إكراماً لله

إسماعيل يشتعل النار في قلبه، الضيق يخنقه، لهيب النفس إذا امتد منع النوم عن صاحبه كيفما تحرك تراءى له جاره وابن قريته (حمد) يريد أن ينتقم منه، لقد أهانه أمام مجموعة من أهل القرية، ولم يستطع أن يدافع عن نفسه، قد يكون الخلاف بسيطاً على رعي ماشيته في أرض جاره (حمد)، وأن أولاده قد نقلوا إليه أن أولاد جاره (حمد) سبقوهم في السقاية بئر القرية، قلبه يفور غيظاً، ويسعى إلى الضرر بجاره.

- أصغى (إسماعيل) في مضافة القرية إلى أحاديث يتسامر بها أهل القرية عن المحاكم، وأن الإنسان إذا كان مظلوماً، يستطيع أن أن يرفع دعوى ضد الظالم، وأثنى الحاضرون على /الحاج صالح/ (عرضحالجي) كاتب الاستدعاء أمام السراي الحكومية، وأنه عتيق في صنعته منذ أيام فرنسا، وأنه يعرف ما تحتاج إليه المحاكم، ويعرف لغة القضاة، وتكلم الحاضرون على براعة الحاج صالح في الخط، وأن أهل القرى المجاورة يثقون به.

- خرج (إسماعيل) من المضافة وقد أضمر أمراً للوقيعة بجاره (حمد) وانتظر الفجر.. حتى يركب سيارة القرية ويذهب إلى حلب ويقابل (الحاج صالح) ويطلب منه أن يكتب له طلباً إلى القاضي وإلى المخفر بمعاقبة جاره (حمد) لأنه اعتدى عليه بالضرب بعصا غليظة.

- وصل (إسماعيل) إلى السراي فشاهد جموعاً كبيرة من الطلاب، أخبره (الحاج صالح) أن هؤلاء الطلاب يحتفلون بإسقاط حاكم سورية أديب الشيكلي، في ذلك اليوم عرف (إسماعيل) من يحكم سورية، فهو لا يهمه في الحياة إلا ماشيته وزراعة القمح والشعير.

- تحلّق حول (الحاج صالح) عدد من القرويين كل واحد يعرض أمره، ويطلب منه أن يدون طلبه، الحاج صالح يترك الكتابة ويخوض في مواضيع جانبية مع جاره الذي يجلس بجواره على كرسي وأمامه طاولة صغيرة يكتب عليها، سمع (إسماعيل) عن بناء السراي أمام القلعة وأن رئيس الجمهورية تاج الدين الحسني هو الذي وضع حجر الأساس، وأن مكان السراي في الماضي كان سوق الجمعة، وهو سوق شعبي يقصده سكان حلب لشراء كل حاجياتهم بأسعار رخيصة، وأن أرض المشفى الوطني كانت سوقاً لبيع الدواب.

- الصور التي شاهدها (إسماعيل) في المدينة والحكايات التي سمعها، أخذته إلى عالم آخر، أدرك أن عالم المدينة يحرك العقل وينير البصر، شعر بالسعادة وتمنى أن يعيش في المدينة.

- استيقظ (إسماعيل) من خيالاته ومشاعره على صوت (الحاج صالح) يدعوه ليكتب له ما يريد.

- تعلقت عينا (إسماعيل) بالحاج صالح، جمدت الكلمات في فمه، حبسه المشهد، يجلس الحاج صالح على كرسي من القش وامامه طاولة صغيرة عليها أوراق بيضاء، ترتجف أعمدتها لهرمها الفاجع.

- زاغت عينا (إسماعيل) وهو يراقب رأس (الحاج صالح) الذي يحركه يمنة ويسرة، وقد أطبق عليه طربوش أحمد قديم.

- شعر 0إسماعيل) بحرارة قمة، وأن لسانه قد دبّ به النشاط.

- أريد أ يا حاج صالح أن تكتب طلباً لي ضد ابن قريتي (حمد) الذي يؤذيني، وأريد أن يكون الطلب شديداً وجيداً حتى أقدمه للمسؤولين، وينال (حمد) العقاب الذي يؤدي به إلى السجن، وهذا يفرحني ويسرني، وأنا واثق بمقدرتك، لأن أهل القرية يثنون عليك.

- حرك (الحاج صالح) طربوشه وحك شعر رأسه..

- قال: لـ(إسماعيل) كتابة طلب الدعوى بربع ليرة، ومطالبتك لي بالكتابة القوية ضد جارك (حمد) يتضاعف المبلغ، فيصبح نصف ليرة، وطابع الطلب بـ45 قرشاً، المجموعة ليرة سورية وسامحني بالفرنك.

- فك (إسماعيل) العقدة في طرف منديله وأخرج منها ليرة سورية، أعطاها للحاج صالح.

- بدأ (الحاج صالح) بالكتابة، راقب (إسماعيل) وجه (الحاج صالح) وجده بتموج كفوهة البئر عندما يُرمى به حجر، شعر بأهمية الكتابة، خلع حذاءه، وجلس أمام (الحاج صالح) وهو يحدِّق فيه يريد أن يعرف النتيجة.

- انتهى (الحاج صالح) من الكتابة وقال: يا إسماعيل، كتبت لك طلباً يأخذ جارك إلى السجن إذا تجاوب معك مدير المخفر، عليك أن تكرمه حتى يساعدك.

- بدأ (الحاج صالح) بقراءة بعض العبارات التي جاءت في الطلب.. تضاعفت مشاعر (إسماعيل)، شعر بثقل المنديل على رأسه فطرحه أرضاً وهو يستمع إلى وصف اعتداء (حمد) عليه.

- جحظت عيناه واسترخى فمه وهو صامت ساكن كالحجارة.

- أقدم (حمد) عليّ وأنا بالطرف الغربي من القرية، استوقفني والشرر في عينيه، اتهمني بأنني أشجع أولادي بالعبث بأرضه وزرعه، ثم ارتفع صوته بالسباب والشتائم، وحين دافعت عن نفسي وعن أولادي، رفع عصاه وانهال به على رأسي وجسمي، وشعرت أن دمي بدأ يسيل على ثيابي وقد حجب الرؤية عني، فبدأت أصرخ وأنادي أهل القرية بالنجدة لي.

- سمع إخوة (حمد) صوتي ولم ينقذوني من ظلم أخيهم، بل ساعدوه بالضرب حتى أغمي عليّ. وتركوني بلا حراك. وهربوا إلى بيوتهم.

- عندما تعالت الأصوات أقبل بعض أهل القرية إلى مصدر الصوت فوجدوني ملقي على الأرض، وقاموا بإسعافي ورش الماء عليّ حتى صحوت، وأنا (إسماعيل) أطلب من القضاء أن يقتص من (حمد) وأن يأخذ حقي ويعاقبه على الاعتداء عليّ وأن يحاسبه على الدماء التي سالت من جسمي، وأن يحاسب إخوته على مناصرة أخيهم وضربهم لي بالحجارة حتى أُغمي عليّ، وأنا أطلب من القضاء العدل في أمري.

- انتهى (الحاج صالح) من القراءة، ونظر إلى (إسماعيل) يريد أن يثني عليه لهذه الكتابة المبدعة، فشاهد (إسماعيل) كالحجارة لا حركة فيها، وجه تفحّم بالسواد، كأن الدم قد غادره فزعاً.

- رفع (الحاج صالح) صوته، سائلاً: يا إسماعيل ما رأيك في الكتابة.

- كرر (الحاج صالح) نداءه و(إسماعيل) صامت ساكن.

- لحظات من الجمود... ثم فتح (إسماعيل) فمه وقال:

- كل هذه الأمور جرت معي، وأنا لا أدري بها!!

- حمداً لله على سلامتي.

- تحسس (إسماعيل) جسمه فوجده سليماً تتحرك فيه الدماء، وتدب فيه الصحة. شكر الله على نعمه.

- أخذ (إسماعيل) ورقة طلب الدعوى ضد (حمد) ومزقها.

- تعجب (الحاج صالح) من عمل (إسماعيل) وسأله عن سبب عمله..

- قال له: إكراماً لله.. الذي منحني الصحة. وسوف أذهب إلى القرية وأعانق (حمد) وأكون صديقاً له.

وسوم: العدد 666