أسرة بانجو

د. محمد أبو زيد الفقي

لم يستطع الأستاذ زارع الحصول على دراسة جامعية، وعاد إلي قريته النائية، ومعه زوجته نوجا التي تزوجها من أحد أحياء القاهرة التى تشتهر بتجارة المخدرات، وربما كان حب نوجا والانشغال بها سببا في تخلفه عن الدراسة، ولكنه لم يندم على ذلك.

بل أخذ يردد ما يغنيه عبد الحليم حافظ: [ قد تغدو إمرأة يا ولدي يهواها القلب هي الدنيا ]، وعاد إلي قريته غير حزين على شيء، وكان هو الابن الوحيد لأبيه، ولم يكن زواجه من نوجا من خلف ظهر أبيه، بل كان بعلمه وبدعمه، إضافة إلى افتخاره بين الفلاحين بزواج ابنه من البندر.

في القرية التقى زارع بعبد الستار زميله  في الدراسة والذي لم يوفق في إنهائها بسبب فقره وموت أبيه وهو في المرحلة الثانوية، فكان عليه أن يرعى أسرة كبيرة فيها البنين والبنات، فعمل بالزراعة، وعلم إخوته وأخواته وزوجهم واستقل هو بنصيبه من الأرض، لكن بعض إخوته تنازل له طواعية حتى أصبح يمتلك خمسة أفدنة، وهي نفس المساحة التي امتلكها زارع صديقه بعد وفاة والده.

كان الصديقان يتجاوران في الأرض، وفي المسكن، ويعيشان في ظروف مادية متقاربة، وقد رزق زارع بولدين من الذكور، أما عبد الستار فقد رزق بولدين وأربع بنات، وحاول تعليمهم جميعا، ولكنهم لم يتخطوا مرحلة الدبلوم، أما زارع فقد وصل نجلاه إلي الثانوية ومنها إلي كلية الصيدلة في الجامعة.

ذهبت نوجا زوجة زارع إلي زيارة أهلها، ولكنها اكتشفت معاناتهم من ندرة المخدرات الجيدة، وذات مساء وهم يتسامرون في بيت ست الحبايب، سألها أخوها فجأة: ألستم تملكون أرضا يا نوجا؟

ـ نعم عندنا خمسة أفدنة.

ـ لدي مشروع يجعلكم تأكلون الشهد.

ـ ما هو يا سيد المعلمين؟

ـ عندي تقاوي لأجود أنواع المخدرات.. يمكن زراعتها عندكم .

ـ لكن هذا خطر علي زارع، وربما علم الناس بذلك وأبلغوا الشرطة!

ـ يا ستي لن يعرف أحد، لأن البانجو يشبه الملوخية أو بعض الأعشاب التي تظهر في المحاصيل وسوف نزرع مرة واحدة في العام صيفا داخل زراعات الذرة ولن يشعر أحد بذلك، وربما زرعنا الحشيش [ القنب ] والخشخاش، وهو يشبه الخرشوف من ناحية الوصف، والفلاحون لن ينتبهوا لذلك أيضاً.. المهم،السر يبقي  بينك وبين زارع فقط.

عادت نوجا من القاهرة بعد زيارة أهلها وجلست مع زارع  وعرضت عليه الأمر، وأبدي معارضة ضعيفة في البداية لكن مع الدلال والإصرار وافق وقام بزراعة الأرض كلها بالذرة في موسم زراعته، وأحضر له صهره التقاوي، واستخدم في الزراعة طريقة غاية في الذكاء، فزرع الحواف الخارجية زراعة كثيفة أكثر من الزراعة العادية، وفي الداخل جعل الزراعة علي مسافات متباعدة تسمح لنباتات المخدرات بالنمو، وعاما بعد عام  ظهرت علي زارع آثار الثراء والغنى، ولم ينقطع يوما عن صلاة الجماعة في المسجد، وكان الفلاحون يعتبرون هذه الثروة عطاء من الله، وكرامة لزارع، وكان يجلس مع صديقه عبد الستار، فيبدو عليه الانشغال بذكر الله، ولكنه كان يتصنع ذلك ليهرب من أسئلة جاره عبد الستار، وكانت خضرة زوجة عبد الستار  تجلس مع نوجا كثيراً، وأحيانا كان الحديث يتطرق إلي هذا الثراء المفاجيء وكانت نوجا تقول لها: إن زارع زوجى لا ينام من كثرة العمل والتجارة، فكانت خضرة تنقلب على زوجها مؤنبة، وموبخة، تتهمه بالكسل، وتقول له: البنات أصبحن في سن الزواج، والأولاد أيضا، وأنت لا تتحرك، وجارنا زارع لا يخرج من الأرض، ويقطع الملوخية ويوصلها للقاهرة بنفسه أو عن طريق أصهاره ثم يتاجر بعد ذلك في كل شيء، وعرفت من نوجا أنهم اشتروا أرضاً في عاصمة المحافظة لبناء عمارتين [ برجين ] لكي يكون لكل ولد برج خاص به.

فكر عبد الستار طويلا في حل هذه المعادلة، وقال: لماذا لا أزرع أنا الآخر ذرة مثل زارع؟

وأزرع بداخله شيئا آخر كي لا يكون بيننا تنافس، إذا كان هو يزرع ملوخية، وخرشوف، وقلقاس، فأنا سأزرع فجل وجرجير، وكسبرة، وبقدونس، وبصل، وعلي عربتي الكارو سأبيعه في المدينة.

أما الأخ زارع بعد أن انتهي من بناء البرجين في المدينة بخلاف أنه هدم بيته في الريف وحوله إلي قصر، وحضر ولداه من الجامعة بعد الحصول علي بكالوريوس الصيدلة، وناما معا في غرفة واحدة وأشعلا مدفأة لمقاومة البرد، واستغرقا في النوم بسبب عناء السفر لكن المدفأة امتصت كل الأكسجين الموجود بالغرفة، وعندما فتحت نوجا باب الغرفة لتدعوهما للفطور وجدتهما قد فارقا الحياة وأقيمت جنازة مهولة، وفي اليوم الثالث للجنازة رأى الفلاحون قوات الأمن  تملأ الأرض وتحيط بالمنزل وظنوا أن الحكومة جاءت  لتقديم خالص العزاء، ولكن الأمر كان علي خلاف ذلك، فقد تم القبض علي زارع  بسبب زراعته للمخدرات وأثناء الاستجواب اعترف علي زوجته وصهره، وحكم على الجميع بالسجن المؤبد.

وكانت للنقلة الكبرى من القصور الفارهة إلي سكنىَ السجن التي تشبه سكنى القبور أثرها على زارع وزوجته نوجا بماتا داخل السجن وصادرت الدولة البرجين بحكم قضائي، وسكن القصر في القرية البوم والغربان، وكان عبد الستار كلما نظر إلي بيت جاره تغشى عينيه الدموع ويتمتم قائلاً: رب كما عجّلت لزارع وزرجه العذاب في الدنيا اجعله كفارة لما فعلاه وارحمهما في الآخرة.

وسوم: العدد 666