شربات

عصام الدين محمد أحمد

تحتشد العمائم ، تزاحمها الطرح السوداء ، الجو مشحون بالتوتر ،الأبواق ـ فوق أسطح البيوت وفى الشوارع ـ تردد فى آلية :

- المقاومة.

القوات تحتل مداخل ومخارج الحى ، تنصب المتاريس على أمتداد ساحل روص الفرج ، وبإتجاه كوبرى 26 يوليو ، ناقلات الجنود تبتلع كوبرى الصنايع الرابط الحى برملة بولاق . (عبد الرحمن ) المصوراتى يلتقط مئات الصور للكتل البشرية ؛الأيادى تمسك الهروات والجنازيروالبلط؛ همهمات وصراخ وحوارات جانبية :

-     (سوق من غير رجالة ! إيش تعمل النسوان ).

-     الكترة تغلب الشجاعة .

-     أمثال، أمثال، المهم الأفعال.

يشتد اللغط ، ترتعب النفوس ، الجو مزكوم بالأدخنة والأغبرة ،الجنود يركلون الأرص ،يختبرون بنادقهم ،يزومون بالصياح ،يسيطر الإرتباك على الجميع ، تمتطى الكلمات الأكتاف ،أستبين بعص العبارات :

- الضرب بالسيف ولا حكم الكيف 0

- ربنا ماسوانا إلا بالموت .

وكأن النفوس تتعبأ معنويا ،ولكن الأبدان تبدو مهدودة ،ينسلخ التجار من نسيج الحصار ،يتسللون بين الدروب ، وفوق المقاهى يقعدون ؛فهم يمسكون العصى من المنتصف ،أبتاعوا محلات فى العبور ؛ والرجل تدب محل ما يحب المسئول الكبير ، يتأزم العمال ،يقطنون روض الفرج ووشبرا الخيمة وبولاق الدكرور وأمبابة والساحل وقليوب ، طالت المداولات بين الأستاذ ومدير الأمن ،يفك الأستاذ رابطة العنق ،يدير رقبته الموجوعة ،يشير على الجمع برباطة الجأش ،صوت مبحوح يتحشرج :

- ( اللى يبص لفوق توجعه رقبته ).

القائد العملاق يشطر الأبدان المتحفزة ،يخب فى عدوه الواثق ، ينصح الأستاذ :

-     لا داعى للشغب .

الضباب يغلفنى ، أجلس فوق هشيم مصطبة ، لا مجال للتأمل ، ولا وقت للنكوص فى خن النفس ،أبحث بناظرى عن العمدة ، مللت التفتيش ، لم ألمحه ،أتابع المحتشدين ، بإندماج الأجساد وأنسلالها تترى الصور :

( أقعد فوق مكتبى بسكرتارية رئيس المحكمة ، ذبذبات الكهرباء تتسرب إلى الحجرة ،يتلجلج الهدوء المعتاد ، مستشارون يدخلون ويخرجون ، الفاكسات لا تنقطع ،أجمع أخبار القضاء من الصحف ، أصورها ، أرتبها فى ملف ، يتبعها مقالات المستشارين ،أعد تقريرا يصحبه الرسوم البيانية والصور التوضيحية ، فرغت من عملى بسرعة الصاروخ ، أخطط للإختفاء ساعة لحضور جلسة السوق ، وأثناء أنسلالى من الباب ، فوجئت بالعمدة أمامى ،تبدل لونى ، سوخت قسمات وجهى ، ولم أجد مفرا من أصطحابه إلى الصالون ،أجزلت العطاء لصبى البوفيه ،ليعد قهوة سادة للعمدة ،لم أقل لزملاء المكتب أنه أحد زعماء الرفض ،والزمالة تفرض عليهم الأحترام ،طوال أرتشافه القهوة ،أعصابى سابت وكأن جسدى لا يقدر على الأنتصاب :

-     ماذا يحدث لو فاجأنىا الرئيس وسألنى عن هذا الضيف ؟

-     يا عم لا تعقد الأمور فما أكثر زواره .

-     اعتاد الرئيس شكله طوال الجلسات السابقة ،وقعدته ـ دائما ـ تأتى جوار أشهر محامى البلد .

-     فأنت موظف حديث وليست لك أجنحة لتهرب من اللوم والجزاء .)

يمتشق القائد نبراته :

-     أخلاء السوق لا بد منه .

يتذكر الأستاذ بضع كلمات هاربة من السجن :

- الموت دون الأرض والعرض شهادة .

يقول رئيس المفاوضين :

-     الأرض ليست ملكا لكم ،ولكل معلم محل فى العبور .

يناور الأستاذ :

-     والشيالون الغلابة تجتث أرزاقهم تحت سنابك كبراء القوم .

المسئول الشعبى بالحى يتفقه :

-     ميكروباص بنص جنيه يحتفه فى العبور .

يتعجب الأستاذ :

-     البداية نص جنيه وبقدرة قادر تتبدل إلى خمس جنيهات .

يتوعد القائد :

-     لن يوقف الشغب تنفيذ حكم المحكمة .

أخترق الجموع المتلاصقة ، تمزق جلبابى من جراء الإحتكاك ، أقترب أكثر من دائرة التفاوض ؛ أقصد التهديد . النسور والسيوف والنجوم تلمع ،العبارات حادة وباترة ، الأستاذ يتمايل ، التجمهر لا يمثل عائقا ، فالحل بسيط ، يكمن فى فوهات مدافع المياه وأطراف عصى الكهرباء .

-     أتفيد خطب الأستاذ عن الفقراء والضعفاء والأرزاق أم شرارات السيوف المتقاطعة ستفض التجمعات المكتظة بها ساحة السوق ؟

-     ما أيسر الكلمات فى أزمنة الرخاء !

-     للعبور تكتيك وحينما تتوفر المركبات تسحق الأبدان .

تتجول عيناى بين القدود ،لا أحد من أصحاب العمائم المميزة يظهر ، شربات تتدثر جلبابها البرتقالى ، تتصدر الحشود ،تقترب منى ، وكأنها تبحث عن كنف تستظل به .

-     أتطاردنى ثانية ؟

-     - آه منك أيتها المرأة :

{ أرص أقفاص كمثرى نمرة اثنين فى الفراندة ، ركود السوق يظللنى بالسأم ، كسبى طوال الشهور المنصرمة أنفقته كاملا ثمنا لها ،أهش الذباب ، البائعون يتوافدون للفرجة ، تساومنى (شربات ) للشراء بنصف الثمن ، وجودها يصيبتى بالقلق :

-     يا ست الله يسهل لك .

-     لن يأخذهم غيرى .

جمالها الآخاذ يحثك للأستسلام ،ولكن الخسارة باهظة .

-     ربما تتوددإليها وتحظى بحضن دافئ .

-     أتخرج من المولد دون حمص من أجل أرتعاشة جسد ؟

تغادرنى ، ولم تمض ساعة ، وعربة كارو محملة بأقفاص الكتالوب تدهس فرشى ، طارت عصافير حلمى ، أقتحمت الساحة غربان الغضب ، وجدتنى أشدها من فوق العربة ، أقبض على جدائل شعرها ،أهبتها فوق الأرض ؛ يمين ، شمال ، لكمات مستيقة ، لولبية ، تتطوح قبل أن يغمى عليها ، الأمم تشق غلالة الهدوء بسكاكين الضجيج ،ينزعونى من فوقها ، لم يتبق فى أنسان ، بل عضلات ثائرة ، ومخ عصره الخبل ، وخيل تيبست حركته ، أنقسم الناس فريقين ، فريق يطببها ،والآخر يثبت عزمى متطوعا بلم ثمار الكمثرى المنثورة هنا وهناك ، عدوت إلى محل العمدة ، وأمتشقت سنجة وشومة ، فالمعركة لم تبدأ بعد ، دقائق وعشاقها يتوافدون من شتى الأرجاء ، وأيديهم تقبض على الهراوات والسيوف ، لا وقت للتفكير أو التراجع ؛ فالموت آت لا محالة ، أى نعم الرعب ينغلنى ، أنحرفت أقصى يسار المربع متخذا من الحا ئط درع لحماية ظهرى ، طقت عيناى شرارات تحرق العالم بأسره ، وأثناء الأستعداد للقتال نهضت (شربات ) وحالت بجسدها دونهم ، نهرت فرقتها المتأججة بالسلاح ؛ فأنكسروا متراجعين .}

تستجير (شربات ) :

-     العدل يا بهوات .

يتحرش بها أحد الضباط فيزجره كبيرهم ، ولكن عدودة تنطلق من مرقدها :

-     فى حشاى صراخ البطون .

يربت مدير الأمن على ظهرها الناعم الطرى ، يدغدغ حواسه الملمس ، فيعيد المشهد ثانية ، تنسال منها التوجعات :

-     أجرى على عائلة كبيرة ، أولاد وراء أولاد ، وأبوهم طق ومات .

الرابت ينصحها :

-     العبور مثل روض الفرج ، بل فى العبور حدائق وكازينوهات وأرض واسعة لا تحيط بها العيون .

تتعطن الوجوه ، دوامات الجمهور تتسع أقطارها ، تلتهب القمامة بأعقاب السجائر ، كل فرد يدور حول الآخر، وكأننا فى زار ، صخب الموسيقى يحفز الأجساد للرقص :

{يعبث بى التاريخ ، نافوخى سلة مهملات ،فلأعرج إلى الجامعة ، أمتطى سور كلية الحقوق ، عبد الخبير عطا يصول ويجول فى المدرج شارحا فلسفة الطرد فى الدول النامية ، مؤكدا سبق شهريار فى هذا المضمار ، واحتذاء عشتار لهذا التأسى ، ضاربا بتاريخ الحوادث وجوهنا المكفهرة و بطوننا الجائعة و أفئتدتنا المرتبكة وأخيرا طردنا متهما عقولنا بالبلادة ، وفى الغرفة المجاورة ( أبو الحسن الخطيب ) يشيد من الطلل برجا عاجيا ، يستخلص نظريته المغلوطة فى القانون العذرى ، نثره الخبل فأنسربنا واحدا وراء الآخر .}

يتسلق الأولاد العنابر فى لمح البصر ؛ لتمتلئ الأسطح بهم ، تتكوم زجاجات المياه الغازية فوقها ، تجاورها أكوام الطوب والدبش ، نيران التأزم تشتعل بشتى الأرجاء ، المفاوضات لم تكتمل ، الأطواق الأمنية تعزل منطقة السوق عن العاصمة ، لا أحد يجرؤ على الأختراق ، صليل الاحتكاكات تصم الآذان ، يتداخل الجمع فى الجميع ، أمتطى حصان أوهامى ، أناضل طواحين الهواء العملاقة ، شربات تتدثر ثياب العرى ، لا أحد يوقف جنوحها ، تمزق الأردية الرسمية ، ينهطلون خلفها ، تسجنهم فى زنزانة دائرية ، سيا جها أناس أصابهم الخبل ، بنادقهم المحشوة بالرصاص تتعطل ، السماء تمطر حجارة وزجاجا ، تتوه الدلالات :

-     ما هذا الذى أراه ؟

وجوه لم أشاهدها من قبل ، يتشعب الجمع إلى فرق تتقاتل ، أضحى العراك الحقيقة الوحيدة الماثلة أمامى ، أنتفض الثأر البائت من مرقده ، أكتظ الميدان بعربات الأسعاف ، يضيق الحصار ، أمارات الأنكسار تكسو الجميع ، ساخت القبضات الفولاذية فى هلامية المشهد ، الجدر والأسطح والأرض والناس وخراطيم المياه يتداخلون ، وكأن سلطان العبث يمارس هوايته .

وسوم: العدد 655