من ذكريات الطفولة

عندما كنتُ في الصفّ الرابع، كنتُ طالبًا مجدًّا ومجتهدًا، واستطعت بتميزي أن أكسب ودّ معلميّ، وكان معنا في الصفّ طالبٌ كسولٌ جدًّا اسمُه "عطية". وذات درس في اللغة، كتب المعلمُ جملةً على السبّورة، ووضع خطًّا تحت بعض الكلمات وطلب منا إعرابَها، وكان من عادته أن يتجول في الصفّ أثناء الدرس، فمرّ بقرب أحمد وسأله عن إعراب كلمةٍ، فأجاب، ومرّ بقربي وسألني فأجبتُ مفصّلًا، فصفقَ لي الأستاذ فالطلاب، وأخذني الزهو بعيدًا، وتابع المعلم أسئلته، وعندما وصل عند عطيّة، سأله سؤالًا فأجاب عطية إجابةً بعيدةً حدّ الإضحاك، فضحك الطلاب الذين يعرفون ومضى على آثارهم الذين لا يعرفون، وكنت أنا أعلاهم ضحكًا وأشدهم سخرية، وبدا لي أن المعلمَ قد لاحظ هذا، وشعرتُ أنه غضب مما حدث، ورأيته يقترب مني، فوجب قلبي، وغلب على ظني أنه سيوبّخني أو أنه، ربّما، سيضربني، ولكنه اقترب مني، واكتفى بنظرةٍ قاسيةٍ أحرجَتني وأخرسَتني إلى آخر الدرس، وعندما خرجنا لحقتُ معلمّي أعتذر منه عمّا بدر مني، ولا أريد إلا أن أعود إلى المكان الذي أسقطني منه غروري، فسمع المعلم اعتذاري، وربّتَ على كتفي متوددًا، وقال لي: لا بأس، يا محمد، ولكن أخبرني بصدق، أحقًا تظن أنك خيرٌ من "عطيّة"؟ قلتُ: بصراحة، يا أستاذ، نعم. أنا خيرٌ منه، ولمَ لا؟ فأنا مجتهد وهو كسول، وأنا محبوبٌ وهو ممقوت، وأنا وأنا وأنا.. ثم إن أبي معلمٌ وأبوه آذن (مستخدم)، ألا يعني كلّ هذا أنني خيرٌ منه. تبسّم المعلم هازئًا وقال: قد يكون ما ذكرته صحيحًا ولكنّ هذا، يا محمد، لا يجعلك خيرًا من أحد. والآن، فكّرْ جيدًا وأجبني، ماذا لو كان أبو عطيةَ أباك، وكانت أمُّه أمَّك، وجيرانُه جيرانَك، ورفاقُه رفاقَك، أتراك ستكون خيرًا منه؟! لا، يا محمد. صدقني، لن تكون أفضل منه، ستكون مثله تمامًا، ولو كان هو في مكانك وظروفك لكان مثلك. أنت لم تختر أهلك، وهو لم يختر أهله، يا بني، لا تقل "أنا خير منه" فإنما هذا منهج إبليس. لا ينبغي لك أن تقول عن نفسك إنك خيرٌ من أحد، دعِ الآخرين يقولوها.

من كتابي "عفا الله عمّا سلف"

"معلمي الغالي، كلّ عام وأنت بخير، وأنا مدين لك بهذا الدرس الخالد، لقد علمتني أن أكون إنسانا في خمس دقائق"

وسوم: العدد 712