الهالة

فدوى محمد سالم جاموس

إنه انقلاب حقيقي ، ذلك الذي طرأ على تلك البائسة ، إلاّ أنه ليس من النوع المفاجىء ، إنما حدث بالتدريج وبتطور غير رتيب ، بدرجات ترتفع حيناً ارتفاعاً غير عادي ، وحيناً بدرجات أقل ارتفاعاً ، إلاّأنه مستمرّ في التزايد والارتفاع .

لم يكن كلام الناس وحده ، سبباً في تدمير هذه الشخصية التعسة ، بل هو مزيج من استعدادها النفسيّ ومكوّنات شخصيتها ومؤثّرات بيئتها ، وكلام مَن حولها من عباد الله ، الذين لا يقيمون لكلماتهم أيّ وزن ، ولا يقيسون مشاعرهم وتصرفاتهم وحركاتهم وسكناتهم بأيّ مقياس . إنها باختصار ، وبالدرجة الأولى ، ضحيّة نفسها قبل كل شيء ، ثمَّ هي ضحيّة مَن حولها، وما حولها .

وفي كل الأحوال هي ضحيّة وحسب ، وربمايصحّ عليها اسم فريسة،  فريسة نصبت شباكها للصيد ، إلاّ أنها لم تصِد سوى نفسها المريضة البائسة . إنها هند ذات الشعر الأشقر ، والعينين الجميلتين . تختال بربيع عمرها مزهوة فرحة ، كنسمة من نسمات الربيع .. فقد خيّـل إليها أنها شمس ، يدور في فلكها كل مَن حولها من صديقات وأتراب . لعلّ أمّها كانت السبب في ذلك ؛ دفعتها إلى هذا الإحساس بالتميّز! أو لعلّ زميلاتها هنّ اللواتي تسبّبن بأزمتها النفسيّة القاتلة اللذيذة هذه ، بقصد منهن أو بغير قصد. ولعلّ جمالها نفسه ، ولديها قسط وافر منه ، هوالدافع الأول،الذي دفعها إلى منحدر لم تكن تدري ما نهايته ، في حين أنها تحسب نفسها تصعد على سلّم يرتقي بها إلى السماء .أو لعل هذه الأسباب مجتمعةً ، كوّنت لها هذه الأزمة ، التي لم تكن تحسّ بشيء منها سوى ما يتعلّق بالهالة ، هالة الوهم التي نُسجت حولها ، بفعل كلّ ما تقدم ، وبفعل السلوك اليومي ، بسائر تفصيلاته ومفرادته وجزئياته الصغيرة . لقد تشكّلت حولها هالة حقيقيّة ، نسجَها الوهم الذي تفرزه نفسها المغرورة البائسة ، والذي أصبح لها كشرنقة تحيط بدودة قزّ غافلة ، تفرز من فمها نسيجاً يخنقها . إنّ هالتها هذه هي عالمها الذي تعيش فيه: تأكل في داخله ، وتشرب ، وتتنفس ، وتنظر، وتبتسم، وتقوم ، وتقعد ، وتسبح في بحر الأوهام .. فهالتها هذه أصبحت لها كالماء للسمك ، إذا خرج منه مات ..

فقد نمت وترعرعت معها، وتكاثفت بعدد أيامها الحلوة .. فعمر هالتها من عمرها ، فهي الحضن الدافىء لها، ومبعث راحتها النفسية ، بل ومصدر سعادتها في هذه الحياة . فكل إعجاب بجمالها، أو نظرة ارتياح ، أو همسة، أو كلمة عابرة ..  غذاء لهالتها ، بل رصيد جديد في رفع معنوياتها ..!

وما أتعسها وأتعس اللحظة التي تعيشها ، عندما تمرّين بجانبها لا مبالية ! إنها لحظات قاتلة مريرة ! وأمرّ من ذلك كله ، ذكر مَن هي أجمل وأحلى ! فإن فعلتِ ، طعنتِ شرنقتها ، بل كدت تمزّقينها ، وتمزّقين عالمها بكامله !

ما أقسى ان يربط الإنسان عالمه ونفسيته ، بما هو زائل ، وآنيّ ، وفانٍ ! تنظر مِن حولها فترى العِلم والثقافة ، وسموّ الخلق ، فلا تلقي لها بالاً .. إنّها جميلة وحسب ، وهذا في عالمها يكفيها ، وحسبها هذا . وهاهي ذي تضع رجلها نحو أول درجات السلم منحدرة ..إلى أين ؟ لا تدري ! لقد لبّت رغبةَ معجَب مِلحاح ، يؤيّد نظرتها في الحياة ، ويمجّد جمالها . كان فارس أحلامها ، تلك الشخصيّة التي رسمتْها في مخيلتها وباتت تحلم وتحلم ، فتركت دراستها، وبَعُدت عن كتبها ومدرستها وصديقاتها ، ورضيت به ، وارتبطت به زوجاً وشريكاً تقاسمه الحياة .

وكانت ليلة زفافها ليلة العمر.. ماأسعدها وهي تختال بحسنها وجمالها ودلالها، تتيه بين صديقاتها وأخواتها ، وهنّ يثنين على جمالها في كل حركة ، ونظرات النساء من المعجبات تلاحقها ، نظرة إلى ملابس الزفاف ، ونظرات إلى فتنتها وسحرها ! إنه يوم لايُنسى في ذاكرتها ، وهاهي ذي تستعدّ للسفر مع شريك حياتها إلى بلاد " العم سام ". تركت وطنها وأهلها وصديقاتها ، وسارت إلى جانبه.. نظرت إليهم مودّعة باكية ، وفي أعماقها الفرح والسعادة .. إنه عالمها الذي طالما حلمت به ..

اقتلعت جذورها واجتثتها من وطنها ، لتزرعها نبتة جديدة في عالم جديد . وما إن وضعت أقدامها على تلك الأرض ، حتى رأت التناقض العجيب في أجلى صورة ، وفي كل أنماط الحياة.. فالمادّة تطغى عليها وتلفّ أطرافها ونواحيها .. إنه عالم غريب :

رفاهية وتعاسة .. صخب وملل .. حريّة وجور .. رياء ونفاق ..!

هاهوذا زوجها يعمل صبحاً ومساء ، ولا يعود إلى البيت إلاّ في ساعات متأخّرة من الليل ، تعباً منهكاً، ينام ملء عينيه ، ليستأنف نشاطه وعمله من جديد .. لا وقت لديه للعواطف ، فالحياة هناك تفرض نفسها بكل ثقلها المادّي . لقد وجدت نفسها في دائرة مفرغة ، تدور معها تعاستها . ذَبلت أحلامها ، وتلاشت آمالها ، وتساقطت ورقة ورقة ..

عاشت في ضياع وغربة . لا شيء يملأ فراغها النفسي .. لقد أضاعت نفسها ،وذاقت من الوحدة والغربة أصنافاً. دُمّرت ، ضاعت ، يئست . لم يبق َ لديها أمل لتعيش من أجله ، شعرت بتفاهتها وتفاهة جمالها.. لايعقَل ان تكون الحياة مادّة وحسب. ماأتفهها إن كانت كذلك ، فلا سهرات لهو ، ولا ملابس حرير، ولا رحلات ترفيهيه مختلطة تبعث الحياة في  نفسها . إنها بحاجة إلى شيء ما ، إلى ثورة تغيّر حياتها، تعطيها أملاً بالعيش ، تشعر أنها إنسانة من جسد وروح ، إنسانة بكلّ معنى الكلمة ..!

تنظر في السماء ، تتأمّل طويلاً ، علّها ترى بارقة تحيي نفسها المتعبة المدمّرة . تعود إلى نفسها ، فتشعر بتقصيرها وغفلتها . تطرق ذاكرتها آيات الذكر الحكيم { ألمْ يأن للذين آمنوا أن تخشعَ قلوبهم لذكر الله وما نزلَ من الحقّ } فتداعب نفسَها الحزينة .. تحسّ بشيء ما يدبّ في عروقها ، فترتعش وتخرّ ساجدة لربّ العالمين . يسري النور في أوصالها، فتصلّي وتبتهل ، وتدعو وتستغفر. لقد غسلت دموع عينيها نفسَها الحزينة ، غسلت ما ران على قلبها ، غسلت شقاء السنين والأيام  ورأت بأمّ عينها كم كانت بعيدة عن الله ، وكم قصّرت في حقّ نفسها، وحقّ ربّ العالمين وهو يدعونا صباحاً ومساء ، لعبادته وتلاوة آياته ، ففيها حياتنا، ومبعث سعادتنا، ومنهل سرورنا ! فتقوم الليل وتصوم النهار ، آملة أن يغفر الله لها ذنبها ، فتبكي بمرارة وحُرقة . يّشع أمل الغفران في نفسها، حين تسمع قوله تعالى :{ قلْ ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفرالذنوب جميعاً} .

وتشرق نفسها إيماناً وخشوعاً ويزهر وجهها ، وتطيب روحها بهجة وحبوراً ، فتنسج حول نفسها هالة النور والإيمان ..

وفي جمال النفس يكون كل شيء جميلاً ، فهي باسمة أبداً ، يتلألأ وجهها كالفجر ، فالحبّ الإلهي تشعّ روحانيته في كل الأشياء ، فيغير الحالة النفسيّة للإنسان، فتتغيّر نظرته للأشياء ، وتتجدّد الحياة ، وتتكاثف هالة النور. ففي كل حركة وسكنة وتسبيحة ودعاء وعبادة ، تزداد هالتها كثافة ، فتغدو وتروح ككوكب منير، تضفي على نفسها ومَن حولها سعادة وحبوراً، فتداوي أرواحهم بحبّ الله . وتصّمم أن يكون هدفها الدعوة إلى الله .. ففيها السعادة الأبديّة ..!

وسوم: العدد 665