السيسي

عصام الدين محمد أحمد

يطوف أرجاء السوق ، يتسكع بملابسه المتسخة ، تتنسل خيوط جلبابه واهية النسج .يراقبه "السيسى "ساعة ، ساعتين،يتلصص خلفه من حلقة إلى أخرى. تتداخل النداءات :

- قشطة يا جوافة " زى " البنور .

تتسابق الصيحات :

حلو يا بلح حيانى ، رطب يا إمهات ، يا سيوى .       

وفتحى ـكعادته ـ يتجول عسى أن يفوز بأرخص الأسعار :

- مانجو التحرير ،يا تيمور باشا .

يهرب المعلمون منه ،يتشائمون من وجوده ،فيكيلون له التوبيخ :

- فونس الخواجة ياهندى .

وذاعت كنيته بالبارد واللحوح ؛ فهو الوحيد الذى يفطس السبوبة بلا رحمة :

- الحقنا يا عم عويس .

أكتسبت أنوفه قدرة لشم الفرائس تفوق حاسة الكلاب المدربة ، فعلى بعد

مئات الأمتار يشتم  جيفة  المعروضات النا فرة عنها رغبات البا ئعين ، ينقض عليها كالأسدالجائع ، يعرض ربع ثمنها الحقيقى ،يستغل موت السوق ، وأكرام الميت دفنه ، ويندر وجود اللاحدين فى هذا الوقت ، يتعزز فتحى فى الشراء ،تجذبه الأيادى والأفواه :

- يا زبدية اللبن الرايب ، والبلدى يؤكل يا خد الجميل .

لا يهتم ؛ فهو الحانوتى الوحيد ، يشكو خسارته الجسبمة ، والتى لن تعوضها الأيام والليالى ، تدمع عيناه بغزارة ، يهبط جا ثيا بين أقفاص الفاكهة على ركبتيه ،ينوح كالثكلى :

- عوضنا ياعم بكرتونة فص .

ورويدا رويدا ينزل المعلم السعر حتى يرضى ،و "السيسى " يتبعه بمجهره ،يلاحقه إينما تحرك ، أبدى مساعدته حتى ينتهى من تحميل أقفاص الفاكهة على سيارة نصف النقل ،وطلب له شايا وشيشة ، فرح "فتحى" بمجانية المشروبات وتحدث بصوت معتدلة نبراته :

- لماذا يدعى الناس أنك أشهر حرامى فى السوق ؟

ها هو مزلاج الباب المغلق ينزاح عن موضغه ،فيرد عليه :

- الناس تحفر عن الحجج الجاهزة ، وأنا حجتهم .

يعاجله فتحى بالحكمة الشعبية :

- مفيش دخان من غيرنار.  

ينتفض" السيسى" مدافعا :

- الحرامى وشيلته يا معلم ، هل رأيتنى أسرق ؟

يصمت  "فتحى" ليبدل القهوجى حجر المعسل المتفخم  بآخر ،يدفع "السيسى" ثمن المشروبات ، يلعن صبى الغرزة ، فيبا د له الأخير السباب ، وتنشب عركة من غير لزمة ، يحاول فتحى فض الأشتباك ، تنطفئ الجمرات ، يلقى "السيسى" بسنارته :

- الكتالوب "مرطرط" عند العمدة ،ولا أحد يشترى.

فى غمضة عين ذاب "السيسى" فى مياه السوق،و"فتحى" تتراخى خطواته ، يقصد وكالة العمدة ، مئات الأقفاص الجمالى المليئة بالكتالوب معروضة ، البائعون قليلون ، هرب السوق بجلبته ،يصيح:                          

- معانا كام فى كام . 

يردد ،يختبئ البائعون ،يبزغ نجم "فتحى " القا ئل :

- عشرة فى عشرة .

يتجاهله العمدة ،فجأة يظهر "السيسى" ، يقول :

- عشرة فى الكل .

يتأ مله العمدة ، يكرر نداءه ،"السيسى" يؤكد :

- الدقع نقدى وفورى .

يبارك العمدة البيع ، دقائق وينهار "فتحى"، ينسطح على الأرض ،أسود وجهه ، ضا قت أنفه المفرطحة، سالت المياه اللزجة من فمه الفاغرعن آخره،وكأنه بالوعة طافحة ، أرتسمت لوحة جسده على الأرض ، اليد تعانق القدم ،الرقبة تنحنى فوق الركبة ، دلقوا فوق رأسه المياه الساقعة ، سكبوا فى فتحتى أنفه زجاجات الكولونيا ، شمموه فحول البصل الحارقة ،ولكن الوعى غائب عنه ،الإدراك غادره بلا رجعة ،ربما يكون قد فارق الحياة ، فالحياة قد فارقته منذ زمن بعيد ، لا أحد يفكر فى أستدعاء الأسعاف ،أخيرا تحرك العمدة ، وضع ورقة فئة عشرين جنيها فوق أنفه ،فتململ مطرحه وكأنه يأبى الأنزواء ، ويلتمس اليقظة ، ولسان العمدة يلهج :

- قم ياأخينا وشف حالك .

هل "السيسى "يصحبه رفاقه ،الحمالون يدلقون الكتالوب فوق سطح  سيارات النقل ،و"فتحى" كالفأر الخارج من قبره توا ، يتزحزح ليركن جوار نصبة " كمال حسوبة" ،يطلب له "السيسى"قرفة وشيشة ،يسندهما القهوجى أمام "فتحى"الذى لا يقوى على الحركة ، ينده العمدة على "السيسى "موبخا :

- كل باكو تنقصه ورقة بعشرين .

يلطم "فتحى خدوده صارخا :

-          فلوسى يا بوى ،يا خراب بيتك .

يتوه "السيسى ":                                              

{رحاية الأيادى تطحن عظامى ،أضحى جسدى عربالا منسولا ،أبتلعت شريط برشام صراصير،أمتزجت دمائى به ،وإيلام الضرب لاحدود له ؛من ضابط مكفهر لأمين مستغل ،ومن صول منتفخ الأوداج لعسكرى فظ ،ومن وكيل نيابة مغرور لقاضى مستعجل ،يحكم بثلاث سنوات سجن ،زعقت :

-          لم أسرق .

الأوراق المزورة تواطأت،ألصقت بى سرقات روض الفرج ،فرصة لن تعوض لإغلاق كل محاضر السرقة القديمة .}

يفيق على ركلات العمدة له ،ونبراته تحتد:

- حاضر سأدفع المبلغ الذى نقص .

يرتمى "فتحى "فوق قدمى "السيسى" ، يلحسهما ،يرجوه :

- اعطنى الباقى والله يسهل لك .

تهدا عضلات "السيسى" المفتولة والمزدانة بآثار الخناجر:

{يجلسون وينامون وأنا واقف، شفرات أمواس الحلاقة تحفر ندوبافى وجهى، لا أدرى لماذا يقتصون منى ؟

ألضم خيطا سميكا فى أبرة خياطة رفيعة جدا،لا أنجح ،تكرار المحاولة فرض رهبة ، يلتفون حولي في دائرة ، يستعجلون الأنتهاء ، كبيرهم يعلن حفل زفافي الليلة أن لم أفلح ، يعدون فراش العُرس ، والعريس يترقب المشهد ، أيقنت الآن أن الأبرة غير مثقوبة ، عشر ساعات كاملة أستغرقها المشهد العبثي ، وأمسي الأمر مزحة أخشي تطورها ، فأنتقضت عروقي ، نشبت أظافري في عنق الكبير ، أستميت في هجومي ، لم يخلصني منه سوي بطش الضابط المقيم }

بكل مآسي العفونة المترسبة قبض فتحى علي رقبة السيسى وغارت الحوافر الكاسرة في العنق المتصلب من هول المفاجأة ، عصي تتهاوي ، رجرجات عنيفة للفصل بينهما تهمد ، الألسن ترتفع و تنخفض ، تقترب الكاميرا أكثر ، الشوارب الكثة تتراقص بعنف فوق الشفاه ،تتوارى الأوجه الناعمة خلف أكف الأيادى المتشنجة ، كلمات تتجه شرقا وأخرى تتجه غربا.

تمت بحمد الله

وسوم: العدد 668