يا حَسْرَةً عليهِ.. وأَيُّ زيتٍ؟!

لم يبلغني صوتُه..

لم أسمعه..

فتحاورنا حوار « الطرشان » كانت شيخوختي قد أكلتْ من سمعي كثيراً، وكان الذُّلُّ قد بَدَّدَ ارتفاعَ صوته..

استعْدتُه ما قال- بعدما أزعجني جرسُ الباب على غير ميعاد أتوقعه- وأنا أخافُ هذه المفاجآت غير المحسوبة..

فتحتُ الزُّجاج.. زُجاج نافذة مكتبتي في الطابق العُلوي، بعدما رأيت هَيْـئَـةَ غريبٍ لا أعرفه، فلما لم أتبينْ حروفَهُ أزحتُ الشبك، ودليتُ رأسي وجِذْعي أكثر، وطالبّتُه برفعٍ صوته..

بالإشارة فهمتُ ماذا يريدُ..

نزلتُ..

فتحتُ الباب..

شاب رَثّ الهيئة، أسمر شديد السُّمرة، زاده الذُّلُّ وضاعةً.. قال بالصوت الخفيضِ نفسِهِ.

-           تسمح لي أن أجمع حبات الزيتون من تحت الشجرة؟

-           جاءت نسوةٌ قبلك، منذ شهرين ـ في تشرين الثاني ـ وجمعنَهُ كُلَّهُ..

-           لكن هناك حبات باقيات..

استحييتُ أَنْ أرفض، مع أني أخاف من هؤلاء، وأحسب أنهم طلائعُ عصابة يستكشفون مداخل البيوت ومخارجها، ويلتقطون من الأرض كل ما تركه أصحاب البيت فيها، شاعرين بالأمان!!، أَوْ لم يخطرْ ببالهم أَنْ يَنْحَدِرَ إلى هذا الهوان إنسان، فيسرق من الأرض

« منكاشاً » أو « مطرقة » أو « وَتَدَاً من حديد »، فكل ما يلقاه في غفلة من أهل الدار عنده مفيد.

جلستُ أراقبه على درجة من درجات مدخل البيت، ولا يغيبُ عن عينيَّ.. لكنه غاب إلى الشارع حيث مدخل العقار، فعاد بكيس كبير و« تنكة » زيت فارغة التقطها من جوار حاوية زبالة.

هَزَّ الشجرة.. تساقطت حبات كثيرة ادخرها الله له، وأعمى أعين الأخريات عنها، أو لعلها لم تكن نضجت بعد، فاستمسكت بفروعها مقاومةً الهز، الحبات في كانون الثاني قد اسودت بما فيه الكفاية، الكفاية التي ليس بعدها مزيد.

أَخَذَ يلتقطُ الحبات من بين الصخور، وباقي بَلاَط مَهْجُورٍ كَوَّمْنَاهُ هناك للحاجة، ويُلقي بها على ساحة اسمنتية، فلمَّا تَـيَـقَّنَ أنه جمع كُلَّ ما يقدرُ عليه أخذ يرميه بعيداً فوق مثيلاتها من الحبات، ثم عند السياج، وقَرْفَصَ يكنس الحبات بيدين عاريتين، فلما جمعها كَوْمَةً في زاوية، غَرَفَهَا إلى كيس بلاستك أسود صغير..

قَدَّرْتُ حجم الكمية التي جمعها بثلاثة كيلوات لا أكثر .. الْتَمَظْتُ بشفتيَّ حسرةً عليه.. أو تعجباً واستغراباً لقلةِ حيلته، وضياع عُمره بذهاب وقته وعمره بلا ثمن يكافئ هذا الجهد المضيع.

كنتُ عندما أختلف مع المقاول الذي يُنجز لي عملاً لِتَأَخُّرِهِ في إتمام عمله حسب العقد المبرم- يكذبُ وَيَعْتَلُّ بقلة العمال- والخوف من الترحيل، فَحَمَلاتِ القبض على العمالة الوافدة على أشدها، وهم يقعدون لهم كل مرصد، ومن لم يحمل تصريحاً سيق إلى السجن، ومن ثمَّ الترحيل..

الأيدي العاملة الوافدة رخيصة الأجر، قلت له: كم؟ قال: فوق العشرين!!

قلت: وابن البلد؟!

قال: هوه.. لا تُرضيه الخمسة والعشرون!!

قلت: وهؤلاء المشدودون إلى أرصفة الدوارات والإشارات في أماكن باتت معروفة لتجمعهم؟!

قال: وهؤلاء مهددون وخائفون!!

قلت: ومع ذلك كل يوم نسمع أنه رَسَى عليك عطاءٌ.. وعطاءٌ.. حتى أصبح عندك إحدى عشرة ورشة في وقت واحد!!

وضحكتُ مَرارَةً..

قلتُ في نفسي: العامل مطلوب، حتى غير الفَنِّي منهم، مجرد احمل، ضع، انقل، هات... يأخذ خمسة وعشرين ديناراً في اليوم، وغداؤه وشايه على رب العمل، ويبيت محمود السيرة.. كَالاًّ من عمل يده حتى يحظى بدرجة المحبوبية من الله تعالى.. ما الذي يدفع شاباً إلى الهوان بتسول حباتِ زيتونِ مُلقاةً أو منسية، أو مغفولاً عنها... ويترك عملاً مُدِرّاً فيه كثرة المال وعزة النفس!!

قال لي موسى النملة-رحمه الله- أحد زملائي سابقاً: أتعرفُ عباس يَزْدِي؟

قلت: من عباس يزدي هذا؟

قال: الإيراني صاحب الدكان الكبير في سوق واقف( )، الذي على يمينك إذا دخلت السوق قبل شبرة اللحم، خلف شركة الدرويش.

قلت: أعرفه.. هذا رجل غني.. ما شاء الله.. دائم الابتسام.. موفق في عمله ودكانه لا يكاد يخلو من الزبائن طوال النهار، مع أنه ما يزال يُجري حساباتِهِ على كُرات خشبية ملونة، ينتظمها سلكٌ في بروازٍ، ينقل الكرات من هنا إلى هنا، ويقول لك المطلوب منك كذا!!

ضحك موسى النملة وقال: هذا الرجل جئتُ أنا وإياه إلى الدوحة في وقت متقارب، أنا من غزة، وهو من إيران، أنا أفندي.. أستاذ.. « بكرفتة » وبدلة « شيك »، وهو بملابس عادية بل رَثَّةٍ، أنا عملت في وزارة المعارف( ) آنذاك براتب.. واحترام.. ونفخة الأستاذية، وهو يُبَسِّطُ على الأرض بصندوق فاكهة واحد، يبيع بالدَّرْزَنْ( )، فإذا نفد ما في الصندوق؛ عاد فاشترى غيره، وجاء ليتمركز في المكان نفسه... وهكذا طوال اليوم.. ثم تحول إلى بائع بصل جاف على عربة يدفعها أمامه، ولها مظلة..

أنا ماذا جنيتُ بعد عشرين سنة؟! وهو كيف أصبح؟! أنا ما زلت بالبدلة « الشيك » والكرافتة « الهاي » وجيوب خاوية، نبحث عن درس خصوصي هنا أو هناك، فأوضاع الأهل في البلاد لا تسر، وفوق هذا وذاك أنت مُهَدَّدٌ بالتسفير والترحيل... أما عباس؛ فأصبح تاجراً غنياً وعنده محل عدة أبواب، ومجموعة من العاملين تحت إِمْرَتِهِ.. واللهِ- ومالك عليَّ يمين- كنتُ أراه، وغداؤه كوب من الشاي ورغيف خبز تنوري، يغمس اللقمة في الشاي ماله خِلَط!!

دَعَكَ من هذا، فالحسرةُ والنَّدَمُ لا يُفيدان، وقد قيل: « تسعةُ أعشار الرزق في التجارة »، ألم يَقُلْ الوليُّ الصالح المصري الولادة والوفاة: « اجعل الوظيفة أضيق أبواب الرزق، وزج بنفسك في الأعمال الحُرة، مهما كانت خبرتك فيها » من أخذ بهذه الوصية تقدم وتطور وحَسُنَ حاله، ومن أدار لها ظهره بقي عند سفوح الجبال تفوح منه رائحة الحسد وكراهية الناجحين!!

أعرفه جيداً كما أَعْرِف نفسي، وأعرف جارَهُ كذلك، فقد كانا من مشرب واحد، أما الأول؛ فكان واسع الحيلة، يطبق أصلح ما يقرأ على نفسه، ومن أولى بالخير من نفسه، فَتَخَلَّقَ بأخلاق العلماء، وتزود بسيرة الفضلاء، وسهر إذ نام الآخرون، وتعب إذ استراح الكُسالى والمفتونون.. ارتقى في العلم.. ارتقي في السلوك.. أخذ يتميز عن أقرانه، فتميز أصدقاؤه ومعارفه تبعاً لنهجه الجديد، لكنه بقي من حيث المال فقيرَ الحالِ، قالوا في الأمثال: « الفقير أذكى من الغني لأن الفقير يحتال لرزقه فتتوسع مداركه، والغني استنام لرغد العيش الآتية بغير كَدٍّ ولا تعب- وربما وراثة- فلا هو في حاجة للمزيد، ولا في حاجة للتفكير ».. تَحَيْرَّتُ في هذا المثل كثيراً.

صاحبنا الأول إياه، أخذ بنصيحة شيخه، فأخذ يقذف نفسَهُ في كل مجال يواتيه، ويغلب على ظنه أنه سينجح فيه، ويتسلح لذلك بالمعرفة، ولا يَهابُ من السؤال طلباً لها، ولو حتى إن كان الجواب عند مَنْ هم في أسنان أبنائه، فهذا لا يُنْقِصُ من قدره.. ولا يبخل على نفسه بشراء الكتب التي تحمل تجارب الآخرين فيقرأ، حتى إذا ظن أنه امتلأ معرفةً بهذا الطريق رمى نفسه في لُـجَّـتِـهِ غير هيَّاب.. يسبح سباحة الغَشِيمِ.. لا بأس، يسقط مرة.. لا بأس، يخسر مرة.. لا بأس، لكنه في كل مرة يخسر أو يسقط أو يتعثر.. يتعلم، مَنْ قال إنَّ العلمَ لا يكون إلا بالنجاح، الفشلُ في حد ذاته عِلْمٌ.. وتجربة.. تُحترم، فإذا قام مِن كبواته أفلحتْ صباحاتُه، وإذا به بعد سنين صاحب خبرة في هذا الطريق يُحسب لها حسابها، ويستشيره مَنْ كان بالأمس يظن نفسه أَعْلَمَ منه، وجاء التوفيق..

حصد التوفيق في أكثر من مجال، وتَطَلَّعَتْ إليه الأعين، وارتفعت نحوه الرؤوس، حتى قال رجل لطفله عندما قال له: عمي أبو فلان عمل كذا وكذا - مما كان يُتَصَوَّرُ ألا يقدر عليه منهم أحد- قال: يا بني؛ وأي شيء لا يُـحْسِنُـهُ عمُّك أبو فلان؟

فالتفت إلى هذا النقد الذي جَلَّى جانباً منه لم يكن يُدركه أو يلتفتُ إليه. 

أما الثاني، فقد شغل نفسه بنقل الأخبار، يُثْلِجُ صدره معرفة الأسرار، فيطير فرحاً لنقلها يميناً وشِمَالاً « وكالةُ أنباء متحركة » ويضحك الأخرون لأخباره، فيزداد إِيغَالاً في الطريق نفسه، ولا تدري يضحكون له أم منه أم عليه، فالأمر في النهاية سِيَّان.

بعد سنين التفتَ حوله فإذا الناجحون الصاعدون قد تجاوزوه بمراحل يصعب عليه التفكير في مجرد عد درجاتها، فاسْتَـمَالَهُ طَبْعُهُ من نقل الأخبار إلى اختلاقها، ومن البحث عن الأسرار إلى مصادقة الأشرار الذين يُطربهم هجومه على الآخرين، ففي قلب كل واحد منهم حقد على ناجحٍ خَلَّفَهُ خَلْفَهُ.

السلوكيات التي لا تقيم لها وزناً في مَيْعَةِ الصِّبَا وريعان الشباب هي مؤشرات صادقات على خُلُقٍ متأصل، وطبع متمكن في الشخصية، فلا تدعها تمر بك مَرَّ السحاب، لا تُلقي لها بالاً.. أجمعها.. اقرنها.. تفكر فيها، ثم اختر صديقك، إذا رأيت صديقك الحميم لا يرى في نجاحاتك إلا الجانب المظلم فانتبه!!

سيأتيك بلباس المحب المشفق- وأنت ستؤيده بحسن استماعك له- فيقول لك: أنت أخطأت هنا.. وهنا.. ثم يثني عليك بإجمال.

الثناءُ مادةٌ لزجة لسهولة تمرير التحطيم في نفسك بلبوس الناصح المحب، وهو غير ذلك.

بعد أربعين سنة- إِنْ عِشْتَهَا- ستكون أنت قد بلغت شأواً عظيماً يصعب على مثله الوصول إليه.. يُصيبه اليأس.. فَيُسْفِرُ عن وجهه الحقيقي الذي أخفاه سنين، وإذا به الحقد الدفين.

خذ هذا النموذج، وقس عليه كل شخص يسلك معك الطريق نفسه، سيصل بك إلى منتهاه، فإذا الأواخر متشابهات، قد يُسَرِّعُهَا ظرفٌ ما مساعد، وقد يُبَطِّيءُ ظهورها عنصرٌ وافِدٌ، لكن النهاية شيء واحد.. فانتبه، حتى لو كان الناقد أخوك الشقيق، ارجع إلى الوراء.. منذ أن كنتما طفلين صغيرين.. وتذَكَّرْ.. اجمع القرين إلى قرينه.. واستخلص العِبر، ستجد المنحنى واحداً، وأخوةٌ يوسف ليسوا عنا ببعيد، فهل تريد مني المزيد؟!!

يا ترى!!

ما جمعه الرجل من حبات الزيتون اليوم..

كم ستعصر له من زيت؟!

وأي زيت؟! *

 

([2]) أصبح اسمها وزارة التربية والتعليم.

([3]) الدّزِّينَـةُ بلهجة أهل الشام، والدَّسْتَـةُ بلهجة أهل مصر.

وسوم: العدد 699