طيف

- أبيدى رشق القضبان؟ أى نعم. - هأ..هأ.. أبيدى الارتماء خلف القضبان؟ لماذا ترتكب جريمة؟ - ما هى الجريمة؟ قتل ،سرقة،أغتصاب. - أكمل:كرامة،حرية،وعدالة اجتماعية. يا فلان لا تنحرف بالعقل.  -بالتأكيد كل هذه الأشياء تستوجب العقاب. ومن الذى يصنف الأشياء؟ - لا تهتم؛فالأبواق تنعق طوال الليل. الأفواه مهتومة الأسنان.  -الغربان فى البيوت،الحقول،المصانع،والمقاهى. فى بيتى امرأة وثلاثة أولاد.  -فى بيتك أناس ينفضون ثيابك المتسخة،يرجون الكرة الأرضية بين أياديهم.  -فى بيتى سريران وكنبة ومائة كرتونة كتب. تكذب وكأن الكذب منجاة. - لا أكذب ولا أتجمل،وما علاقة بيتى بصناعة القضبان؟ - إسماعيل،عواد،شربات،بدوى،القرشى،محمدين،حسنين،هؤلاء جميعهم فى أوراقك،هؤلاء جميعا قضبان. - الصراخ خطيئة لن يغفرها الجلد؟ ومن أنت حتى تصرخ؟ - من أنا؟ نكرة؛فى وجودها العدم. قهقهات صاخبة،تتهشم زجاجة جعة أثر سقوطها،يتناثر الزجاج،وعلى الطاولة المجاورة فتاة حليبية البشرة تراقبنى ،وكأننى عميل يُرهب جانبه،لم أكتشف أنها تسجلنى فى التو واللحظة،يزيح رومانى آثار الأنكسار فى لحظة وامضة. - لماذا تأبه بسفسطتى؟ ألم تقرأ كتاب من يدفع للزمار؟ -خرب عقلك منذ عهدتك الكتب. يطرأ زحام على الطاولة:من الذى دعاها للجلوس؟ فتاة وليل،هرم وليل،ليل ليس كأى ليل يجمع بينهما،وكأنها تمثال قد من مرمر لا تملك لسانا؛أنفاسها المتهدلة تغزونى ،أهمس لها: -أتدرين من أنا؟ تردد وكأنها تستدعى حلما: - من أنا؟ سيدة الطاولة الوضيعة،بل رفيقة الدرب.  -أى درب وأية رفيقة؟ الدروب كلها متشابهة،والرفيقات كلهن شامخات.

- سكة الصعاليك لا تدلفها بغى. مظهرى السافر لن يكون ذريعة لنعت يشرفنى.

- أتعترفين؟ البغاء فى زمن البغاء يعد تمسكا بمبادئ الجماعة.

- أية جماعة تتحدثين عنها؟ جماعتى ،جماعتك،جماعتنا جميعا.

نواح واحتكاكات يقتحمون قلعة الهدوء،ما الذى دعاك لقبول ضيافتها؟   شتائم وتذمرات تتباين ويعلو ضجيجها،أيادى تهاجم وأخرى تدافع،أقلق  جو الصخب العاشقين،فغادرا عالمهما،منحنى السكوت يستقر على مؤشره الأعلى،أصابنى الأرتباك  وكأن بحر الخدر تبخرت مياهه،أنتصب واعظا:

-يا هووه كفاية عراك.

تقعدنى ضربة عصا ،أنتفض مرتعشا:

-الصورة مشوشة يا غجر.

ترتمى الفتاة على الأرض من جراء الضحك،أشدها،يهزنى ثقل جسدها،لم تقو يداى على حملها،ستون كيلو جرام أو يزيد من الجلاتينة،رفع ثم ثنى،يتبعهما انفلات ،تتفاقم اللحظات،أخيرا ألمحها على المقعد مبتسمة:

-فكرت أنك سوبر مان!

-ألم أقل لك أن فى خزانتى حبوب الشجعان؟

-لم تقل لى شيئا سوى المزيد من السخرية.

-للأسف !  لا أجيد صناعتها؛فالمقادير –دوما-غير دقيقة.

-لماذا يومض وجهك وينطفئ؟

-ما تدعينه سخف.

أخرجت من حقيبتها مرآة،واجهنى سطحها الزجاجى،لا يمكننى التركيز،أنف؛أهذه الأنف الأقنى؟    عينان بارزتان تدوران؛فى مقلتيهما مرتفعات وجبال،شبحان يقتتلان،تنزف دمائهما،قطرات الدم تخترق مياه البحيرة الراكدة،دومات صغيرة-سرعان-ما تتداخل؛مدية ومسدس،راية ولفافة ورق،استغاثة واستغاثة ،تقع المرآة فوق طاولة لا شئ فوقها سوى قنينات الخمر،أهذى وكأننى أطل من وادى سحيق:

- غادرينى.

- أتنسى لهاثى وحدبى.

- لم تدع لى الأيام حنوا،من قرية إلى مدينة،ومن جدر تستر إلى فضاء يفضح،يد لا تقبض إلا الفراغ،طعام وشراب وخراء.

- قلت لك:الدرب ممهد.

- أضواء النيون تصيبنى بالعشى،جربت التسلل عبر الطريق،أنات الجوعى والحيارى  والمحزونين طلقات رصاص تترصدنى.

-ما لك وهؤلاء؟

- لا أستطعم الشمبانيا دون مزة.

- أكيد منقوع الهلوسة يطير بك وسط السحاب.

- لا..يا جميلة الفاتنات؛الفراش المنكوش واهتزازات المعارك الناعمة وهمسات الممانعة على شاشة خيالى.

- لا تجيد إلا الهروب.

- الأصدقاء لا يفارقون دفترى،يطعنون سكونى،عرائض  الاتهام  أمام العالم أجمع ،يوصون بنشر جسدى مع الأشجار؛فتنور الفحم ينقصه زيت الإشعال .

- لماذا تنكر على الرفقة؟

- لم أعرفك إلا اليوم.

جوقة تقترب،تتضح معالمهم،يحيطون بالطاولة،يرتلون أوراقا صفراء،يسأل عواد بصوته الأجش:  -أين نصيبى من كيس النقدية؟ يتبعه صوت اسماعيل الحاد:  -لماذا أسكنت العمدة حانة النوبى؟ طال به المكوث،ألم يأن-بعد-الأفراج عنه؟ يحتجزه نميرى رهنا لثمن زجاجات الولع! أضع أصابعى فى أذنى،الأصوات تنبعث من الداخل والخارج،يولول القرشى: - أحمد الأمانة مات،العيال قتلوه بالحجارة،صلبوه أمام كل دار،ما نفعته شفاعتى،هججتنى فارا إلى بلاد الغير،اعيدنى الآن؛فالراحلة نفقت،رطب ذكرياتهم بجدول ملئ بالعسل المصفى. يزعق محمدين: - يا بيه البلد خربانة،نفضت التراب عن جرة الذهب المدفونة فى الخور،جلبت لكل يد شومة وبندقية،ومن يومها الدنيا تقلب وتعدل،يا بيه طلعت الجرة من تحت الأرض لماذا؟ لم يتم حمدين حروفه حتى اردته بندقية حسنين قتيلا أسفل الطاولة،الوجوم والكآبة يرسمان سحنات الجميع،تتفرسنى ببؤبؤبى عينيها،تسأل: - لماذا سكوتك ؟ أأصابك الخرس؟  -وجودهم الآن فى هذا المكان بالذات عبث،فما أنا بخالق حتى يخرجوا على؟ - أعترف أنك أقلقت حياتهم الرتيبة.  -بل هم المذنبون؛طاردونى عدوا من بيت إلى حارة إلى زقاق،قذفونى تارة بالحجارة وأخرى بالشماريخ.

يركل بدوى الباب زاعقا:

- لم أسبب لك سوءا،فلماذا تنتهج النذالة معى؟

- حتى أنت يا برودس!

انذعرت المرأة مهرولة،حال سد (شربات )اللحيم دون مروقها،بعثرتها حروف الشتائم فى شتى الأرجاء،أمست علكات كل الأفواه،ثأرى عتيق مع شربات،والآن قضيت عليها بالعته،ولت هاربة ،تصدر أصواتا لم أقرر بعد وصفا لها،ومع الموسيقى الجنائزية يغادر حسنين أسفل الطاولة ويده ملطخة بالحناء،أسمعها تغنى:

- (هووه نام وادبحلك جوزين حمام).

وسوم: 640