ضلوعنا، ودموعنا.

كانت عيناه تترقرقان بالدموع، وهو يسأل:

- متى يفيق الوطن، ويطلع صبح جديد؟

- سيفيق، وسيطلع فجر جديد بإذن الله.

بهمس سأل:

- هل عاد أبي؟

- فقط، أنت الذي عاد.

- فمتى يعود؟

- إنني هنا أرعى الوعود الزائفة، والصدر يكبله الأنين، ويهيجه غدر الوعود، وأمعن في القيود.

*  *  *

ساور قلبي زهو تدسس إليه من فرحة اللقاء، بعد طول الغياب، والعناء القاسي، والكرب الغامر.

كم قلت: متى يعود؟

وكم ساروني إلهام يقول لي: لا تقنطي من رحمة الله.

كانت أمي تراقب فرحتي، بإيمان قالت:

- آلاء الله دائمة الفيض عليك، استغفري ربك يا ابنتي، واحمديه، واشكريه، ها هو ابنك معك، اتجهي إلى الله طلباً لعفوه، وسماحته، ومغفرته.

قلت:

- إنك على حق، أشعر التقصير تجاه ربي.

قالت:

- انطلقي من قيود ذاتك، ليكون لك حظ في رضى الله.

- سأنطلق من قيود ذاتي، وأحرر نفسي من جيشان المشاعر، سأجهدها حتى ترتفع إلى آفاق الله سبحانه.... أحمده أن تلطف بي، وأحسن.

الأيام تمضي سراعاً، وتتوارى فرحة اللقاء، حين أخبرني ابني أن سيرجع إلى أمريكا.

- لم يا بني العجالة؟

- زوجتي "كيم"، وطفلتاي نعماء وآية في انتظاري.

باستسلام قلت:

- هذا هو الواقع، شئت أم أبيت، الزمن مهما طال، أيامه لحظات عسيرة...

استدرت لأمسح دمعات انهمرت على وجهي، بهدوء قلت:

- سأنفرد بذكرياتي وحدي، وستبقى وإخوتك مصدر إلهامي في الكتابة، وآمالي، وستبقى مشاعري تمتد إلى حيث أنتم، وإلى الوطن الذي نزحنا منه.

كم كنت أفتقر إلى وجودكم معي، كافتقاد الأرض للماء العذب!

ناجيت الحياة في سري:

أهكذا أنت دائماً؟ غدر، مكر، فراق، بعاد، ألم، لقاء... لامست كف أمي كتفي، غمرتني بحنان ينمو من نبع صدرها ويفيض، وينتج من المشاعر أجودها، وأرقها.

قلت بألم:

- أرى الحياة لم تتغير، ولكن نظرتي هي التي ستتغير. سيبقى صدري ينبوعاً للحنان، سأسقي به حدائق أفكاري، وأبني بها مشاريع لعلاقات أخوية، وليصب الينبوع المتدفق في محيط الإيمان، وليضفي عليّ سماحة، وطيب لقاء، وفرح نفس، وسيبقى بإذن الله متدفقاً فياضاً، لا يجف إلا بجفاف العمر.

ابتهلت إلى الله ربي أن يحفظ لابني إسلامه، ويحفظه في غربته، صبرت على بعاده أربعة عشر عاماً، وسيكون الصبر رفيقي في سفره الثاني.

قالت أمي:

- لم يعد متسع للأحلام، والأوهام.

قلت:

- أعلم، سأجهد، كي ترتفع نفسي بالإيمان بالله، وستشرق، وترفرف، لتنطلق روحي إلى عالم جديد أكثر شفافية، وقوة.

وسوم: العدد 799