المفتاح والحمار

أبو الشمقمق

جلس المواطن البائس القرفصاء على حافة الدرج السفلى أمام الدائرة الرسمية  المحترمة . وضع راحتيه حول وجهه بعد أن مسح حبات العرق عن جبينه ثم استنشق بعض الهواء الملوث . وقع الأقدام الصاعدة والنازلة قربه ؛ تختلط مع الأصوات الحانقة أو الشاكية أو الراضية . صراخ الباعة يضيع عبر ضجيج السيارات أمام الدائرة . المراجعون منهم من قضى نحبه ومن ينتظر وما بدلوا تبديلا !

ماانفك المسكين منذ عشرة  أشهر ؛ يتردد على أبواب الوزارات ويتوه بين دياجير الإدارات ودهاليز الدواوين ؛ يقع في شباك الموظفين وأكوام السجلات. يلصق الطوابع ويدمغ الأختام ؛ يجمع التواقيع وينقل الإحالات ويقطع الوصولات .

استنفذ كل ما نصت عليه القوانين ؛ وما لم تنص عليه منذ استقلال الدولة عن الاستعمار البغيض . حقق رغبات الموظفين المشروعة وغير المشروعة ؛ أما الإهانات التي تلقاها فهي أكثر من أن تحصى .

أنجز في النهاية المعاملة اللعينة معاملة الطابو ؛ متوهماً بعد طول معاناة ؛ أن صبره قد أورق وجهده قد أثمر .

عبر الرواق الأخير في القلعة الحصينة الذي يدعونه المراجعون برواق الموت ؛ تقدم إلى الباب السحريّ المحكم الإغلاق ؛ ليسلم إضبارته إلى الموظف المختص بعد تسجيلها في الديوان ؛ ليلقيها بدوره في الخزانة المعدنية البالية التي تئن تحت وطأة الورق المتعفن والملفات المكدسة في غرفة المحفوظات .

من المفترض ؛ أن يحصل على وصل بعد تسليم ملفه ؛ تعـترف الدولة بحقه بالمراجعة والاعتراض ، وتقر بمواطنيته بعد أن صـادف الأهوال التي تشيب لها الولدان ؛ وسمع من الأقوال ما يندى له جبين الدول الصناعية السـبع ! أما إنسيانيته فهو أمر مشكوك به من الأساس . 

عندما تقدم إلى آخر معقل لإيداع الإضبارة كما أمره رئيس الديوان ؛ أعيته الحيلة في فتح الباب المغلق فنكص على عقبيه حسيراً كسيرا .

انتظر طويلاُ مع حشد المواطنين الزائدين عن حاجة الوطن أمثاله في العلم الثالث دون أن يحظى بشرف تخطي العتبات المقدسة إلى العالم الثاني !

لقد حذروه منذ أن بدأ بالدوران في الدوامة، أن تأخيره في تقديم أوراقه حتى نهاية الشهر الأخير من السنة ؛ سيفقدها قيمتها وتعتبر لاغية بحكم القانون ؛ مما يضطره إلى إعادة الكرة من جديد لاستخراج أوراق جديدة إذا ما تجاوزت أوراقه الحالية هذا التاريخ !

 والعمل ؟

يتلفت المسكين يمنة ويسرة وكأنه يبحث عن الحلقة المفقودة لتطور الإنسان ؛ ولما لم يجد ما كان يرجوه ، يتقدم منه رجـل رث الهيئة زري الشكل ؛ منتفخ البطن مصفر الأسنان ؛ ليلقي إليه بطوق النجاة قبل أن يرسو إلى القاع !

يجلس بجانبه على الدرج ويعرض عليه سيجارة من النوع الرخيص قائلاً له :

- لا تيأس ! نصف الألف خمسمائة .

يتفرس فيه طويلاً فلا يعجبه . من هذا ؟ هل جاء يزيد همه هماً ؟

- هل أجلب لك كأساً من الشاي ؟

- لا . أشكرك . أمن المناسب شرب الشاي على الدرج ؟

- لمَ لا ؟ انظر من حولك ! المراجعون يشربونه من أباريق بائعي الدراجات قرب عربات البيض المسلوق . السائقون يحتسونه وهم في أشد حالات الزحام . الموظفون يشربونه على مكاتبهم ؛ ويحملون الكؤوس من مكتب إلى أخر مع الأوراق والمعاملات  . الموظفات يفعلن وهن يقمن بغزل الصوف وإرضاع أطفالهن في الوقت نفسه . دعنا من الترهات وقل لي ما هي مشكلتك بالضبط !

- لا لزوم ل...

- قد استطيع المساعدة . الحجر الذي لا يعجبك ( يفجك )

- فيك البركة ؛ لكن ...

- يضع سره في أصغر خلقه !

يزفر المواطن زفرة حرى ويفيض بالشكوى . يعبر عن بلواه وقد ارتختْ أجفانه من الذل . يستمع الرجل المنقذ الغريب إليه بصبر عجيب وهو يبتسم ويقول له أخيراً :

- أصلحك الله ! لا يستحق الموضوع  كل هذا اليأس .

- كيف ؟  لم يبق غير خمسة أيام على صلاحية الأوراق , لقد بذلت ُ من الطاقة ما أوصلني إلى العوز والفاقة ، ثم يؤجلوننا كل يوم إلى اليوم الذي يليه ؛ زاعمين أن الموظف في إجازة ، وإذا جاء من الإجازة ؛ فهو في اجتماع لدى المدير ولا يخرج  إلا بعد انتهاء الدوام ، وإذا جئنا في اليوم التالي قالوا أرسلوه في مهمة ، وإذا جاء من المهمة ذهب إلى المستشفى ؛ وإذا عاد منها وسألناه قال ؛ أوراقك ليست عندي . ألم يخبروك أنني حولتها إلى قسم المحفوظات ؟  نهرع إلى قسم المحفوظات فيقولون لم تصل بعد !  إلى غير ذلك من الأعذار التي لا أفهم لها سبباً ولا أدرك لها معنى .

- هذا لأنك عدم المؤاخذة حمار !

- كثر الله خيرك ! أمن اللائق أن تشتم من لا تعرفه ولا يعرفك ؟ لم يبق إلا أنت حتى يوجه لنا الإهانات  !

- ماذا أفعل ؟ وأنا أراك قد أنفقت من المال أضعاف المطلوب ؛ وضيعت من الوقت أكثر من اللازم وتحملت من المتاعب والآلام ما لا يتحمله بشر ! ما هو الاسم الذي تطلقه على مثل هذا المخلوق إذا رفض تجنب كل ذلك ؟

- حمار.

- أنت عيني !

-  لا تزد همي هماً الله يرضى عليك !

- موضوعك أسهل من شربة الماء .

- هل تسخر مني ؛ أم أنك ترش على الجرح سكراً ؟

- لا . إنما كان عليك أن تكون أكثر حنكة وأنت بهذه السن المتقدمة .

- ماذا تعني بالحنكة ؟

- أعني ؛ يجب أن تكون أزعر في أمكنة من هذا النوع . أن تكون محترماً لا يفيدك بل يوسع مساحة المهانة ويعمق الشعور بالقهر والذل ! قل لي بصراحة ودون مواربة ؛ ألا تشعر بذلك ؟

يرقب المواطن البائس محدثه في عجب وفي حيرة .  لا يستطيع عالمَ نفسٍ من الوصول إلى أعماق الإنسان كما يفعل هذا

 الرجل !

- من تكون حضرتك ؟

- تأخرتَ على هذا السؤال كثيراً .

- هل تعمل في الدائرة ؟

- لا. إن الله سخرني للبائسين من أمثالك لأبذل لهم العون قدر المستطاع وأجنبهم المشقة والمهانة ؛ والأهم من ذلك أن أنقذهم من براثن الموظفين الجشعين !

- هل أنت وسيط ؛ أم معقب معاملات ؛ أم فاعل خير ؟

- لاشيء مما تقول .

- لم أفهم .

- هل تريد أن تفهم عملي فتصدع رأسك وتزعج نفسك بلا طائل ؛ أم تريد حلاً لمشكلتك ، وتذهب إلى بيتك ناعم البال خليّ القلب مشدود القامة مرفوع الهامة ؟

- أريد حلاً لمشكلتي طبعاً .

- إذن ؛ لا تهتم بغير ذلك ، أعطني الأوراق !

- لكن ألا يجب أن أعرف كيف ستحلها ؟ وكم تستغرق من الوقت ؟ وإلام سأنتهي وعلام ستقودني ؟

- كل ما ذكرته لا علاقة لك به . ألا تريد الحصول على الورقة الخضراء وعليها خاتم الدولة ممهور فوق توقيع المدير العام . أليس كذلك ؟

- هذا هو بيت القصيد . كم أسبوعاً عليّ مراجعتك ؟

- ماذا ؟

- أعني كم يوماً يجب الانتظار ؟

ضحك الرجل بطلاقة فاخذ يربت على كتف المواطن قائلاً :

- نعم . يجب عليك الانتظار ، لكن خمس دقائق على أبعد تقدير !

ذهل المسكين ثم قال بلهفة :

- وأحصل على الورقة المطلوبة ؟

- وتضعها في جيبك ؛ وتدعو لي ؛ وتغني يا عين يا ليل !

ظهر الارتياب على وجهه فقال المنقذ :

- يمكنني اصطحابك للتوقيع على الاستلام أمام رئيس الدائرة . هل يكفي لتتأكد من سلامة الإجراءات ؟

- هذا أقصى ما أتمناه .

- تبقت لدينا نقطة صغيرة ؛ يجب مراعاتها قبل مباشرة عملنا على الفور .

- أية نقطة ؟ الأوراق كلها جاهزة . انظر ! لا يوجد أيّ نقص .

 يسارع إلى فتح الإضبارة فلا يلتفت إليها المنقذ بل يقول :

- ليس هذا ما أعنيه .

قبل أن يبدأ بالسؤال عن مغزى الكلام يهمس المنقذ بصراحة :

- ستدفع لي قرشين مقابل ما سوف أقوم به . هل لديك مانع ؟

تضاءل فرح المواطن قليلاً . ابتلع ريقه بصعوبة ثم قال :

- نعم أفهم . أنت لا تخدمني حسنة عن روح أبيك ؛ ولا لتثبيت المعروف في الصحراء ؛ ولا لمنافسة معن بن زائدة  ومع ذلك أشكرك على تقديم المساعدة . كم سأدفع ؟

- ألفي ليرة فقط ! (1)

- يا لطيف ! ألفا ليرة مقابل توقيع ؟

- وماذا في ذلك ؟

- أوراقي كلها جاهزة وقانونية ، ألا يشفع لي بتخفيض المبلغ قليلاً ؟            

ـ إذا اقتربت المدة المحددة وضاق عليك ؛ الوقت فستدفع أضعاف ما أطلبه منك الآن - المسألة متوالية هندسية مثل مقياس ريختر . كل يوم يمر نتقاضى ألف ليرة زيادة عن اليوم الذي سبقه !

-  يا لطيف !

- إذا مرت الخمسة أيام وقبل أن تدخل السنة الجديدة ؛ لن نقبل بأقل من خمسة آلاف ؛ هذا إذا استطعنا أن نتدارك الموقف بسبب ضيق الوقت ! 

- وإذا دخلت السنة الجديدة ...

 - لديك سنة طويلة عريضة بشعرها وبعرها ؛ تتمكن فيها من استخراج أوراق جديدة على مهلك دون أن تدفع قرشاً واحداً .

- لا . لا أريد أن أعود إلى كتابة العرائض وإلصاق الطوابع وجمع التواقيع ونسخ الإحالات وتصوير النسخ ووضع الأختام وقطع الوصولات و ... 
- وكله مكلف لأنهم يضاعفون التعرفة على معاملات الدولة كل فترة وفترة ! فلا يعود يكفيك لا ألف ولا ثلاثة ولا خمسة !

- أعوذ بالله !

- ماذا تظن ؟ كل يوم يمر؛ ستتحسر على الذي قبله .

- لكن ألفا ليرة مبلغ ثقيل عليّ . أليس كذلك ؟

يضطر المنقذ إلى شرح بسيط فيقول :

- لا ينالني من المبلغ إلا خمسمائة ليرة والله على ما أقول شهيد ! أما الباقي فهي لغيري ولا داعي لذكر الأسماء . كلك نظر .

يتردد المواطن قليلاً . يسارع المنقذ إلى القول :

- ومع ذلك سأخصم لك جزءاً منه لكي لا تضيع جهودك هباء وتقول ؛ رآني الرجل في ضائقة واستغل حاجتي .

- كم ستخصم لي ؟

- خمسمائة ليرة حصتي وعلى الله العوض ! المهم أن أخدمك ولا أراك بهذه الحالة المؤسفة التي لا تسر عدواً ولا صديقاً .

- إذا فعلت ؛ ماذا تستفيد من ذلك ؟

 - لا عليك . المعروف لا يضيع مع الناس الطيبين . سأحاول تحصيل شيء من

حصة المعلم بعد أن أشرح له حالتك . ثم ستعود إليّ  ثانية في موضوع آخر ، وعندها ستعوض علي ّ ...!

- تريد الحقيقة ؟

-  قل !

- لا أملك إلا ألف ليرة . هذا كل ما في جيبي !

يظهر الامتعاض على وجه المنقذ . يقلب شفتيه احتقاراً ثم يقول :

-لا بأس ! هات الألف ليرة وأعطني الإضبارة واتبعني ! لا يجب أن تخرج من هنا مكسور الخاطر .

يدس المواطن يده في جيبه لإخراج حافظة النقود . يمد المنقذ عنقه ليرى ما في داخلها ويتأكد من صدقه !

يبحث في الحافظة فيبدو عليه حرج كبير. يقلبها بين يديه وتخترق أصابعه طبقات الجلد فلا يجد غير مبلغ صغير . ينظر إلى المنقذ بهلع وخوف . ينتزعها من يده ويفتش بنفسه قائلاً باستنكار :

- ما هذا ؟ لا يوجد غير ستمائة ليرة .

- ماذا أفعل ؟ يا خجلي منك ! ظننت أن في جيبي .. يا إلهي ! أين ذهبت النقود؟

لابد أن زوجتي قد أخذت بعضها دون علمي . سأرمي عليها يمين الطلاق إذا ما اكتشفت أنها الفاعلة !

ينظر إلى المنقذ معتذراً :

- لا تؤاخذني ! سأذهب لإحضار بقية المبلغ .

- لقد خدعتني .

- لا ؛ والله !  لم أفعل . أنا نفسي لا أصدق كيف حصل ذلك .

  يتفرس في سحنته جيداً . يقلب الأمور على وجوهها . يعمل فكره بسرعة .

- حسناً ! سآخذ هذا المبلغ الآن ؛ لكن عدني أن تعود لوفاء دينك !

-أعد...

- لقد قصدتني . لن أردك خائباً . اتبعني !

  ينهض الاثنان . يصعدان الدرجات . المواطن يلهث لكبر سنه ؛ والمنقذ لعـظم  بطنه ، يدلفان إلى داخل المبنى المهيب ، يتجهان إلى الباب المغلق ثم يأمره قبل الوصول إليه قائلاً :

- انتظر هنا ! دقيقة واحدة فقط .

بالفعل . يقرع المنقذ الباب الأسطوريّ قرعات ذات نغم ٍ متعارف عليه . ينشق الباب كما تنشق مغارة علي بابا ! يختفي داخله أقل من دقيقة ثم يعود في الوقت المحدد موفياً بوعده . يشير إلى المواطن المنبهر كي يتبعه .

يوقع المواطن المكروب على استلام الورقة الخضراء بيد مرتجفة وهو يشعر بالنشوة عند سماعة النقرة السحرية للخاتم العتيد تنطبع بشكلها فوق توقيع المدير !

يضعها في جيبه منفرج الأسارير وقد ارتسمت البسمة على وجهه منذ شهور طويلة .

ينحدر الرجلان إلى مدخل الدائرة . يهبطان عن الدرج إلى الرصيف . يقول له المنقذ في لهجة الانتصار :

- هل أنت سعيد ؟

- في غاية السعادة . لماذا لم أفعل هذا من قبل ؟

- لقد قلنا من قبل ؛ لأنك حمــــــــ .... ما علينا !  أعط الخباز خبزه ولو أكل نصفه !

- ياسيدي ؛ أعطه كله !

- ها..ها ..

- إنك رجل حكيم .

- لا تنسَ ما وعدتني به ! لقد وفيت بوعدي . إن وعد الحر دين .

- سأفعل بالتأكيد بعد أن أسترد صوابي . لكن ؛ هل تكرمت ووضعتني في صورة الموقف وأن تشرح ما خفي عليّ ؟

- ماذا يفيدك ذلك ؟

- زيادة في العلم والمعرفة . وقل ربي زدني علماً !

-  لكل مهنة سر . وهذا من سر المهنة . لا أستطيع . لكن إذا احتجتَ أنت أو أحد معارفك أو أصدقائك أو أقربائك إلى أي شيء ؛ هنا أو في أي مكان آخر في دوائر الدولة ؛ اسأل عني ! اسأل عن أبي منصور ؛ يدلك عليه الجميع !

- في كل دوائر الدولة ؟

- نعم . ماذا تظن ؟ الدولة مترابطة مع بعضها مثل شبكة العنكبوت ولنا أصدقاء في كل مكان والبيزنس هو بيزنس !!

- ماذا تعني ؟

- يبدو عليك أنك إنسان طيب وعلى نياتك . سأبوح لك بسرٍ يعرفه كل الناس إلا أنت !

- كيف هو سر ويعرفه كل ....؟

 - لكل دائرة  من دوائر الدولة رجل يسمونه المفتاح .

- المفتاح !؟
- إذا تعسرت الأمور وانتصبت في وجهك العوائق وبلغ بك اليأس مبلغاً وأغلقت كل الأبواب أمامك واحترت ماذا تفعل ؛ اعثر على المفتاح !

- المفتاح !؟

- نعم . إنه أشبه بالمفتاح المـلكي ؛ الذي يفتح كل أقفال المخادع والمضاجع ؛  ويدك الحصون والمواقع ؛ ويخترق الصفوف ويجرف الألوف ؛ ويعبر الأبواب  الموصدة ويثقب الجدران الصماء ويحطم القلاع الحصينة .

- كل هذا يفعله المفتاح ؟

- نعم . في حالات أخرى ؛ يخرج المسجون من بين القضبان ؛ ويفك الحبل عن

عنق المشنوق ؛ ويخرج الميت من القبر !!

(1) كانت الليرة السورية ذات قيمة في علم 1990