حديث الإفك

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

إن من شناعة الجرم وبشاعته أن يتناول المنافقون بيت النبي الكريم وعرضه الطاهر الشريف بالإفك، وهو عليه الصلاة والسلام أكرم إنسان على الله، وعرضَ صاحبه الصدِّيق رضي الله عنه أكرم إنسان على رسول الله صلى الله عليه وسلم .وعرض رجل من الصحابة هو صفوان بن المعطل، يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم  أنه لم يعرف عليه إلا خيراً.

 هذا الإفك الذي شغل المسلمين في المدينة شهراً كاملاً.. كان هذا ثقيلاً جداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم  وعلى المسلمين.. هذا الإفك الذي كاد يعصف بالمجتمع المسلم، لولا فضل الله تعالى الذي أعاد إلى قلب رسوله  الطمأنينة والسكينة ولجَمِ أفواه المنافقين ومن انجرف معهم من المسلمين الذين ثابوا بعد ذلك إلى رشدهم، وعرفوا عظم ما جنَوه، في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم   وحق أهل بيته الطاهرات..

هذا الحادثةُ.. حادثةُ الإفك، قد كلّفتْ أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلها آلاماً لا تطاق، وكلّفتِ الأمة المسلمة كلها تجربة من أشق التجارب في تاريخها الطويل، وعلَّق قلب رسول الله ، وقلب زوجته التي يحبها، وقلب أبي بكر الصدَّيق وزوجته، وقلب صفوان بن المعطل، شهراً كاملاً، علقها بحبال الشك والقلق والألم الذي لا يطاق.

فلندعْ عائشة رضي الله عنها تروي قصة هذا الألم، وتكشف عن سر هذه الآيات.

عن الزهري عن عروة وغيره عن عائشة – رضي الله عنها – قالت:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم  إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيتهنَّ خرج سهمها خرج بها معه؛ وإنه أقرع بيننا في غزاة   فخرج سهمي، فخرجت معه بعد ما أنزل الحجاب، وأنا أُحمل في هودج، وأنزل فيه. فسِرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم  من غزوته تلك، وقفل راجعاً، ودنَونا من المدينة آذن ليلةً بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل، حتى جاوزت الجيش. فلما قضيت من شأني أقبلت إلى الرحل، فلمست صدري، فإذا عقد لي من جزع أظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته،فحبسني ابتغاؤه؛ وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني، فاحتملوا هودجي، فرحلوه على بعيري، وهم يحسبون أني فيه؛ وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يثقلهن اللحم؛ وإنا نأكل العلقة من الطعام؛ فلم يستنكر القوم حين رفعوه خفة الهودج، فحملوه؛ وكنتُ جارية حديثة السن؛ فبعثوا الجمل وساروا، فوجدت عقدي، بعدما استمر الجيش، فجئت منزلهم، وليس أحد منهم، فتيممت منزلي، الذي كنت فيه. وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي؛ فبينما أنا جالسة غلبتني عيناي فنمت.

وكان صفوان بن المعطل السلمي، ثم الذكواني، قد عرس وراء الجيش، فأدلج، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمَّرتُ وجهي بجلبابي؛ والله ما يكلمني بكلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه؛ وهوى حتى أناخ راحلته، فوطئ على يديها، فركبتُها، فانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش، بعدما نزلوا معرسين. قالت: فهلك في شأني مَن هلك. وكان الذي تولى كبر الإثم عبدَ الله بن أبي بن سلول؛ فقدمنا المدينة؛ فاشتكيت بها شهراً؛ والناس يُفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر. وهو يَريبني في وجعي أني لا أرى من النبي صلى الله عليه وسلم  اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل فيسلم ثم يقول: ((كيف تيكم؟)) ثم ينصرف. فذلك الذي يريبني منه، ولا أشعر بالشر حتى نقهت، فخرجت أنا وأم مسطح قِبَل المناصع - وهو متبرزنا-  وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكُنف، وأمْرُنا أمرُ العرب الأول في التبرز قِبَل الغائط. فأقبلت أنا وأم مسطح – وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق رضي اله عنه، وابنها مسطح بن أثاثة بن عبّاد بن المطلب – حين فرغنا من شأننا نمشي، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مِسطَح، فقلت لها: بئسما قلت، أتسبين رجلاً شهد بدراً؟ فقالت: يا هِنتاه ألم تسمعي ما قال؟ فقلت: وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضاً إلى مرضي. فلما رجعت إلى بيتي دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم،  فقال: ((كيف تيكم؟)) فقلت: ائذن لي أن آتي أبوِيَّ. وأنا حينئذٍ أريد أن أستيقن الخبَر من قبلهما. فأذن لي، فأتيت أبويَّ، فقلت لأمي: يا أمَّتاه ماذا يتحدث الناس به؟ فقالت: يا بنية هوني علي نفسك الشأن، فوالله لقلما كانت امرأة قَطُّ وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها. فقلت: سبحان الله! ولقد تحدث الناس بهذا؟ ثم أصبحت أبكي. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم  عليَّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد رضي الله عنهما حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله. قالت: فأما أسامة فأشار عليه بما يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه من الود لهم، فقال أسامة: هم أهلك يا رسول الله، ولا نعلم والله إلا خيراً، وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لَمْ يضيِّقِ الله عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تخبرْك. قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم  بريرة   فقال لها: أي بريرة، هل رأيت فيها شيئا يريبك؟ فقالت: لا والذي بعثك بالحق نبيا. إنْ رأيت منها أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن   فتأكله. قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم  من يومه، واستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول، فقال وهو على المنبر: ((من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلّا معي)). قالت: فقام سعد بن معاذ   رضي الله عنه فقال: يا رسول الله أنا والله أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من الخزرج أمرتنا ففعلْنا فيه أمرك، فقام سعد بن عبادة رضي الله عنه، وهو سيد الخزرج، وكان رجلاً صالحاً ولكن أخذته الحمية، فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على ذلك. فقام أسيد بن حضير رضي الله عنه، وهو ابن عم سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلّنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فثار الحيّان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم  على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا ونزل. وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، فأصبح أبواي عندي، وقد بكيت ليلتين ويوماً، أظن أنَّ البكاء فالقٌ كبدي. فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنتْ امرأة من الأنصار، فاذنتُ لها، فجلست تبكي معي. فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم  ثم جلس، ولم يجلس عندي من يوم قيل فيّ ما قيل قبلها، وقد مكث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، فتشهَّد حين جلس، ثم قال: ((أما بعد فقد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرِّئك الله تعالى، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب، تاب الله تعالى عليه)). فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم  مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه بقطرة، فقلت لأبي: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم  فيما قال، قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم  فيما قال، قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت: وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن، فقلت: إني والله أعلم أنكم سمعتم حديثاً تحدث الناسُ به، واستقر في نفوسكم، وصدقتم به.

فلئن قلت لكم إني بريئة لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر، والله يعلم أني منه بريئة لتصدقُنَّني، فوالله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا أبا يوسف إذ قال: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ  [يوسف: 18] ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة، وأن الله تعالى مبرِّئي ببراءتي، ولكن -والله- ما كنت أظن أن ينزل الله تعالى في شأني وحْياً يتلى؛ ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله تعالى فيَّ بأمر يُتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم  في النوم رؤيا يبرئني الله تعالى بها. فوالله ما رام مجلسه، ولا خرج أحد من أهل البيت، حتى أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم ، فأخذه ما كان يأخذه من البُرَحاء، فسُرِّيَ عنه، وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي: ((يا عائشة احمدي الله تعالى فإنه قد برَّأك)). فقالت لي أمي: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله تعالى، هو الذي أنزل براءتي، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ .. [النور: 11] ((العشر الآيات)). فلما أنزل الله تعالى هذا في براءتي، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه – وكان ينفق على مِسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره – والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً بعد ما قال لعائشة رضي الله عنها. فأنزل الله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ .. ) إلى قوله ( وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)النور 22]، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بلى والله لأحب أن يغفر الله لي، فرجَعَ إلى مسطح النفقة التي كان يُجري عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبداً. قالت عائشة رضي الله عنها: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم  سأل زينب بنت جحش عن أمري، فقال: ((يا زينب! ما علمت وما رأيت؟)) فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت عليها إلا خيراً، وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي  ، فعصمها الله تعالى بالورع، قالت: فطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك  .

وتعال نَعِش أخي الحبيب في ظلال هذه القصة بقلم الشهيد الأستاذ سيد قطب – فقد أجاد التعبير والفهم ، رحمه الله - إذ يقول في تفسير آياتها في سورة النور ما يلي:

وهكذا عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم  وأهل بيته، وعاش أبو بكر رضي الله عنه وأهل بيته، وعاش صفوان بن المعطل، وعاش المسلمون جميعاً هذا الشهر كله في مثل هذا الجو الخانق، وفي ظل تلك الآلام الهائلة، بسبب حديث الإفك الذي نزلت فيه هذه الآيات.

وإن الإنسان ليقف متململاً أمام هذه الصورة الفظيعة لتلك الآلام العميقة اللاذعة لشأن زوجه المقربة، وهي فتاة صغيرة في نحو السادسة عشرة، تلك السن المليئة بالحساسية المرهفة، والرفرفة الشفيفة.

فها هي ذي عائشة الطيبة الطاهرة، ها هي ذي في براءتها ووضاءة ضميرها، ونظافة تصوراتها، ها هي ذي تُرمى في أعز ما تعتز به، ترمى في شرفها، وهي ابنة الصدّيق، الناشئة في العش الطاهر الرفيع، وتُرمى في أمانتها، وهي زوج محمد بن عبد الله من ذروة بني هاشم. وترمى في وفائها، وهي الحبيبة المدللة القريبة من ذلك القلب الكبير .. ثم ترمى في إيمانها، وهي المسلمة الناشئة في حجر الإسلام، من أول يوم تفتحت عيناها فيه على الحياة، وهي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ها هي ذي تُرمى، وهي بريئة غارة غافلة، لا تحتاط لشيء، ولا تتوقع شيئاً؛ فلا تجد ما يبرئها إلا أن ترجو في جناب الله، وتترقب أن يرى رسول الله رؤيا، تبرئها مما رميت به. ولكن الوحي يتلبَّثُ لحكمة يريدها الله، شهراً كاملاً، وهي في مثل هذا العذاب.

ويا لله لها!! وهي تفاجأ بالنبأ من أم مسطح، وهي مهدودة من المرض، فتعاودها الحمى، وهي تقول لأمها في أسى: سبحان الله! وقد تحدث الناس بهذا؟ وفي رواية أخرى تسأل: وقد علم به أبي؟ فتجيب أمها: نعم! فتقول: ورسول الله  ؟ فتجيبها أمها كذلك: نعم!

ويا الله!! ورسول الله- صلى الله عليه وسلم-  نبيُّها الذي تؤمن به، ورجُلُها الذي تحبه، يقول لها: ((أما بعد، فإنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى، وإن كنت ألمَمْت بذنب فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه)).. فتعلم أنه شاك فيها، لا يستيقن من طهارتها، ولا يقضي في تهمتها. وربُّه لم يخبره بعد، ولم يكشف له عن براءتها التي تعلمُها ولكن لا تملك إثباتها؛ فتمسي وتصبح وهي تهمة في ذلك القلب الكبير الذي أحبها، وأحلّها في سويدائه!

وها هو ذا أبو بكر الصديق في وقاره وحساسيته وطيب نفسه يلذعه الألم، وهو يُرمى في عرضه، في ابنته زوج محمد صاحبه الذي يحبه ويطمئن إليه، ونبيه الذي يؤمن به ويصدقه تصديق القلب المتصل، لا يطلب دليلاً من خارجه.. وإذا الألم يفيض على لسانه، وهو الصابر المحتسب القويُّ على الألم، فيقول: والله ما رُمينا بهذا في جاهلية، أفنرضى به في الإسلام؟ وهي كلمة تحمل من المرارة ما تحمل، حتى إذا قالت له ابنته المريضة المعذبة: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال في مرارة هامدة: والله ما أدري ماذا أقول لرسول الله  .

وأم رومان زوج الصديق رضي الله عنهما، وهي تتماسك أمام ابنتها المفجوعة في كل شيء، المريضة التي تبكي حتى تظن أن البكاء فالق كبدها: يا بنية هوِّني على نفسك الشأن، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلّا أكثرن عليها .. ولكن هذا التماسك يتزايل وعائشة تقول لها: أجيبي رسول الله  ، فتقول كما قال زوجها من قبل: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم !

والرجل المسلم الطيب الطاهر المجاهد في سبيل الله صفوان بن المعطل، وهو يُرمى بخيانة نبيه في زوجه، فيُرمى بذلك في إسلامه، وفي أمانته، وفي شرفه، وفي حمِيَّته، وفي كل ما يعتز به صحابي، وهو من ذلك كله بريء، وهو يفاجأ بالاتهام الظالم، وقلبُه بريء من تصوره، فيقول: سبحان الله! والله ما كشفت كتف أنثى قط. ويعلم أن حسان بن ثابت يروِّج لهذا الإفك عنه، فلا يملك نفسه أن يضربه بالسيف ضربة تكاد تودي به، ودافعه إلى رفع سيفه على امرئ مسلم- وهو منهي عنه- أن الألم قد تجاوز طاقته، فلم يملك زمام نفسه الجريح!.

ثم ها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم  وهو رسول الله، وهو في الذروة من بني هاشم .. ها هو ذا يرمى في بيته، وفي من؟ في عائشة التي حلت من قلبه في مكان الابنة والزوج والحبيبة، وها هو يُرمى في طهارة فراشه،  وهو الطاهر الذي تفيض منه الطهارة، وها هو ذا يُرمى في صيانة حرمته، وهو القائم على الحرمات في أمته، وها هو ذا يرمى في حياطة ربه له، وهو الرسول المعصوم من كل سوء.

ها هو ذا  يُرمى في كل شيء حين يرمى في عائشة رضي الله عنها، يُرمى في كل ما يعتز به عربي، وكلِّ ما يعتز به نبي.. ها هو ذا يرمى في هذا كله؛ ويتحدث إلى الناس به في المدينة شهرا كاملا، فلا يملك أن يضع لهذا كله حدا، واللهُ يريد لحكمة يراها أن يدع هذا الأمر شهراً كاملاً لا يبين فيه بياناً. ومحمدٌ الإنسان في هذا الموقف الأليم، يعاني من العار، ويعاني فجيعة القلب؛ ويعاني فوق ذلك الوحشة المؤرقة، الوحشة من نور الله الذي اعتاد أن ينير له الطريق.. والشكُّ يعمل في قلبه مع وجود القرائن، والفِرْية تفوح في المدينة، وقلبه الإنساني المحب لزوجه الصغيرة يتعذب بالشك؛ فلا يملك أن يطرد الشك، لأنه في النهاية بشر، ينفعل في هذا انفعالات البشر، وزوج لا يطيق أن يُمس فراشه، ورجل تضخُم بذرة الشك في قلبه متى استقر، ويصعب عليه اقتلاعها دون دليل حاسم.

وها هو ذا يثقل عليه العبءُ وحده، فيبعث إلى أسامة بن زيد، حِبِّه القريب إلى قلبه .. ويبعث إلى علي بن أبي طالب، ابن عمه وسنده، يستشيرهما في خاصة أمره، فأما علي فهو من عصب محمد، وهو شديد الحساسية بالموقف لهذا السبب، ثم هو شديد الحساسية بالألم والقلق اللذين يعتصران قلب محمد، ابن عمه وكافله، فهو يشير بأن الله لم يضيق عليه، ويشير مع هذا بالتثبت من الجارية ليطمئن قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم  من الود لأهله، والتعب لخاطر الفراق، فيشير بما يعلمه من طهارة أم المؤمنين، وكذب المفترين الافاكين.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم  في لهفة الإنسان، وفي قلق الإنسان يستمد من حديث أسامة، ومن شهادة الجارية مدداً وقوة يواجه بهما القوم في المسجد، فيستعذر ممن نالوا عرضه، ورمَوا أهله، ورموا رجلاً من فضلاء المسلمين لا يعلم أحد عليه من سوء. فيقع بين الأوس والخزرج ما يقع من تناور، وهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويدل هذا على الجو الذي كان يظلل الجماعة المسلمة في هذه الفترة الغريبة، وقد خُدِشت قداسة القيادة، ويحز هذا في نفس الرسول ، والنور الذي اعتاد أن يسعفه لا ينير له الطريق! فإذا هو يذهب إلى عائشة نفسها، يصارحها بما يقول الناس؛ ويطلب منها هي البيان الشافي المريح!

وعندما تصل الآلام إلى ذروتها على هذا النحو، يتعطف عليه ربه، فيتنزل القرآنُ ببراءة عائشة الصديقة الطاهرة؛ وبراءة بيت النبوة الطيب الرفيع؛ فيكشف المنافقين الذين حاكوا هذا الإفك، ويرسم الطريق المستقيم للجماعة المسلمة في مواجهة مثل هذا الشأن العظيم.

ولقد قالت عائشة عن القرآن الذي تنزَّل: ((وأنا والله أعلم حينئذ أني بريئة، وأن الله تعالى مبرِّئي ببراءتي، ولكني والله ما كنت أظن أن يُنزِّل الله تعالى في شأني وحْياً يتلى، ولَشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأمر يُتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم  في النوم رؤيا يبرئني الله تعالى بها)).

ولكن الأمر – كما يبدو من ذلك الاستعراض – لم يكن أمرَ عائشة رضي الله عنها، ولا قاصراً على شخصها، فلقد تجاوزها إلى شخص الرسول صلى الله عليه وسلم  ووظيفته في الجماعة يومَها، بل تجاوز إلى صلته بربه ورسالته كلها، وما كان حديثُ الإفك رمية لعائشة وحدها، إنما كان رميا للعقيدة في شخص نبيها وبانيها.. من أجل ذلك أنزل الله القرآن ليفصل في القضية المبتدعة، ويردَّ المكيدة المدبرة، ويتولى المعركة الدائرة ضد الإسلام ورسول الإسلام؛ عن الحكمة العليا وراء ذلك كله؛ وما يعلمها إلا الله:

(( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) )) [النور: 11]

فهم ليسوا فرداً ولا أفراداً؛ إنما هم "عصبة" مجتمعة ذات هدف واحد، ولم يكن عبد الله بن أبي بن سلول وحده هو الذي أطلق الإفك، إنما هو الذي تولى معظمه، وهو يمثل عصبة اليهود أو المنافقين، الذين عجَزوا عن حرب الإسلام جهرة؛ فتوارَوا وراء ستار الإسلام ليكيدوا للإسلام خِفية، وكان حديثُ الإفك إحدى مكائدهم القاتلة. ثم خُدع فيها المسلمون فخاض منهم من خاض في حديث الإفك كحمنة بنت جحش؛ وحسان بن ثابت؛ ومسطح بن أثاثة. أما أصل التدبير فكان عند تلك العصبة، وعلى رأسها ابن سلول، الحذر الماكر، الذي لم يظهر بشخصه في المعركة، ولم يقل علانية ما يؤخذ به، فيقاد إلى الحد، إنما كان يهمس به بين ملئِه الذين يطمئن إليهم، ولا يشهدون عليه، وكان التدبير من المهارة والخبث بحيث أمكن أن ترجف به المدينة شهراً كاملاً، وأن تتداوله الألسنة في أطهر بيئة وأتقاها!

وقد بدأ السياق ببيان تلك الحقيقة ليكشف عن ضخامة الحادث، وعمق جذوره، وما وراءه من عصبة تكيد للإسلام والمسلمين، هذا الكيد الدقيق العظيم اللئيم.

ثم سارع بتطمين المسلمين من عاقبة هذا الكيد: (( لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ))[النور: 11]

خير .. فهو يكشف عن الكائدين للإسلام في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم  وأهل بيته، وهو يكشف للجماعة المسلمة عن ضرورة تحريم القذف، وأخذ القاذفين بالحد الذي فرضه الله؛ ويبيّن مدى الأخطار التي تحيق بالجماعة لو أطلقت فيها الألسنة تقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، فهي عندئذ لا تقف عند حد، إنما تمضي صعداً إلى أشرف المقامات، وتتطاول إلى أعلى الهامات، وتعدم الجماعة كل وقاية وكل تحرج وكل حياء.

وهو خير أن يكشف الله للجماعة المسلمة بهذه المناسبة عن المنهج القويم في مواجهة مثل هذا الأمر العظيم.

أما الآلام التي عاناها رسول الله صلى الله عليه وسلم  وأهلُ بيته والجماعة المسلمة كلها، فهي ثمن تجربة، وضريبة الابتلاء، الواجبة الأداء!.

أما الذين خاضوا في الإفك، فلكل منهم بقدر نصيبه من تلك الخطيئة: (( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ )) [النور :11]، ولكل منهم نصيبه من سوء العاقبة عند الله. ما اكتسبوا، فهو إثم يعاقبون عليه في حياتهم الدنيا وحياتهم الأخرى: (( وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ )) [النور: 11]، يناسب نصيبه من ذلك الجرم العظيم.

والذي تولى كبره، وقاد حملته، واضطلع منه بالنصيب الأوفى، كان هو عبد الله بن أبي بن سلول، رأس النفاق، وحامل لواء الكيد. وقد عرف كيف يختار مقتلاً، لولا أن الله كان من ورائه محيطاً، وكان لدينه حافظاً، ولرسوله عاصماً، وللجماعة المسلمة راعياً.. ولقد روي أنه لما مرَّ صفوان بن المعطل بهودج أم المؤمنين وابن سلول في ملأ من قومه قال: مَن هذه؟ فقالوا: عائشة رضي الله عنها .. فقال: والله ما نجت منه ولا نجا منها، وقال: امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت، ثم جاء يقودها!.

وهي قولة خبيثة راح يذيعها عن طريق عصبة النفاق بوسائل ملتوية، بلغ من خبثها أن تموج المدينة من الفرية التي لا تصدق، والتي تكذبها القرائن كلها، وأن تلوكها ألسنة المسلمين غير متحرجين، وأن تصبح موضوع أحاديثهم شهراً كاملاً، وهي الفرية الجديرة بأن تنفى وتستبعد للوهلة الأولى.

وإن الإنسان ليدهش حتى اليوم كيف أمكن أن تَروج فريةٌ ساقطة كهذه في جو الجماعة المسلمة حين ذاك، وأن تُحدِث هذه الآثارَ الخضمة في جسم الجماعة، وتسبب هذه الآلام القاسية لأطهر النفوس وأكبرها على الإطلاق.

لقد كانت معركة خاضها رسول الله صلى الله عليه وسلم  وخاضتها الجماعة المسلمة يومذاك، وخاضها الإسلام، معركة ضخمة لعلها أضخم المعارك التي خاضها رسول الله ،  وخرج منها منتصراً كاظماً لآلامه الكبار، محتفظاً بوقار نفسه وعظمة قلبه وجميل صبره، فلم تؤثَرْ عنه كلمة واحدة تدل على نفاد صبره وضعف احتماله، والآلام التي مرت به في حياته، والخطر على الإسلام من تلك الفرية من أشد الأخطار التي تعرض لها تاريخه.

ولو استشار كلُّ مسلم قلبَه يومه لأفتاه؛ ولو عاد إلى منطق الفطرة لهداه، والقرآن الكريم يوجه المسلمين إلى هذا النهج في مواجهة الأمور، بوصفه أول خطوة في الحكم عليها: (( لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) )) [النور: 12]

نعم، كان هذا هو الأولى.. أن يظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا، وأن يستبعدوا سقوط أنفسهم في ظل هذه الحمأة.. وامرأة نبيهم الطاهرة وأخوهم الصحابي المجاهد هما من أنفسهم، فظنُّ الخيرِ بهما أولى، لكن ما لا يليق بهم، لا يليق بزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يليق بصاحبه الذي لم يعلم عنه إلا خيرا .. كذلك فعل أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري وامرأته رضي الله عنهما، كما روى الإمام محمد بن إسحاق: أن أبا أيوب قالت له امرأته أم أيوب: يا أبا أيوب أتسمع ما يقول الناس في عائشة رضي الله عنها؟ قال: نعم، وذلك الكذب، أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله. قال: فعائشة والله خير منك ..

ونقل الإمام محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره: "الكشاف" أن أبا أيوب الأنصاري قال لأم أيوب: ألا ترين ما يقال؟ فقالت: لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم  سوءاً؟ قال: لا، قالت: ولو كنت أنا بدل عائشة رضي الله عنها ما خنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعائشة خير مني، وصفوانٌ خير منك..

وكلتا الروايتين تدلان على أن بعض المسلمين رجع إلى نفسه واستفتى قلبه، فاستبعد أن يقع ما نسب إلى عائشة، وما نسب إلى رجل من المسلمين: من معصية لله وخيانة لرسوله ، وارتكاس في حمأة الفاحشة، لمجرد شبهة لا تقف للمناقشة!

هذه هي الخطوة الأولى في المنهج الذي يفرضه القرآن لمواجهة الأمور، خطوة الدليل الباطني الوجداني.

فأما الخطوة الثانية فهي طلب الدليل الخارجي والبرهان الواقعي: (( لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) )) [النور: 13]، وهذه الفرية الضخمة التي تتناول أعلى المقامات، وأطهرَ الأعراض، ما كان ينبغي أن تمر هكذا سهلة هينة، وأن تشيع هكذا دون تثبت ولا بيِّنة؛ وأن تتقاذفها الألسنة وتلوكَها الأفواه دون شاهد ولا دليل: (( لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ))! وهم لم يفعلوا، فهم كاذبون إذن، كاذبون عند الله الذي لا يبدَّل القولُ لديه، والذي لا يتغير حكمه، ولا يتبدل قراره، فهي الوصمة الثابتة الصادقة الدائمة التي لا براءة لهم منها، ولا نجاة لهم من عقابها.

هاتان الخطوتان: خطوة عرض الأمر على القلب واستفتاء الضمير، وخطوة التثبت بالبينة والدليل.. غفَل عنهما المؤمنون في حادث الإفك، وتركوا الخائضين يخوضون في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم  وهو أمر عظيم، لولا لطف الله لَمَسَّ الجماعة كلها البلاءُ العظيم، فالله يحذرهم أن يعودوا لمثله أبدا بعد هذا الدرس الأليم: (( لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) )) [النور: 13].

لقد احتسبها الله للجماعة المسلمة الناشئة درساً قاسياً، فأدركهم بفضله ورحمته ولم يمسهم بعقابه وعذابه، فهي فعلة تستحق العذاب العظيم، الذي يتناسب مع العذاب الذي سبَّبوه للرسول صلى الله عليه وسلم  وزوجه وصديقه وصاحبه الذي لا يعلم عنه إلا خيراً، والعذابِ الذي يتناسب مع الشر الذي ذاع في الجماعة المسلمة وشاع، ومس كل المقدسات التي تقوم عليها حياة الجامعة، والعذابِ الذي يناسب خبث الكيد الذي كادته عصبة المنافقين للعقيدة لتقتلعها من جذورها حين تُزلزل ثقة المؤمنين بربهم ونبيهم وأنفسهم طوال شهر كامل، حافلٍ بالقلق والقلقلة والحَيرة بلا يقين! ولكنَّ فضل الله تدارك الجماعة الناشئة، ورحمتَه شمِلت المخطئين، بعد الدرس الأليم.

والقرآن يرسم صورة لتلك الفترة التي أفلت فيها الزمام؛ واختلت فيها المقايسس، واضطربت فيه القيم، وضاعت فيها الأصول: (( إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) )) [النور: 15]، وهي صورة فيها الخفة والاستهتار وقلة التحرج، وتتناول أعظم الأمور وأخطرها بلا مبالاة ولا اهتمام: (( إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ )) لسان يتلقى عن لسان، بلا تدبر ولا فحص ولا إمعان نظر، حتى لكأن القول لا يمر على الآذان، ولا تتملاه الرؤوس، ولا تتدبره القلوب! (( وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ )) .. بأفواهكم لا بوَعيِكم ولا بقلبكم، إنما هي كلمات تقذف بها أفواه، قبل أن تستقر في المدارك، وقبل أن تتلقاه العقول.. (( وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا )) أن تقذفوا عرض رسول الله  ، وتدَعوا الألم يعتصر قلبه وقلب زوجه وأهله؛ وأن تلوِّثوا بيت الصديق الذي لم يُرْمَ في الجاهلية، وأن تتهموا صحابيا مجاهدا في سبيل الله، وأن تمسوا عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم  وصلته بربه، ورعاية الله له .. (( وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا ..  وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ )) .. وما يعظم عند الله إلا الجليلُ الضخم الذي تَزلزَلُ له الرواسي، وتضِج منه الأرض والسماء.

ولقد كان ينبغي أن تجفل القلوب من مجرد سماعه، من مجرد النطق به، وأن تنكر أن يكون هذا موضعاً للحديث؛ وأن تتوجه إلى الله تنزهه عن أن يدع نبيه لمثل هذا، وأن تقذف بهذا الإفك بعيداً عن ذلك الجو الطاهر الكريم: (( وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ )) [النور: 16].

وعندما تصل هذه اللمسة إلى أعماق القلوب فتهزُّها هزاً؛ وهي تطلعها على ضخامة ما جنت وبشاعة ما عملت .. عندئذٍ يجيء التحذير من العودة إلى مثل هذا الأمر العظيم: (( يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) )) [النور: 17]، (( يَعِظُكُمَ )) في أسلوب التربية المؤثر، في أنسب الظروف للسمع والطاعة والاعتبار، مع تضمين اللفظ معنى التحذير من العودة إلى مثل ما كان، (( يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا ))، ومع تعليق إيمانهم على الانتفاع بتلك العظة: (( إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ))، فالمؤمنون لا يمكن أن يكشف لهم عن بشاعة عمل كهذا الكشف، وأن يحذروا منه مثل هذا التحذير، ثم يعودوا إليه وهم مؤمنون، (( وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ )) على مثال ما بين في حديث الإفك، وكشف عما وراءه من كيد؛ وما وقع فيه من خطايا وأخطاء، (( وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )) يعلم البواعث والنوايا والغايات والأهداف، ويعلم مداخل القلوب، ومسارب النفوس، وهو حكيم في علاجها، وتدبير أمرها، ووضْعِ النُّظُم والحدود التي تصلح بها.

ثم يمضي في التعقيب على حديث الإفك؛ وما تخلَّفَ عنه من آثار؛ مكرراً التحذير من مثله، مذكراً بفضل الله ورحمته، متوعداً من يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات بعذاب الله في الآخرة. ذلك مع تنقية النفوس من آثار المعركة؛ وإطلاقها من ملابسات الأرض، وإعادة الصفاء إليها والإشراق، كما تتمثل في موقف أبي بكر رضي الله عنه من قريبه مسطح بن أثاثة الذي خاض في حديث الإفك مع من خاض: (( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) )) [النور: 19].

والذين يرمون المحصنات – وبخاصة أولئك الذين تجرأوا على رمي بيت النبوة الكريم – إنما يعملون على زعزعة ثقة الجماعة المؤمنة بالخير والعفة والنظافة؛ وعلى إزالة التحرج من ارتكاب الفاحشة، وذلك عن طريق الإيحاء بأن الفاحشة شائعة فيها، بذلك تشيع الفاحشة في النفوس، لتشيع بعد ذلك في الواقع.

من أجل هذا وصف الذين يرمون المحصنات بأنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وتوعدهم بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة.

وذلك جانبٌ من منهج التربية، وإجراءٌ من إجراءات الوقاية، يقوم على خبرةٍ بالنفس البشرية، ومعرفة بطريقة تُكيِّفُ مشاعرها واتجاهاتها، ومن ثم يعقب بقوله: (( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ))، ومن ذا الذي يعلم أمر هذه النفس إلا الذي خلقها؟ ومن ذا الذي يدبر أمر هذه الإنسانية إلا الذي برأها؟ ومن ذا الذي يرى الظاهر والباطن، ولا يخفى على علمه شيء إلا العليم الخبير؟

ومرة أخرى يذكر المؤمنين بفضل الله عليه ورحمته: (( وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20 )) [النور: 20].

إن الحدث لعظيم، وإن الخطأ لجسيم، وإن الشر الكامن فيه لخليق أن يصيب الجماعة المسلمة كلها بالسوء. ولكن فضل الله ورحمته، ورأفته ورعايته، ذلك ما وقاهم السوء، ومن ثَمَّ يذكرها به المرة بعد المرة؛ وهو يربيهم بهذه التجربة الضخمة التي شملت حياة المسلمين.

فإذا تمثلوا أن ذلك الشر العظيم كان وشيكاً أن يصيبهم جميعاً، لولا فضل الله ورحمته، صور لهم عملهم بأنه اتباع لخطوات الشيطان، وما كان لهم أن يتبعوا خطوات عدوهم وعدو أبيهم من قديم، وحذرهم ما يقودهم الشيطان إليه من مثل هذا الشر المستطير: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) )) [النور: 21].

وإنها لصورة مستنكرة أن يخطو الشيطان فيتبعَ المؤمنون خُطاه، وهم أجدر الناس أن ينفروا من الشيطان وأن يسلكوا طريقاً غير طريقه المشؤوم! صورة مستنكرة ينفر منها طبع المؤمن، ويرتجف لها وجدانه، ويقشعر لها خياله! ورسم هذه الصورة ومواجهة المؤمنين بها يثير في أنفسهم اليقظة والحذر والحساسية: (( وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ))، وحديث الإفك نموذج من هذا المنكر الذي قاد إليه المؤمنين الذين خاضوا فيه، وهو نموذج منفر شنيع.

وإن الإنسان لضعيف، مُعرَّض للنزعات، عرضة للتلوث، إلا أن يدركه فضلُ الله ورحمته، حين يتجه إلى الله، ويسير على نهجه: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) )) [النور: 21].

فنور الله الذي يشرق في القلب يُطهِّره ويزكيه، ولولا فضل الله ورحمته لم يزكُ من أحد ولم يتطهر، والله يسمع ويعلم، فيزكي من يستحق التزكية، ويطهر من يعلم فيه الخير والاستعداد (( وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )) .

وعلى ذكر الدعوة والطهارة تجيء الدعوة إلى الصفح والمغفرة بين بعض المؤمنين وبعض – كما يرجون غفرانَ الله لما يرتكبونه من أخطاءٍ وذنوب - : (( وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22 )) [النور: 22].

نزلت في أبي بكر رضي الله عنه بعد نزول القرآن ببراءة الصديقة، وقد عرف أن مسطح بن أثاثة كان ممن خاضوا فيه؛ قريبَه، وهو من فقراء المهاجرين، وكان أبو بكر ينفق عليه، فآلى على نفسه لا ينفع مسطحاً بنافعة أبداً.

نزلت هذه الآية تذكِّر أبا بكر، وتذكر المؤمنين، بأنهم يُخطؤون ثم يحبون من الله أن يغفر لهم، فليأخذوا أنفسهم بعضَهم مع بعض بهذا الذي يحبونه، ولا يحلفوا أن يمنعوا البِّرَّعن مستحقيه، إن كانوا قد أخطأوا وأساءوا.

وهنا نطَّلعُ على أفق عال من آفاق النفوس الزكية، التي تطهرت بنور الله، أفقٍ يشرق في نفس أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أبي بكر الذي مسّه حديث الإفك في أعماق قلبه، والذي احتمل مرارة الاتهام لبيته وعرضه، فما كاد يسمع دعوة ربه إلى العفو؛ وما يكاد يلمس وجدانه ذلك السؤال الموحي:  أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْحتى يرتفع على الآلام، ويرتفع على مشاعر الإنسان، ويرتفع على مناطق البيئة، وحتى تشِفَّ روحه وترف وتشرق بنور الله، في طمأنينة وصدق يقول: بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي. ويعيد إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، ويحلف: والله لا أنزعها منه أبدا، ذلك في مقابل ما حلف: والله لا أنفعه بنافعة أبداً.

بذلك يمسح الله على آلام ذلك القلب الكبير، ويغسله من أوضار المعركة، ليبقى أبداً نظيفاً طاهراً زكياً مشرقاً بالنور.

ذلك الغفران الذي يُذكر الله المؤمنين به، إنما هو لِمَن تاب عن خطيئة رمْيِ المحصنات وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، فأما الذين يرمون المحصنات عن خبث وعن إصرار، كأمثال ابن أبيّ فلا سماحة ولا عفو، ولو أفلتوا من الحد في الدنيا، لأن الشهود لم يشهدوا، فإن عذاب الله ينتظرهم في الآخرة، ويومذاك لن يحتاج الأمر إلى شهود: (( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) )) [النور: 23 – 25]

ويجسِّم التعبيرُ جريمة هؤلاء ويبشِّعُها؛ وهو يصورها رمياً للمحصنات المؤمنات، وهن غافلات غارّات، غير آخذات حذرهن من الرمْية، وهن بريئات الطوايا مطمئنات لا يحذرن شيئاً، لأنهم لم يأتين شيئاً يحذرنه! فهي جريمة تتمثل فيها البشاعة كما تتمثل فيها الخسة، ومن ثم يعاجل مقترفيها باللعنة. لعنة الله عليهم، وطردهم من رحمته في الدنيا والآخرة، ثم يرسم ذلك المشهد الأخاذ: (( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ ))، فإذا بعضهم يتهم بعضاً بالحق، إذ كانوا يتهمون المحصنات الغافلات المؤمنات بالإفك! وهي مقابلة في المشهد مؤثرة، على طريقة التناسق الفني في التصوير القرآني.

(( يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ ))، ويجزيهم العدل، ويؤدي لهم حسابهم الدقيق، ويومئذ يستيقنون مما كانوا يستريبون (( وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ )).

ويختم الحديث عن حادثة الإفك ببيان عدل الله في اختياره الذي ركَّبه في الفطرة، وحققه في واقع الناس، وهو أن تلتئم النفس الخبيثة بالنفس الخبيثة، وأن تمتزج النفس الطيبة بالنفس الطيبة، وعلى هذا تقوم العلاقات بين الأزواج، وما كان يمكن أن تكون عائشة رضي الله عنها كما رموها، وهي مقسومة لأطيب نفس على ظهر هذه الأرض: (( الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) )) [النور: 26].

ولقد أحبت نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم  عائشة حبا عظيما، فما كان يمكن أن يحببها الله لنبيه المعصوم، إن لم تكن طاهرة، هذا الحب العظيم

أولئك الطيبون والطيبات (( مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ )) بفطرتهم وطبيعتهم، لا يلتبس بهم شيء مما قيل: (( لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ))، مغفرة عما يقع مهم من أخطاء، ورزق كريم، دلالة على كرامتهم عن ربهم الكريم.