الانتقام للنفس منقصة، ولله كمال وإيمان

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسواق المدينة وأزقتها، يراقب المسلمين في حياتهم اليومية من بيع وشراء ومعاملات، ويتابع ما يفعلونه، فيقرُّ هذا على ما يفعل، وينهى ذاك عن خطأ وقع فيه، وينبه الآخر ليمين بدر منه، فلا حاجة للقسم، فكثير الحلف كذابٌ، ويمدّ أصبعه في سلة تمْرٍ فيراها مبتلّة من أسفل فيقول لصاحبها: ((من غشنا فليس منا)). إنه معلم، وقائد.. يصنع مجتمعاً صالحاً، ويبني دولة قوامها العدل والإنصاف، لم يكن معه – كعادة الحكام – جند وحرس يحمونه، فحبُّ الناس سياج، والسعي في خدمتهم وإسعادهم أفضل طريق للأمن والأمان، ولكنْ لا بد من هَنة من هذا أو ذاك يتلافاها بالحكمة واللطف.

قال أنس: كنت أمشي مع رسول الله   في تفقده أمور المسلمين كعادته، وعليه برد غليظ الحاشية من نسج نجران من اليمن، فتقدم منه أعرابي مسرعاً – والأعراب جفاة فيهم رعونة وإن لم يقصدوها – فشدّ بُردة النبي   شداً عنيفاً حتى رأيت طرفها العلوي يضغط – بحدّه الغليظ – على عنق الرسول الكريم   ضغطاً أثّر فيه، فهممت بدفع هذا الأعرابي السيء الأدب، فمنعني رسول الله ، ونظر للأعرابي فسمعه يقول له: يا محمد دون أن يلقبه بـ: يا رسول الله، فهمَمْت بضربه لولا أن الرسول   كان قد منعني، وأردف الأعرابيُّ وهو ما يزال يجذب النبي   من بردته: مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فإنك لا تحمل من مالك ولا مال أبيك.

فسكت النبي   ثم قال – بأبي هو وأمي ما أحلمه وما أعظمه - : ((المال مال الله، وأنا عبده))، ثم ضحك في وجهه وقال: أرسلني يا أعرابي، وأمر له ببعيرين، يحمل الأول شعيراً، والثاني تمراً – وقال للأعرابي: ((أيكفيك ما أعطيتك من مال الله الذي عندي؟))، قال الأعرابي: نعم، ولم يزد – لجفائه – على هذه الكلمة. قلت: يا رسول الله، رجلٌ قليل الأدب، يخاطبك بجفوة، ويشدُّ بردتك فيؤثر في عنقك – ويخاطبك برعونة – فتأمر له بصلة؟! قال الرسول الكريم البرُّ الرحيم: ((يا أنس، أمِرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم)).

((يا أنس:

 يقول الله تعالى:( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ  )).

((يا أنس: المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم)).

قال أنسٌ: صدق رسول الله ، فقد اشترى من يهودي سلعة على أن ينقده ثمنها وقت الحصاد .. هكذا كان الاتفاق.

لكن اليهودي جاءه قبل الميعاد، وأمسك ببردة النبي   من ناحية عنقه وجذبها جذبة شديدة حتى تغيّر وجه رسول الله   من شدتها، وقال: يا محمد أعطني حقي، فوالله إنكم يا آل عبد المطلب لقوم مُطلٌ (تسوفون في دفع الحقوق وتماطلون).

رأى عمر رضي الله عنه ما فعل اليهودي فغضب ورفع السيف في وجهه، واستأذن رسول الله   أن يضرب عنقه لسوء أدبه وتصرفه، وخاف اليهودي، فترك رسول الله   وظهر الهلع على وجهه، فما كان من النبي   الحليم ذي الخلق العظيم إلا أن التفت إلى عمر قائلاً: ((كان أولى بك يا عمر أن تأمرني بحُسْن القضاء، وأن تأمره بحسن الاقتضاء)).

((يا عمر، ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)).

((يا عمر، أعطه حقه وزد له)).

قال عمر: أعطيه حقّه يا رسول الله، فما بال الزيادة؟

قال رسول الله : ((الزياة يا عمر لإخافتك إياه)).

قال عمر: إننا لا نغضب لأنفسنا إلا أن تُنتَهكَ محارم الله.

يا عمر: إن موسى أخذ برأس أخيه يجرّه إليه حين صنع السامري عجلاً جسداً له خوار، فلم يفعل هارون شيئاً، وكان عليه أن يبطش بهذا السامري الذي افترى على الله، واتخذ له ولضعفاء اليهود إلهاً غير الله.

يا عمر: الحلم والصبر واللين في مواقعهما أشد نفعاً.. والصلابة، والغضب والقيام بالحق في مواقعها أجدى وأنفع وهذا حسن الخلق يا عمر.

قالت عائشة رضي الله عنها: إن امرأة من بني مخزوم من قريش سرقت يوم فتَحَ المسلمون بقيادة نبيهم الكريم مكة المكرمة، ووصل خبر السرقة إلى النبي ، فأمَر بقطع يدها، فعزّ على بني مخزوم، وهم سادة قريش، أن تقطع يدٌ منهم، إنها لفضيحة الدهر وخزي الزمان، لو أن امرأة من عامة الناس سرقت لهان الأمر!! ولكنّها امرأة من مخزوم وهم سدّة قريش عدداً ومالاً، يا للعار، ويا للشنار.. إنَّ هذا لا يكون، لا يكون أبداً، وبدأوا يقلبون الأمور، ويبحثون عمَّن يجرؤ على حديث رسول الله   والشفاعة لها، فما وجدوا إلا الفتى ابنَ السادسة عشرة أسامة بن زيد (الحِبَّ بن الحِبّ).

والعجيب أنهم ما كانوا يلقون إلى هذا بالاً، ولا يهتمون به. أتدرون لماذا؟ لأن أباه – وإن كان يوماً ربيب النبي ، ويطلق عليه زيد بن محمد قبل تحريم التبني – كان عبداً للسيدة خديجة رضي الله عنها، اشترته بحرّ مالها، وأهدته رسولَ الله   عندما تزوجها، فأعتقه الرسول الكريم   وتبناه، وزوجّه من أم أيمن بركة الحبشية حاضنته رضي الله عنهما، فولدت له أسامة، وورث أسامةُ عنها لونها الأسود.

ما كان الناس يرضون زيداً قائداً لهم، فتأففوا حين جعله النبي الكريم أول قادة جيش المسلمين في مؤتة، فاستشهد رضي الله عنه، وجعل الرسول الكريم ابنه أسامة قبل لحوقه   بالرفيق الأعلى قائد جيش المسلمين إلى بلاد الشام. فتأفف الناس لذلك وتشفعوا بالصحابة الكرام أن يعزله الرسول الكريم عن قيادة الجيش فغضب، وأبى ذلك وقال: ((إنكم أبيتم أباه وإنه لجديرٌ بالقيادة، وأبيتموه، وإنه لحقيق بها))... – وعلى الرغم من ذلك – ولمكانته عند رسول الله ، قصدوه ليشفع في هذه السارقة المخزومية.

لم يكن الأمر يسيراً، فالحدّ حين يرفع إلى الحاكم ويصل إليه، لا تجوز فيه الشفاعة، ولكنْ ما على أسامة إن كلم النبي   في أمرها؟!.. استجمع قوته وجاء إلى الرسول الكريم فكلمه على استحياء في العفو عنها. ورسول الله   ينصت إليه حتى فرغ من حديثه، قال: ((أتشفع في حد من حدود الله تعالى؟)) وهل يجوز تعطيل الحدود؟! إذاً لا تستقيم الأمور، ولا يحيا المجتمع الحياة الطبيعية الآمنة، ويعتاد الناس الخطأ والشفاعةَ فيه، فتختل الموازين وتضطرب المعايير .. ينبغي على المسلم أن يقف عند حدود الله، ويلتزم بها، فالقوي والضعيف، والغني والفقير، والكبير والصغير .. متساوون في ميزان الله وشرعه القويم.

وقام رسول الله   خطيباً في الناس يقول لهم:

((إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه – لشرفه ووجاهته -، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد – لخموله بينهم وضعف مكانته - )).

إن مجتمعاً تسود فيه هذه القيم المنحرفة لجدير أن يزول ويمحى، وأن يتلاشى ويندثر، ثم أطلق الحاكم العادل تلك الصيحة المدوية التي ملأت الدنيا حقاً وعدلاً، وتصميماً على إقامة حدود الله: ((وايمُ الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)).

رياض الصالحين: باب الغضب إذا انتهكت حرمات المسلمين